[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/aliaklahersan.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]علي عقلة عرسان[/author]
” الإنسان اثنان في وحدة كيان، اثنان يتصارعان في واحد حي، ويمكن أن يراهما المرء رؤية بصيرة، بعين العقل ونور القلب، وأن يختار أو يرجّح، أو يرزح تحت ثقل صراعهما فيه.. والاختيار يكون ما بين «الخير والشر»، اللذين يجتمعان في كيان من لحم ودم، في جسد ذي روح، وروح في جسد. ولكل من الجسد والروح: مقوماته، ومكوناته، واحتياجاته، وخياراته، ومسوغاته، وضروراته، وقدراته، ومحركاته، وأسبابه، وعلله، وتعِلاته.. وله»علة وجوده وتعليل بقائه وتأثيره ونزوعه و.. إلخ»،”

ـ 4 ـ
وعلى هذا كله، ربما جاز لنا أن نؤكد:أن الشيطان لا وجود له خارج الإنسان، لأنه عنصر عضوي في تكوينه.. إذا غلب عليه وفيه، شَيْطَنه، وإذا ضعُف فيه وغُلِب على أمره، أنْسَنَه وتأنسن ضمنه، وغلَّب الخير على الشر فيه. وفي طرفي ما يمكن أن نسميه «معادلة، أو قاعدة»هناك نسبية تبقى قائمة، وهناك صراع بين اتجاهين أو طرفين، أو بين جينات ومورِّثات وإرادة خيرة، وخيارات يقترحها كل طرف ويعمل من أجلها، بكل طاقته.. وتبقى هناك تعادلية ممكنة، كما يبقى هناك شطط يميل بالمرء ذات اليمين أو ذات اليسار.. وخير الأمور الوسط، حتى لا تشقى نفس بذاتها وتُشقي سواها.. «إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (٧) وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (١٠) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (١١) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْـهُدَى (١٢) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى » ...(١٣) سورة الليل.

ما مرّ بي الشيطان مرور رؤية، ولا تجسّد شخصاً،إلا في بشر، استولى الشر على أنفسهم، فأصبحوا الشيطان أو من في حكمه.. لكن الشيطان بمواصفات خَلْقٍ خاص به، فلم أرَه، لم أصادفه، لم يمر بي، ولم أحاول أن أرسم له صورة محددة.. وكل ما ينسب إلى الشيطان وفعله هو، عندي، في النفس البشرية ذاتها، ينمو داخلها ويطفُرُ منها. هناك خلق في صورة البشر ينقلبون إلى أعداء لكل خيّر في البشر، من خلال تصرفاتهم، وما توسوس لهم به أنفسُهم، وما يبثونه من أفكار وأقوال، وما يقومون به من أفعال، وما يقرّونه ويسوّغونه من سلوك. وهم، ذكوراً وإناثاً، مادة الشيطان، هذا إذا كان لا بد من شخصنة ما له، أو شخصنه مواصفاته وصفاته.

الشيطان وضده هما في التكوين البشري، في الجِبِلَّة ذاتها، في تلافيف عناق الجسد والروح، الذي هو الحياة بكل ما يزخر فيها، ذاك العناق الذي يدوم ما دام في الجسد روح تجعله على قيد الحياة. والضدان يتنازعان في الإنسان، ليكون هو ونقيضه في مراحل، إلى أن تتغلب مكوِّناتٌ في الجِبِلَّة على مكوِّناتٍ، نتيجة التربية، والمعرفة، والتجربة، وإعمال العقل، والتأمل، وإنشغالات القلب، ومراجعة الذات للذات، في ضوء ذلك وغيره من المعارف والتجارب والإلهامات. ومن أهم انشغالات القلب المؤثرة، وربما أعظمها على الإطلاق:»الإيمان».

