مقدمة:
إن استراتيجية المذهب العسكري الروسي لمرحلة مابعد الحرب الباردة أدت إلى بلورة مبادئ بديلة عن المذهب العسكري السوفيتي، تهدف في جوهرها إلى استعادة روسيا لمكانتها الدولية والإقليمية وإعادة تشكيل منظومة عالم متعدد الأقطاب.
ـــــــ
يعتبر محللون أن أوكرانيا هي التي تصنع صورة روسيا كقوة عظمى أو هي التي تكسر هذه الصورة، ويضيفون أن روسيا من دون أوكرانيا هي مجرد بلد بينما روسيا مع أوكرانيا هي إمبراطورية. إن سيناريو جورجيا يتكرر الى حد كبير في أوكرانيا، وروسيا لم تخذل سوريا كما خذل الاتحاد السوفيتي العراق. الأجواء تتلبد بغيوم حقبة الحرب الباردة. وواشنطن أصبحت مدركة بشكل متزايد بأن السياسة الخارجية التي يعتمدها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تتعارض مع مصالحها. ويرى ديمون ويلسون نائب رئيس مجموعة الأبحاث "مجلس الأطلسي" أن "السياسة الخارجية الحالية للروس تقوم على استعادة بعض النفوذ والهيبة الروسية في العالم". وينتهج بوتين هذه الاستراتيجية عبر اختبار حدود التأثير الأميركي. والإدارة الأميركية لا تخفي أيضا انزعاجها من الطموحات الجيوسياسية التي عادت موسكو للعمل عليها، وهو موضوع حساس أساسا منذ حرب صيف 2008 في جورجيا، الدولة التي أرادت الخروج من فلك سياسة موسكو. وبوتين وبعد سنوات من التهدئة النسبية مع واشنطن خلال فترة تولي ديمتري ميدفيديف السلطة، وضع حدا لهذه السياسة الهادئة بعيد عودته إلى الكرملين. ويبدو أن روسيا تتجه مجددا إلى الصراع مع الغرب على كل ملف، خاصة عندما يتعلق الملف بدول الجوار الروسي والتي أعتبرتها العقيدة العسكرية الروسية الجديدة أحد أهم مصادر التهديد التي تطال المصالح والأمن القومي الروسي حيث ذكرت "احتمال نشوب الاضطرابات داخل رابطة الكومنولث، وفي روسيا ذاتها، الأمر الذي يستوجب تدخلاً عسكرياً روسيا، ولاسيما في حالة انتهاك الحقوق المدنية للأقليات الروسية في دول الكومنولث، أو دخول أي من تلك الدول في ترتيبات أمنية مع دول أجنبية".
مفهوم العقيدة العسكرية
العقيدة العسكرية مصطلح مألوف في تاريخ الجيوش ولاسيما لدى العسكريين المحترفين. عرفت العقيدة في معاجم اللغة العربية بما عقد عليه القلب والضمير، ويدين به الانسان، مع ملاحظة أن هذا التعريف لايقتصر على العسكريين في المقام الأول، وإنما يشمل مختلف العقائد، وفي مقدمتها العقيدة الدينية. المذهب هي المرادف لكلمة العقيدة في قواميس اللغة، ولكن المذاهب عربياً هي جزء من العقيدة، والمذاهب عموماً في الفهم الشائع هي منهج لفهم تعاليم معينة، وكلمة مذهب على صعيد العلم العسكري انتشرت خلال الحرب العالمية الثانية، والبعض استخدم مصطلح النهج العسكري واطلق مصطلح العقيدة العسكرية بشكل عام للدلالة على المستوى الاستراتيجي، وهي الاطار لجميع مستويات العقيدة العسكرية، ولزيادة توضيح هذا الاطار الغامض والتمييز بين مستويات العقيدة،فقد تم استخدام مصطلحات أخرى مثل العقيدة القتالية للدلالة على المستوى العملياتي من العقيدة العسكرية، وعقيدة القتال للإشارة إلى المستوى التعبوي.