إن عملية السلام المزعومة بين كيان الاحتلال الإسرائيلي والجانب الفلسطيني، أصبحت في حكم الموت الإكلينكي، هو موت سريري أدركه كافة الأطراف إلا الجانب العربي الذي لا يزال يسعى وراء سلام يصر على أن يكون برعاية أميركية، وهي رعاية فقدت مصداقيتها منذ زمن. وعبثًا يحاول الجانب العربي ومن ورائه الجانب الفلسطيني الرسمي بحثًا عن سلام يبنى على أقل الحقوق العربية والفلسطينية، إلا أن هذه الرغبة تصطدم دائمًا بإصرار الكيان الغاصب على فرض أمر واقع، عبر طرق مبتكر للمناورة، وبمزاعم تستند إلى واقع عربي مؤلم ترك القضية الفلسطينية في مهب الريح تعصف بها يد باطشة إرهابية تبتلع حقوقها يومًا بعد يوم، خصوصًا في وضع فلسطيني مأزوم بغياب استراتيجية موحدة للمقاومة، يحول بين التوافق الفلسطيني حولها انقسام يتسع، خاصة وأن أطرافًا في المنطقة تسعى لاستجلاب قيادات فلسطينية هاربة ليس لها موطئ قدم فلسطينيًّا غير علاقاتها المشبوهة بكيان الاحتلال الإسرائيلي الغاصب.
لعل تصريحات بنيامين نتنياهو رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي الأخيرة حول رفضه المشاركة في الاجتماع الذي تسعى روسيا إلى عقده بمشاركته مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في موسكو، تزيل الغشاوة عن طالبي الاستسلام في صيغة سلام، فنتنياهو ومن ورائه حكومته الأكثر تطرفًا وإرهابًا في تاريخ الكيان تعي أن وجود عنصر راعٍ للسلام غير حليفته واشنطن قد يجبره على تقديم حقوق عربية مغتصبة يراها انتقاصًا من مكتسبات أخذها مع الصمت والخنوع والضعف العربي، والتواطؤ الدولي؛ لذا فتصريحات نتنياهو حول مقدرته على الجلوس مع الرئيس عباس وحدهما وحل القضايا العالقة، ما هو إلا تسويف ورفض لإدخال رعاة غير الأميركيين، وحديثه عن عدم استباق المحادثات بشروط، يسبقه دومًا حديث واضح لا لبس فيه عن رغبة كيانه في "دولة يهودية"، لا ضرر مؤقتًا أن تحوي أطرافًا غير يهود (عرب 48)، وهي تصريحات تمثل صفعة جديدة للجهود الدولية والعربية التي بذلت لعقد قمة بين عباس ونتنياهو في العاصمة الروسية موسكو برعاية الرئيس فلاديمير بوتين.
وهذا الرفض لن يكون الأخير، حيث تحدثت مصادر فلسطينية عن رفض كيان الاحتلال الإسرائيلي لعقد اجتماع مماثل بين عباس ونتنياهو في إطار التمهيد والتوطئة للقاء قمة محتمل في القاهرة بين الرئيس أبو مازن ونتنياهو، وهو ما قابله الأخير ببيان يؤكد أنه لا جدوى في عقد اجتماعات تمهيدية على مستويات عمل إسرائيلية فلسطينية، زاعمًا أن الجانب الفلسطيني يستغل هذه الاجتماعات لوضع شروط مسبقة لا تجدي نفعًا لعقد مثل هذا اللقاء. وحتى لا نفقد ذاكرتنا كالعادة العربية، فنتنياهو قد رفض منذ عدة شهور المشروع الفرنسي لعقد مؤتمر دولي لإعادة إحياء عملية السلام مع الفلسطينيين، واقترح بدلًا من ذلك لقاء الرئيس الفلسطيني محمود عباس في باريس، وهو لقاء يرفضه الآن، سواء في موسكو أو تمهيدًا لمبادرة القاهرة، كعادة إسرائيلية تجيد اللعب بالوقت الذي يراه كيان الاحتلال دائمًا في صالحه خصوصًا مع طارئ جديد ألمَّ بالعقل الجمعي العربي، وهو غياب قوة تنويرية تشرح للشباب حتمية استرجاع الحقوق الفلسطينية كاملة، لما يمثله الكيان الإسرائيلي الغاصب من خطر على قدرة العقل الجمعي العربي من الاستمرار، والسعي المرتبط بامبريالية عالمية لاستبداله بعقول جمعية تقوم على حدود سايكس بيكو.
ألم يئن للعرب أن يعوا أن حديث نتنياهو الدائم عن ما يسمى "يهودية الدولة" وتعهده الواضح لمتطرفيه بإبقاء القدس عاصمة أبدية وموحدة لـ(اليهود) فقط، ينتهك كافة الأعراف والمواثيق والقرارات الدولية، وينسف أي حديث عن وجود فرص للسلام الشامل والعادل مع الفلسطينيين والعرب، خصوصًا في ظل مجتمع دولي صامت بعضه، ومتواطئ بعضه الآخر يرفض التدخل للضغط على كيان الاحتلال الإسرائيلي وإلزامه بمقررات الشرعية الدولية، والالتزام بمبادئ القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، أما البقاء على أمل السلام والإبقاء على مبادرات عفا عليها الزمن والاعتماد على أدوات مرهونة بهذا المجتمع الدولي والرضا الإسرائيلي أصبح مسلسلًا مملًّا، ويلزمنا كعرب وفلسطينيين أن نبتكر أسلحة جديدة على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية للضغط على هذا التواطؤ، وهذه الغطرسة خصوصًا ونحن بعالم لا يحترم إلا صاحب الأسلحة القوية اقتصاديًّا وسياسيًّا وليس عسكريًّا فقط.