والروح لا وجود لها خارج جسد. وتفاعلات الجسد الحيوية هي في نهاية المطاف الروح.. وعندما ينتهي الجسد بانتهاء فعالية أعضائه الرئيسية «القلب والدماغ وغيرهما، مما يشكل مناط وجود الجسد الحي فعّالاً»، عندما يحدث ذلك، تنتهي الروح بانتهاء الجسد. إذن كيف نتحدث عن انتقال الروح من جسد يموت إلى أيٍّ مكان، أو أي جسدٍ، أو أي كائنٍ، أي عن «الحلول؟!»، وهي،أي الروح، لا حياة لها بذاتها، أي لا وجود لها خارج الجسد الذي انتهى بالموت، فانتهت بانتهائه مشمولة بالموت.؟!ويبقى سؤال الروح معقَّداً، وربما مستعصياً على الفهم والإدراك والإحاطة به في تعبير، حين نقرر أنها تحل في الجسد أم تخرج منه، بمعنى امتلاكها لطاقة أو قدرة أو ذاتية حية، أو كينونة وجود خارج جسد، يمكنها، حين يموت، أن تفارقه، وأن تذهب بقوامها ومقوماتها وحيويتها وحمولتها المعنوية - المعرفية الخاصة، أو الذاتية، المتصلة بكائن معين.. أن تذهب إلى موقع ما، أو كيان حي ما.؟! وربما لا يوجد مخزن أرواح تلجأ إليه، ولا توجد أرواح كقطع تبديل يمكن استخدامها.. ومن ثم فالحلول منتفٍ، والوجود الروحي لكائن حي منتهٍ بالموت، موت الجسد المزامِن لموت الروح التي هي منه وفيه.. ويبقى سرّ الروح أكبر من أن نَعِيَه، ومن أن نحدده في عبارة، وأشدَّ كَتْماً من أن يبوح، وإنْ شَفَّ.. وسؤال الروح، في الحياة ومآلها بعد الممات، يبقى سؤالاً محيّراً، بل معجِزاً، ويُفَتِّقُ أسئلة كثيرة، ويفتح شهية للبحث، ويبقى مغرياً لمن يشغله التفكير في أمور الدنيا والآخرة.. على الرغم من الجواب القاطع، الذي ورد في القرآن الكريم:..وَيَسأَلونَكَ عَنِ الرّوحِ قُلِ الرّوحُ مِن أَمرِ رَبّي وَما أوتيتُم مِنَ العِلمِ إِلّا قَليلًا (٨٥) ...سورة الإسراء. عند البعث والنشور، هل تعود كل روح إلى جسدها الذي كانت منه وفيه، في تلازمية بين جسد وروح في الحياة، تلازمية هي الحياة؟!هذا هو المرجّح فهماً وتفسيراً، أو استنتاجاً واستقراء لدِلالات النصوص.. لكن هناك ظلال لِأَمْ،، مفادها:أم أنه يكون تجديد للخلق في خلق جديد:يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (١٠٤ُ)،سورة الأنبياء. ؟!ترى هل يعود الكائن الإنسان، حين البعث والنشور، بروح لا علاقة له/ لها، بذاك الجسد الذي تماهت معه وتماها معها، ولا بذاكرته، ولا بما ينطوي عليه من قدرات في البيان، ومن بيِّنات عن الخطيئات:( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )....(٢٤) سورة النُّور..أم هو تماهٍ مع رماد الأرواح، في «سَكَنٍ»هو مآل الأرواح إلى ما شاء الله.؟!يبقى السؤال قائماً، ومتصلاً بالمشيئة والقدرة الإلهيتين. لكن البشر الذين حثّهم الخالق على التفكير، والتأمل، والتبصّر، والتدبّر.. البشر المتعلقين بالمعرفة والبحث، سيشغلهم السؤال، ويبقي من يتابعه في دوامة. ما هي الروح؟ هل هي طاقة تشبه أشعة مكثفة تملأ فراغاً، أم إناءً.. تحرك كل ما يتصل به من مادة، وتعطي لتلك المادة القدرة الذاتية على التفاعل والتأثير والحركة وفاعلية ذلك كله، ومن ثم القدرة على ارتياد المحيط الذي هي فيه، وعلى تخطيه إلى عوالم غير محدودة، يستطيع أن يبلغها الكائن، ذو الروح، بفعاليات الجسد وما هو في حكم الروح، من تفكير وتخييل وخيال وتصوُّر، ونزوع لارتياد المجهول، وفك «شفرة»الرموز والأحاجي.؟!