على العموم تعرف العقيدة العسكرية بأنها مجموعة من القيم والمباديء الفكرية التي تهدف إلى إرساء نظريات العلم العسكري وعلوم فن الحرب، لتحدد بناء واستخدامات القوات المسلحة في زمن السلم والحرب بما يحقق الأهداف والمصالح الوطنية أما المذهب العسكري فيعرف بأنه خطط وأفكار الدولة حول كل المسائل المتعلقة بالحرب والسلم اوبتعبير آخر مجموعة من وجهات النظر والأفكار المعتمدة من قبل الدولة والقوات المسلحة في مرحلة تاريخية محدودة والمتعلقة بطبيعة الحرب المحتملة وطرائق خوضها وتدابير إعداد القوات والبلاد لتلك الحرب . تستند العقيدة العسكرية إلى مجموعة من المقتربات الاستراتيجية أهمها أنها الموجه الرئيس لإعداد وبناء وتطوير القوات المسلحة وتجهيزها واستخدامها لمواجهة التحديات الحالية والمستقبلية. وهي بمثابة الركيزة الاساسية لتنظيم وتدريب القوات المسلحة على المستويات المختلفة. كما أنها المنطلق الأساس لأية عملية عسكرية تقوم بها القوات المسلحة مهما كان نوعها وحجمها .علاوة على كونها القاعدة الأساسية لتوحيد جميع مفاهيم العسكريين تجاه استخدام القوات المسلحة، وهي الدليل الموحد لجميع الاعمال والنشاطات العسكرية على جميع مستويات الدولة المختلفة. والعقيدة العسكرية تتحدد في ثلاثة أنواع رئيسية:

١- العقيدة الأساسية: وهي مجموعة مبادئ تساعد على تحديد الإطار العام للعقيدة العسكرية على المستوى الاستراتيجي وتقوم بتوجيهها أيضا، ونطاق هذا النوع من العقيدة واسع جداً، ولاتعلوه إلاَ العقيدة الشاملة للدولة، ويتسم هذا النوع بعدم خضوعه أو تأثره بالمتغيرات الاستراتيجية أو التقنية مقارنة بالمستوى العملياتي والتعبوي من العقيدة العسكرية.
٢-العقيدة البيئية: وتعد ثاني أنواع العقيدة العسكرية على المستوى العملياتي، وهي عبارة عن المبادى الاساسية التي تنتهجها الوحدات العسكرية المختلفة لتحقيق الاهداف المرسومة لها، وتعد بمثابة حلقة الوصل مابين العقيدة الاساسية والعقيدة التنظيمية على المستوى التعبوي، فضلاً عن أن العقيدة البيئية تتأثر إلى درجة كبيرة بمؤثرات البيئة الخارجية مثل التغيرات التقنية والاستراتيجية، ولهذا نجدها تتغير باستمرار، ومن امثلة العقيدة البيئية العقيدة القتالية للعمليات المشتركة، والعقائد القتالية للقوات البرية والجوية والبحرية
٣-العقيدة التنظيمية: وهي المبادئ الأساسية التي تتبعها التشكيلات المختلفة في أي قوة عسكرية لغرض القيام بواجباتها كجزء من القوات المسلحة، وتعد العقيدة التنظيمية على المستوى التعبوي للعقيدة العسكرية اكثر انواع العقائد العسكرية تفصيلاً، فهي توضح المهام والادوار ومبادىء الاستخدام لكل نشاط عسكري.
