تركيا ـ أردوغان الخارجة من أنقاض الانقلاب الفاشل الذي تتهم أنقرة واشنطن بتدبيره والوقوف خلفه، تحاول مجاراة الولايات المتحدة والتعلم منها فنون نقل البندقية الموجهة على رأس الجارة سوريا وقلبها من كتف إلى كتف، وتقليدها في ممارسة السياسة البهلوانية في الخيارات السياسية والرقص على مختلف الحبال، تارة بزعم محاربة تنظيم «داعش» الإرهابي وأخرى بضرب «ميليشيا حماية الشعب الكردي»، لمنع قيام إقليم كردي مستقل في شمال سوريا على الحدود التركية ـ السورية، والحقيقة أنها تكشف عن أحلام لا يمكن وصفها إلا بأنها تآمرية، وعودة إلى النبش في الأوراق القديمة التي خطت عليها حكومة التنمية والعدالة الأحلام العثمانية والسلجوقية، وذلك برفع الصوت بإقامة ما تسميه «مناطق حظر جوي» في شمال سوريا. وحين توصف هذه الأحلام بأنها تآمرية بحتة لانتفاء الأسباب الموجبة إليها. فما قامت به أنقرة وبدعم أميركي واضح هو عملية تسليم وتسلم في مدينة جرابلس بين تنظيم «داعش» الإرهابي والتنظيمات الإرهابية التي أنتجتها ورعتها ودعمتها والتي أسماؤها تؤكد أنها تركية بحتة بخلفيتها العثمانية والسلجوقية والإسلاموية مثل «تنظيم نور الدين زنكي، وتنظيم السلطان مراد، وتنظيم أحرار الشام وتنظيم النصرة وتنظيم داعش» وغيرها، والمثير للسخرية أن هذه التنظيمات يتم ترويجها تركيًّا وأميركيًّا على أنها ميليشيا ما يسمى «الجيش الحر»، وبالتالي المخاوف التركية التي دفعت بأنقرة إلى انتهاك السيادة السورية أصبحت غير موجودة، وبات السؤال الذي يفرض ذاته هو: لماذا تعود أنقرة مرة أخرى وفي هذا الوقت وبعد هذا التطور إلى الكشف عن سعيها إلى إقامة مناطق حظر طيران في شمال سوريا؟ ليست هناك إجابات متعددة، وإنما إجابة واحدة، وهي حماية هذه التنظيمات الإرهابية التي حلت محل تنظيم «داعش» الإرهابي والمكوِّن الكردي في شمال سوريا لهدفين ـ وكما جاء على لسان محللين سياسيين أتراك قريبين من القرار التركي ـ الأول: تحقيق الحلم القديم بسلخ أراضٍ سورية في الشمال وإلحاقها بالدولة التركية بزعم أنها أراضٍ تركية بالأساس؛ أي لواء إسكندرون ثانٍ، والهدف الثاني: ضم التنظيمات الإرهابية التابعة لأنقرة والمسماة «الجيش الحر» في حكومة الوحدة السورية المقترحة ولتكون أنقرة هي الطرف أو أحد الأطراف الفاعلة في صنع القرار السوري.

لقد أعطت تركيا ـ أردوغان بعد الانقلاب الفاشل انطباعًا بأنها بصدد إحداث استدارة والتكفير عن كل ما فعلته بحق سوريا وشعبها، وأن تطبيعها مع روسيا وإيران ـ مثلما طبعت مع كيان الاحتلال الإسرائيلي ـ هو الدليل على ذلك، وعززت ذلك بإطلاق التصريحات على لسان رئيس الوزراء بن علي يلدريم، إلا أن ما حصل هو العكس تمامًا؛ فما تفعله تركيا ـ أردوغان حاليًّا عسكريًّا وسياسيًّا، لا يعبِّر عن استدارة وتكفير عن خطايا، وإنما بيع لأوهام الاستدارة والتكفير، وتوظيف للتطبيع مع موسكو وطهران لإضفاء مظلة سياسية للاستباحة التركية للسيادة السورية، هذه هي الحقيقة التي يجب أن لا تغفلها عين المراقب الحصيف. ■