-٥ -

الإنسان اثنان في وحدة كيان، اثنان يتصارعان في واحد حي، ويمكن أن يراهما المرء رؤية بصيرة، بعين العقل ونور القلب، وأن يختار أو يرجّح، أو يرزح تحت ثقل صراعهما فيه.. والاختيار يكون ما بين «الخير والشر»، اللذين يجتمعان في كيان من لحم ودم، في جسد ذي روح، وروح في جسد. ولكل من الجسد والروح: مقوماته، ومكوناته، واحتياجاته، وخياراته، ومسوغاته، وضروراته، وقدراته، ومحركاته، وأسبابه، وعلله، وتعِلاته.. وله»علة وجوده وتعليل بقائه وتأثيره ونزوعه و.. إلخ»، ولكنها كلها متواشجة ومتفاعلة عضوياً.. ولذا يمكن القول: إن الجسد والروح، كل واحد موحد، في الكائن الذي هو «الإناء الممتلئ «، ذي الشكل والمضمون.. وهما مادته التي تستمر في حركة دائبة بفعل التفاعل العظيم الذى تنأى تفاصيله الكاملة الشاملة عن الإفصاح التام عن ذاتها. الجسد والروح وحدة وجود.. والكائن الحي «الروح»، يستمر في حركة بفعل الجسد «المادة».. وحتى إن ظهرت الروح كأنها السكون، فإنها موَّارة بالحركة: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّـهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (٨٨)...سورة النمل.

الإنساني والشيطاني يتلازمان ويتصارعان، لأنهما الذات ونقيضها أو ضدها، في وحدة وجود، وحيوية مُغَالَبة.. إنهما الطبيعة البشرية المنفلتة من كل قيد آنَاً، والمحكومة بكل القيود والسلاسل والأغلال، أحياناً.
نحن لا نرى الشيطان وإنما نعرف وندرك ونشعر، بأنه هنا، وهناك، في اللامكان، وفي كل مكان.. ندرك ذلك من خلال أقوال وأفعال وممارسات «تسمى شيطانية»، ننسبها إليه.إنه يصارع فيُصرَع أو يَصرَع.. ولكن:أين هو، وكيف يتصرف، وما هو جيشه الذي ينال بشراً أكثر من أن يُحصوا، أو يسخِّر منهم من يقدر على تسخيره، ليكونوا جيشه الذي يحقق وجوده، وينفذ ما يريد؟. أمَّا لماذا يريد ما يريد أصلاً، وهو لا ينتفع به؟!فسؤال يطرح أسئلة:هل لمجرد إثبات الذات والقدرة على الإغواء والإغراء وتسبيب السقوط بأنواعه، والخزي بأنواعه، لمن يصرعهم من أبناء آدم وحواء؟!، «لأحْتَنِكَنَّ.. «، ويكون جزاء ذلك السقوط النار، وما هو في حكمها من عذاب واحتقار؟!أم للبرهنة على أنه خيرٌ من ذلك الذي يعصف بذريته؟!أمَّا ماذا يا تُرى وراء ذلك الذي نسميه فعل الشيطان، أو الشيطان؟!فذاك سؤال مطلق، ما زال يرمح في فضاء الأنفس والعقول والأرواح، يبحث عن جواب.؟!ربما كانت هذه شطحات خيال، وربما تهيؤات، وربما تهويمات في فضاء الذات والناسوت، أو تعِلّات..؟! لا ذات للشيطان، الشيطان في الذات، في التكوين، في الجِبِلَّةِ البشرية.. ونحن نطلق على تلك السلبيات المختلفة الأشكال والألوان والأبعاد، وعلى ما هو في حكم القاتلات من الأفكار والأقوال والأفعال، نطلق عليها اسم «الشيطان، أو أعمال الشيطان، أو الشيطانيات»، وتلك هي وساوس النفس التي هي «هو»، إذ تأمر بالسوء، وتفعله.. وكل ذلك من ضمن الدِّلالات على أنه هي.