تستمد العقيدة العسكرية مصادرها أولا العقيدة الشاملة للدولة والتي تعد المرتكز الاساس لجميع مستويات العقيدة بشكل عام، والعقيدة العسكرية الاساسية بشكل خاص. ثانيا الدروس المستنبطة من الماضي ويعد التاريخ العسكري هنا مصدراً فعالاً وناجحاً لبناء العقيدة العسكرية وتطويرها لأنه حصيلة خبرة وتجربة سابقة، ثالثا التطورات التقنية ويلعب هذا العامل دوراً كبيراً في تطوير العقيدة العسكرية وتحديثها على المستويات المختلفة، ولاسيما على مستوى العقيدة البيئية والتنظيمية، رابعا مصادر التهديد والتغيرات المستمرة في النظام الدولي التي ينعكس أثرها بشكل واضح على العقيدة العسكرية على مستوياتها المختلفة، خامسا طبيعة الحرب القادمة من حيث نوعها وشكلها ومشروعيتها ووسائلها تحدد العقيدة العسكرية للدولة على مختلف المستويات، سادسا الاستراتيجية العسكرية للدولة: ينعكس تأثير تنفيذ الاستراتيجية العسكرية بشكل مباشر على وضع العقيدة العسكرية، لاسيما البيئية والتنظيمية اللتين يجب تطويرهما بشكل مستمر بما يتناسب مع متطلبات الاستراتيجية العسكرية للدولة التي تزود العقيدة العسكرية بالمبادئ والقواعد التي تعتمد عليها، فضلاًعن طبيعة المهام الحالية والمستقبلية المختلفة المنوطة بالقوات المسلحة،سابعا: طبيعة العامل الجغرافي للدولة حيث أن موقع الدولة يحدد حجم تنظيماتها العسكرية ونوعيتها وطريقة استخدامها، كما ان موارد الدولة المختلفة تحدد مركزها عالمياً وسياستها الداخلية والخارجية، وأخيرا المهام المستقبلية التي تؤدي عملية توصيفها وتحديدها دوراً كبيراً في تطوير العقيدة العسكرية بمختلف مستوياتها وأنواعها. تتألف العقيدة العسكرية من مكونين اساسيين: أولا مكونات ذات طابع سياسي: وهي مجموع المبادىء ذات الصبغة السياسية التي تعالج المسائل المتعلقة بالصراع المسلح وثانيا مكونات ذات طابع عسكري: وهي مجموع المبادىء ذات الصفة العسكرية الخاصة التي تعالج المسائل المتعلقة بإعداد واستخدام القوات المسلحة في الحرب العقيدة البيئية والتنظيمية.
إن التغيرات الاستراتيجية التي طرأت على المبادىء الرئيسة للمذهب العسكري السوفييتي أسهمت في تشكيل مذهب عسكري روسي جديد أسهم في تعزيز الرؤى الاستراتيجية لصانع القرار الروسي حيال خيارات الدفاع عن روسيا ومصالحها المستقبلية عبر تنشيط الدور الروسي سياسياً واقتصادياً في حل المشكلات الاقليمية والدولية التي تواجه الامن القومي الروسي في القرن الحادي والعشرين. إن التحولات العديدة التي مرت على روسيا الاتحادية بعد انتهاء الحرب الباردة، مثلا تغير شكل الدولة والفوقية وتغير النخب السياسية، قد أملى عليها إجراء تغيير جذري ليس فقط في الجوانب العسكرية للمذهب العسكري الروسي وإنما في جانبه السياسي أيضاً.
العقيدة العسكرية الروسية بين الماضي والحاضر:
عندما دخلت روسيا القيصرية الحرب العالمية الأولى كان المذهب العسكري الروسي يعاني من عيوب عدة، فالنظام القيصري الفاسد، والحرمان الطبقي والتأخر الصناعي والثقافي، والتخلف الزراعي، والأسلحة البالية كلها أسهمت في عجز المذهب العسكري على الاستمرار في الحرب وتكبد روسيا خسائر بشرية ومادية فادحة دفعت في النهاية إلى اضطراب الأوضاع في روسيا، مما مهد الطريق لقيام الثورة البلشفية في أكتوبر العام ١٩١٧ . لقد تأثر المذهب العسكري الروسي إلى حد كبيربهذه الثورة وخاصة بالفلسفة السياسية للحزب الشيوعي وكتابات لينين عن طبيعة الحرب وفحواها الطبقي، لأنه يرى إن الصراعات والحروب ما هي إلا انعكاس للصراعات الطبقية، ومن ثم فهي أمر حتمي بين الدول لان الدول تعتبر أنظمة تجسد مصالح الطبقات، وفي ضوء هذا المفهوم الطبقي للحرب قسم المذهب العسكري الروسي الحروب إلى عدة انماط منها الحرب العالمية التي تحدث بين النظامين العالميين الرأسمالي والاشتراكي، ومنها حروب استعمارية تعبر عن حالة الصراع بين القوى الاستعمارية على مناطق معينة في العالم، ثم هناك حروب اهلية بين فئات متناحرة داخل الدولة الواحدة.
إضافة إلى كتابات لينين وفلسفة الحزب الشيوعي فإن المذهب العسكري الروسي تأثر ايضاً بالخبرة المكتسبة من تجارب الحربين العالميتين الاولى والثانية، حيث تزود من خلالهما بمبادىء جديدة، مثل العمليات الهجومية والدفاع الساكن والدفاع في العمق وليس في خطوط وجبهات القتال، خصوصاً عندما يكون الخصم متفوقا من الناحية العسكرية، والقوة النارية مثلما حدث في الغزو النازي للاتحاد السوفيتي العام ١٩٤١ ، فضلاً عن مبدأ الجمع بين القيادة السياسية والعسكرية أثناء الحرب بعد انتهاء الحرب العالمية الاولى توفرت للاتحاد السوفيتي السابق فترة مناسبة لتطوير مذهبه العسكري، استناداً للتطور الحاصل في بنية الدولة، فالدولة فرضت نفسها على جميع اقاليمها وتمكنت من القضاء على جميع القوى المضادة للثورة التي عانت منها روسيا بين أعوام1918 و 1921 ، كما ان النهوض الصناعي دفع الدولة الى الأهتمام بالجانب التقني للقوات وتنظيمها الهيكلي وانضباطيتها العالية وتثقيفها وفقاً لتعاليم الماركسية اللينينية. ولما كانت هذه التعاليم تؤمن بحتمية الحرب بين الرأسمالية والاشتراكية مع توقع انتصار الاشتراكية فيها، لذا جُند المذهب العسكري الروسي لخدمة هذا الغرض أي الحرب المقبلة والحتمية مع الرأسمالية. وعندما دخلت روسيا الحرب فعلاً عام ١٩٤١ وانتصرت فيها عدَ المذهب العسكري الروسي نصراً للاشتراكية على الرأسمالية، لاسيما إذا علمنا إن المذهب العسكري الروسي استخدم مبدءاً قتالياً جديداً شكل جوهر الجانب العسكري لهذا المذهب والأساس الذي تستخدم فيه القوات التقليدية حتى تفكك الاتحاد السوفيتي العام ١٩٩١ ، وقد عرف هذا المبدأ باسم العملية العمقية أو مبدأ الحرب البرية– الجوية في المنظور السوفيتي يعني هذا المبدأ من الناحية العسكرية الاقتحام المتزن والتدريجي لدفاعات الخصم بجميع وسائل النيران ولاسيما الدبابات والآليات البرية وفي كل أرجاء مسرح الحرب، حيث تبدأ العملية العمقية أولاً بالاختراق التكتيكي للعدو في جبهاته الأمامية، ثم الانتقال بسرعة للاختراق الاستراتيجي بهدف تطويق العدو في