ينشأ «الشيطان»مع الإنسان، ويبدو أنه في تكوين النطفة التي تنمو من تلاقح في الرحم، وتدخل مراحل التخلُّق والتطور، نطفة فعلقة فَمُضْغَة.. إلخ. وإذا راقبنا الأطفال، من فئات عمرية متدرجة، نجد نزعات وتصرفات تصنَّف شيطانية، أو شريرة، أو عدوانية، أو سلبية، من حيث نتائجُها والحكم عليها، بمقاييس العرف الاجتماعي الماثل في تكوين الأشخاص الأقربين، ومن حيث تأثيرها على آخرين، قد يكونون من الفئة العمرية ذاتها، أو أكبر من ذلك أو أصغر، وربما في أعمار تتجاوز سن الطفولة والفتوة والشباب.. فهل يعني هذا أن «الشيطان»هو الذي يغري الأطفال بالشر، ويلوّث براءتهم بوحي منه وفعل يقوم به، ومن خلال تدخل من خارج أنفسهم؟!أم أن أفعالهم تلك صادرة عن ذواتهم تكويناً.. ومن ثم فالنفس/الذات، منذ تكوّنها الأول، يكمن فيها الفعل الشيطاني وغيره، بعوامل منها عوامل وراثية.. أي أن «الشيطان»في نسيجها الذاتي، ابتداء من تكون النطفة ونموها في الرحم، وأن أفعالها المنسوبة إلى «الشيطان»، تكبر أو تضمُر، تزيد أو تنقص، بفعل التربية والمعرفة، وغير ذلك من العوامل الداخلية والخارجية المؤثرة.. فيكون ثمة نهج شيطاني وآخر رحماني يتنازعانها، وتدخل عليهما عوامل النضج والوعي بالثقافة والمثاقفة بأنواعها، والمعرفة الدينية وغير الدينية، والاجتماعية.. وتتداخل كلها مع نزعاتها ونزواتها ورغباتها ونواهيها وكوابحها، مما يشكل صراع ذينك العالمين، الخير والشر، الشيطاني والرحماني، في داخلها من جهة، وفيما بينها وبين العالم الخارجي الذي تتواصل معه وتنمو فيه، ويشكل مجال نهمها وإشباعها، ظمئها وإرتوائها، وتحركها العام، وما يعترض ذلك من عوائق أو ما يذللها، بجهد ذاتي، من جهة أخرى. وبذلك ينشأ الصراع ببعديه الداخلي «الذاتي»، والخارجي ذي المصادر المتنوعة، التي منها الطبيعة، والآخر، والسُّلْطة.. إلخ.
إن التدقيق في ذلك، والاستنتاجات التي تُستَقى من التأمل والاستبطان والرَّصْد والمتابعة، ومن التعمق في التكوين البشري.. كل ذلك يفيد بأن النفس هي مصدر ما يسمى «الشيطان، والفعل الشيطاني»، وهي مكان تخلُّقِهما وتطورهما ونشاطهما.. وأنه ليس للشيطان من وجود خارج تكوينها، ونموها، وتطورها، وتحرّكها.