العمق وتدميره كلياً، وبما أن هذا المبدأ هو مبدأ هجومي بالاساس، لذا تطلب من الاتحاد السوفيتي زيادة قدرات قواته التقليدية على تحقيق معدلات عالية للتقدم والهجوم اعتماداً على أنظمة تسليح حديثة وقوات مدرعة ميكانيكية، وتعاون مع سلاح الجو ولاسيما الطائرات العمودية الهجومية، والأهم زيادة حجم المشاركين في العمليات القتالية الكثافة العددية. وقد أصبح هذا المبدأ هو الاستراتيجية العسكرية المطبقة لحلف وارشو، وكان هدفها الاساس الاختراق السريع للدفاعات الامامية لحلف الاطلسي، والتقدم بسرعة إلى الاعماق بهدف احباط التعبئة العامة له وإعاقة وصول الامدادات العسكرية الاميركية وإحداث انهيار عسكري وسياسي ومعنوي للناتو قبل وصول تلك الإمدادات ، علماً أن هذا المبدأ مازال فاعلا في المذهب العسكري الروسي حتى بعد تفكك الاتحاد السوفيتي عام ١٩٩١ ،حيث طبقته روسيا بنجاح باهر ضد جورجيا عام 2008. المفارقة الغريبة ان الاتحاد السوفيتي رغم تحوله إلى قوة نووية عظمى إلا أنه ظل في إطار مذهبه العسكري يعتبر مبدأ العملية العمقية او الحرب التقليدية بصيغة عمليات برية - جوية مشتركة هي جوهر ذلك المذهب، بل عًد الأسلحة النووية أسلحة تكميلية للحرب التقليدية، لانه ليس من المنطق ان تبدأ الحرب النووية بتراشق نووي، بل المنطق أن تبدأ تقليدية ثم تتصاعد إلى الحرب النووية، وفي ضوء ذلك ينبغي ان يكون الاتحاد السوفيتي قادراً وفي جميع الظروف على خوض حرب بأية صيغة مسلحة، وهنا تبدو أهمية إعداد وتسليح وتثقيف القوات السوفيتية لتكون قادرة على الانتقال من شكل إلى اخر من اشكال الصراع المسلح، بذه النظرة فإن المذهب العسكري الروسي لايرى ان الحرب العالمية والتي ستكون حتماً بالاسلحة النووية ستستثني ادوار القوات التقليدية، فالحرب العالمية ليس هدفها الحاق الدمار المؤكد بالطرفين ولابد أن يكون لها هدف سياسي وهو دحر الخصم حتى في اوضاع الدمار المؤكد، ومثل هذا الهدف لايتحقق الا عبر فعاليات القوات التقليدية التي عليها مسك الارض بعد انتهاء الرشقات النووية بين الطرفين، ومن جهة اخرى يؤمن المذهب العسكري الروسي بأن الحرب العالمية حتى وان بدأت برشقات نووية لن تنتهي بسرعة ، كما تذهب إلى ذلك المذاهب العسكرية الغربية، لان الدفاعات الارضية والجوية السوفيتية قادرة على تدمير العديد من تلك الرشقات خاصة اذا كانت بالطائرات الاستراتيجية الغربية، وعندئذ قد تتحول الحرب إلى حرب استنزاف او حرب طويلة الأمد وفي مثل هذه المواقف الاستراتيجية ينبغي ان يكون للدولة القدرات التي تمكنها من ادامة الصراع ودفعه إلى خاتمته النهائية.
وحقيقة الأمر إن الاتحاد السوفيتي السابق أراد بهذه النظرة للحرب النووية ان يحقق هدفين الأول: إسقاط فكرة الحرب المحدودة التي شكلت المرتكز الاساس لمبدأ الرد المرن والهادفة إلى جر الاتحاد السوفيتي في حرب محدودة نطاقها القارة الاوربية او خارجها تستخدم فيها الاسلحة التقليدية والاسلحة النووية التكتيكية بصورة تستنزف قواه، لاسيما وانه كان متخلفاً بعض الشيء في إنتاج الأسلحة النووية التكتيكية. والأخر: ردع الولايات المتحدة الاميركية عبر اقناعها بأن الحرب المقبلة ستكون شاملة، تستنزف قواها وستتصاعد الى مراحل القصف النووي الإستراتيجي مما سيؤدي الى توسيع مدياتها لتصل الى الأراضي الاميركية.
وبعد تفكك الأتحاد السوفيتي، كان من المنطق أن يتغير الكثير في المذهب العسكري الروسي، بسبب تغير الظروف الموضوعية والبيئة الاستراتيجية المحيطة بروسيا، فعلى المستوى الداخلي كانت الكثير من الدلائل تشير إلى احتمالات تفكك هذه الدولة الوليدة (روسيا) بعد ان عمت الفوضى الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية المختلفة للبلاد، واصبحت الدولة عاجزة عن القيام بوظائفها إزاء مواطنيها، وبعد أن شاعت مظاهر لم تكن معروفة في الحقبة السوفيتية مثل الفساد الاداري والمالي وظهور عصابات المافيا وتجار المخدرات ومهربي الاسلحة والعملات، والبطالة وانهيار العملة الوطنية، فضلاً عن استفحال النزعات الانفصالية في بعض أقاليم الاتحاد الروسي، وقد كادت الدولة أن تنهار فعلاً عام ١٩٩٨ عندما أعلنت إدارة الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسن إفلاس الخزينة المركزية وعدم القدرة على دفع رواتب الجيش وموظفي الدولة، إلاً ان تدخل الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة الأميركية أسهم في إنقاذ الموقف، لأنه لم يكن هناك استعداد لإدارة أزمتين تهددان الأمن الأوروبي في آن واحد وهما أزمة التطهير العرقي والديني في أقليم كوسوفو على يد الصرب، والأزمات المتوقعة من أحتمالات انهيار الدولة الروسية والعودة إلى أجواء ماحصل قبل سنوات عدة من انهيار الاتحاد اليوغسلافي. أما على المستوى الخارجي فلم تكن روسيا بأفضل حال، حيث برزت مجموعة من المعطيات التي تشير إلى تراجع مكانتها الدولية إلى أبعد الحدود، فبعد ان كانت قوة حقيقية في مرحلة الحرب الباردة وذات قدرة على فرض إرادتها على مجمل القضايا الاقليمية والدولية لم تعد روسيا تمتلك حتى القدرة لفرض إرادتها على الدول التي استقلت عنها، وبعد أن كانت تمتلك بعداً جيوبوليتكياً عالمياً يشمل المنظومة الاشتراكية برمتها بما في ذلك حلفاؤها وأصدقاؤها في دول عالم الجنوب، لم تعد روسيا تحتكم إلا إلى رابطة هشة جمعتها مع الجمهوريات المستقلة، فضلاً عن خسارتها لمجالها الحيوي(أوروبا الشرقية) الذي كان يعزلها عن الناتو، ومن جهة أخرى دفعتها الازمات الاقتصادية ونظام الخصخصة الى تفكيك وتسريح مكونات مهمة من قوتها التقليدية بحيث لم تعد من الدول العظمى في هذا المجال، كما أجبرتها الضغوط الاميركية والغربية على سحب وتفكيك جميع أسلحتها النووية الموجودة في بعض دول الرابطة المستقلة، وتغيير اتجاهات ما لديها من صواريخ نووية بالستية نحو البحار والمحيطات بعد أن كانت موجهة ضد أهداف منتخبة.
وفي ضوء هذه الظروف الموضوعية تعززت القناعة لدى الشعب الروسي وقياداته بتراجع مكانة الدولة الروسية وبروز الولايات المتحدة الاميركية بوصفها القوة المهيمنة على النظام الدولي بدون خصم استراتيجي.