ـ ٦ ـ

قال الله، سبحانه وتعالى:وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)-سورة الذاريات.. فإذا كان العابد من الإنس ظاهراً للعيان، مدركاً للتكليف، عاملاً عليه، فكيف هو حال العابد من الجن يا تُرى.؟!وهل الجن غير الشياطين؟ خلقهم والإنسَ»ليعبدوه»؟!ولماذا يجعل الشياطين مطلقي اليد، في عالم محكوم بقدرته وإرادته، وهو الخير المطلق.؟! هل لكي يختبر الإنس ويدخلهم في التجربة، ليحكم عليهم بعد اختبار، وامتحان لهم:الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (٢)...سورة المُلْك؟! وهل الجن في عبادته، حتى وهم يغرون الإنس بالشر، ويلاحَقون باللَّعنة.؟!.. ولماذا يتصارع البشر والشياطين، ويُعذَّب فريق منهم على أيدي فريق، أو بسبب فريق، ومن ثم يكون حساب، وتكون جنة وتكون جهنم، لهؤلاء وأولئك.. مادامت الإرادة الإلهية تامة، كاملة، شاملة، حاكمة، ولا رادّ لها.؟!

إن سؤال الجبرية القدرية، وسؤال الحرية المسؤولة والاختيار الحر، اللذين يكمنان في قوله سبحانه:»وهديناه النجدين»، أي بيَّنا له طريق الخير وطريق الشر، «الرحماني والشيطاني»، وما يترتب على كل اختيار، وفعل، وفاعل، وسالك طريق.. هما من أهم الأسئلة، وأصعبها، وأكثرها إلحاحاً، على من يقارب الأسئلة الجوهرية في الحياة، أسئلة البدايات. فعند عتبة ذلك نحن أمام أحد منهجين:فإمّا اختيار حر يرتب مسؤولية، وإمّا قَدَرية جبرية تجعل من الإنسان كائناً محكوماً بقدر، وبما هو مكتوب له وعليه، «من قبل أن يولد»، كما جاء في الذِّكر والأثَر.؟!. وأريد أن أرى إلى الجبرية هنا، من زاوية أنها، أو على أنها في صلب التكوين الفاعل المؤثّر المتفاعل، وليست المكتوب المقرَّر قبل الولادة.. فالإجبار هنا، أو الجبريّة، يتأتي من تكوين يفرض ذاته، من خلال تفاعلات، ومحاكمات، وخيارات، ومن ثم سلوك.. فالمرء محكوم بتكوينه، أي بجِبِلَّته، وبما فيه من المورِّثات «الجينات»، وبالتكوين العضوي الذي يتواصل ويتفاعل مع ما يأتيه ويقاربه من خارج ذاته، وبما يصب في حضوره الروحي والجسدي والنفسي والمعرفي.. إلخ. ولكن هل هذا كل شيء؟!إذا كان الأمر كذلك فالإنسان محكوم بما ليس له إرادة فيه، وليس هناك دور يُذْكر لإعمال عقله، ولإدراكه ووعيه، ومن ثم إرادته، في كل ما يقوم به «يختاره؟!».. لأن الجِبِلَّة تفرض ذاتها، وتصبح اختياراتها وأفعالها وردود أفعالها وسلوكها، مثل نتائج المعادلات الكيمائية أو الفيزيائية أو الرياضية، فما تضعه في طرف المعادلة يعطيك ما سيكون عليه طرفُها الآخر.؟!فأين الإرادة الحرة التي تقرر، بعد إعمال العقل الحر، وممارسة الوعي، عبر التجربة والمحاكمة؟!.. وذلك كامن في «وهديناه النجدين»، بمعنى ما بيَّناه للإنسان، وفي ما ملّكناه من الوعي والقدرة والإرادة، ما يساعده على أن يتبين ويختار.. ثم يُسأَل؟!