تعد وثيقة الأمن القومي الصادرة عام ١٩٩٣ تجسيداً حًياً للتغيير الذي حصل في أحكام المذهب العسكري الروسي سواء في جانبه السياسي او العسكري، ففي الجانب السياسي لم يعد المذهب العسكري يربط بين أمن روسيا ومصالحها بأمن ومصالح المنظومة الاشتراكية، حيث اتخذت قضية الامن والمصالح طابعاً قومياً خالصاً، كما لم تعد الولايات المتحدة الاميركية وحلف الناتو أعداء فعليين للأمن القومي الروسي وإن كان ينظر بعين القلق لمشروع الناتو بالتوسع نحو الشرق، بيد أنه شدد في الوقت نفسه على المخاطر والتهديدات المحلية والإقليمية للأمن الروسي التي مصادرها حركات الانفصال الداخلية ونزعات بعض دول الرابطة للانتماء إلى المؤسسات الغربية كحلف الناتو والاتحاد الاوروبي، واحتمالات تعرض رعايا روسيا ومصالحها للاضرار الناجمة من الاضطرابات والقلاقل التي يمكن ان تحصل بين دول الرابطة. وفي ضوء هذه النظرة القومية للأمن والمصالح حدد المذهب العسكري أهداف روسيا بالآتي
١- الدفاع عن أمن روسيا ضد احتمالات وصول الناتو إلى حدودها الدولية.
٢- حماية النظام السياسي والدستوري للبلاد.
٣- مواجهة النزعات القومية والانفصالية داخل الاتحاد الروسي.
٤- الحفاظ على أمن واستقرار منطقة الكومنولث المستقلة ومنع التوجهات الاستقلالية عنها.
٥- حماية الأقليات الروسية من الاضطرابات المتوقعة داخل منطقة الكومنولث.
أما الجانب العسكري فلم يكن المذهب وفق وثيقة العام ١٩٩٣ يمتلك رؤية واضحة حول طبيعة الحرب التي يمكن ان تخوضها روسيا في المستقبل، او حتى كيفية الدفاع عن أمن روسيا ضد احتمالات توسع الناتو نحو الشرق ووصوله إلى الحدود الروسية، وإن كانت الوثيقة قد اشارت بأن روسيا ستستخدم أسلحتها النووية ضد توسع الناتو وهذا معناه عدم تعويل روسيا على قوتها التقليدية لمواجهة هذه التهديدات بعد أن فقدت جانبا كبيرا من قوتها، وبعد أن أصبح الناتو متفوقاً عليها. بيد أن هذه الإشارة لها مغزاها الاستراتيجي من حيث ان روسيا تراجعت عن مبدأ العملية العمقية التي شكلت جوهر أستخدام قوتها التقليدية في الحقبة السوفيتية، كما تعني تراجع روسيا عن مبدأ عدم الاستخدام الأولي للأسلحة النووية في الحرب، مع العلم ان الولايات المتحدة الاميركية وحلف الناتو قد قلل من قيمة هذه الاشارة الروسية وعًدها غير واقعية وهي لاتعدو عن كونها مناورة سياسية لإعاقة مشروع الناتو في التوسع، وكذلك امتصاص نقمة القوميين والشيوعيين لادارة يلتسن في مهادنته للغرب وتقديمه تنازلات أضرت بمكانة روسيا الدولية ، وللدلالة على ذلك نستطيع ان نؤشر إلى موافقة روسيا في النهاية على مشروع توسع الناتو عام ١٩٩٧ مقابل أن تكون شريكا في قراراته، وقد أثبت الواقع لنا ان هذه المشاركة كانت صورية، إذ شن الحلف حربه ضد صربيا في أزمة كوسوفو عام ١٩٩٩ ومن دون علم روسيا، ولكن من جهة أخرى كان الجانب العسكري للمذهب الروسي اكثر وضوحاً في رؤيته لطبيعة الحرب الناجمة عن مستويات تهديد أقل من مستوى الناتو، اذ حدد تلك الرؤية بالنقاط الآتية:
أ. أن المذهب الجديد أسقط الطابع الطبقي للصراع المسلح وأخذ يعترف بأن الصراعات والحروب يمكن أن تحصل نتيجة قضايا عدة، حيث اعتبر أن الحروب المقبلة التي يمكن ان تدخلها روسيا هي حروب محلية وإقليمية مصدرها تمردات داخلية او نزعات استقلالية لدول الكومنولث،أو تعرض رعايا روسيا ومصالحها لأخطار ناجمة عن اضطرابات في دول الرابطة المستقلة.