وعلى هذا يكون الخوض في الحياة، والاستفادة من المكتسبات عبر التجارب، والنضج، ونمو الوعي، ومقاربة الأحداث بالممارسة، وأخذ الفهم والمنطق العقلي بالاعتبار، وكذلك نتيجة القراءة والسماع والمعايشة والاتعاظ و»المعرفة عموماً».. إلخ.. يكون كل ذلك، من خلال السباحة في المحيط الذي أُلقينا فيه، أي في بحر المجتمع والعيش فيه، وفي فهم البيئة والتفاعل معها، عبر المعرفة والتجربة والقدرة الذاتية، وفي التأمل في الكون والظواهر الطبيعية إلخ… وكلٌ من هذا وذاك، يستدعي مقاربة العقل والمنطق، والاختيار الواعي، بحرية ترتب المسؤولية. إن أسئلة الموت والحياة أسئلة محيّرة، وفيها الكثير من الدوافع والبواعث للتأمل والتفكير، والاختلاف في الآراء، والكلام الذي ينطوي على رؤى واجتهادات.. وفي ذلك، وحوله، خلافات كبيرة بين المتكلمين، حيث أفضى إلى فلسفات، ونظريات، ومدارس، ومناهج، وآراءٍ، تتضاد أحيانا، وتلتقي في حالات مع التوجهات الروحية والدينية.. فما الذي يحكم ذلك؟!أهو العقل أم النقل؟!أم هو تفاعل معقد بينهما، وهما في الذات يتفاعلان مع كينونتها وأَنِيَّتِها أيضاً، بدينامية لا تتوقف؟!..هل تلك هي الذات التي ليست مجرد وعاء، أو بوتقة محايدة تجري فيها التفاعلات بأنواعها.. وإنما هي إناء، «بوتقة»، وفاعلٌ ومنفعلٌ ومفَعِّل فريد، في الوقت ذاته.. وتملك ملَكَة الحكم، وحرية الاختيار، والقدرة على التأمل والتدبر واتخاذ القرار في نهاية المطاف!!ومما لا شك فيه أن تفاعلاً حيوياً يحدث بين تلك العناصر/المكوِّنات، داخل الذات، ومعها، وبتأثير منها.. وهو تفاعل يتوسَّع ويمتد ليشمل كل ما يعترض الإنسان، وما يَفرُض نفسه عليه في الحياة، منذ تكونه وفي أثناء نموه ونضجه وتكامل قدراته، وعلى مدى امتلاكه للطاقة والعقل والإرادة.. حيث يخوض صراع القوى والإرادات، ويقاوم «بصلابة وعسر ومشقة»، كلَّ ما قد يفضي إلى عيش فيه التعاسة والشقاء، أو فيه نعيم ظاهر، قد تخترقه وتعكر ما هو فيه:»أسئلة الذات، ومقارباتُها، وهي تقارب الآخر، والموت، والآخرة، ما الموت.».
ومما لا شك فيه، أن ذلك كله مؤثر ومسؤول، وأنه يفتح أبواب التفكير والاجتهاد، وجهاد النفس.. من أجل الوصول إلى إجابات على أسئلة الحياة، وعلى أسئلة الإنسان المتصلة بالحرية والجبرية، بالمسؤولية وهوامشها في الحياة، وبما يتصل بما بعد ذلك، أو بما وراء ذلك من مصير.. وهو مما يُبنى عليه نهجٌ في الحياة، ينضُج فيَثْبُتُ أو يَحُورُ، في أثنائها. ودور للذات في هذا، ومدى مسؤوليتها عن خياراتها.. مع وجود بيئة وآخر، ووجود قدرات حاكمة، آمرة وناهية، مقدِّرة ومقرِّرة وقاهرة.. ومع وجود إيمان وتسليم، وجهاد واجتهاد، وتمرّد على الإيمان والتسليم والاجتهاد والجهاد، يصل إلى حدود الإلحاد والكفر، والضديّة النقدية والسلوكية، والأخذ بالطبيعة بوصفها حاكمة.
والله أعلم.■