ب - ان طبيعة الحرب المقبلة ذات المستويات المحلية والاقليمية تتطلب من القوات الروسية سرعة الانتشار الاستراتيجي وتحركها سواء داخل الدولة او خارج الحدود حيث الأزمات الناشئة في منطقة الكومنولث الروسي
ج ـ أن المذهب العسكري الجديد لم يسقط فقط مبدأ العملية العمقية السوفيتية وانما أسقط أيضاً فكرة الحرب الشاملة التي تبناها المذهب العسكري في الحقبة السوفيتية، أي الأخذ بمبدأ الاكتفاء العقلاني في بناء القوات المسلحة خاصة التقليدية منها أي جعلها تتناسب من الناحية العددية والنوعية مع طبيعة التهديدات الجديدة ويتطلب ذلك حتى تدريب القوات الروسية على عمليات قتالية محدودة.
د ـ إن قدرة القوات التقليدية على الانتشار الاستراتيجي في مناطق الازمات والقيام بعمليات قتالية سريعة الحركة وصغيرة الحجم، محدودة يتطلب الاهتمام بالجانب التقني للقوات فضلاً عن ان الاهتمام بالجانب التقني سيفتح للأسلحة التقليدية الروسية أسواقاً جديدة وذات أهمية بالغة للحصول على العملات الصعبة لمعالجة الازمات الاقتصادية والمالية. وهكذا يتضح مما تقدم ان المذهب العسكري الروسي في ضوء وثيقة العام ١٩٩٣ والتي استمرت حتى تولي فلاديمير بوتين ادارة الدولة العام ٢٠٠٠ ، كان في حالة وضع قتالي ساكن بمعنى امتصاص الصدمات والازمات الناجمة عن تفكك الاتحاد السوفيتي السابق دون ان يكون له القدرة للرد عليها أو منع تكرارها، ففي عام ١٩٩٦ فشل الجيش الروسي في القضاء على المعارضة في أقليم الشيشان، وفي العام ١٩٩٧ أجبرت روسيا على الموافقة على مشروع الناتو في التوسع نحو الشرق، وفي العام ١٩٩٩ انضمت بولندا، وتشيكيا للناتو، وفي العام نفسه ضرب الناتو صربيا آخر معاقل روسيا في شرق اوروبا، واعلن استقلال كوسوفو رغم المعارضة الروسية، بتعبير آخر تركز اهتمام المذهب العسكري الروسي في حقبة التسعينيات من القرن العشرين على كيفية منع انهيار الدولة وليس بناؤها. عندما تولى الرئيس بوتين الرئاسة العام ٢٠٠٠ لم تكن روسيا بأفضل حال، لذا فقد كان بوتين مدركاً أن استعادة روسيا لمكانتها الدولية هو من الامور الصعبة ان لم تكن مستحيلة، لانه يتطلب اولاً بناء دولة قومية قوية قادرة على حماية امنها من التهديدات الداخلية والخارجية، ولذلك كانت فترة رئاسته الاولى من عام ٢٠٠٠ إلى العام ٢٠٠٤ هي فترة بناء الدولة، وقد نجح في ذلك إلى حد كبير، فمن الناحية السياسية تحولت السلطة في عهده إلى المركزية الشديدة رغم فدرالية الدولة وقد تطلب ذلك منه إسكات جميع المعارضين السياسيين من قوميين وشيوعيين، كما تطلب منه نشر تلك السلطة على جميع اراضي روسيا فجاءت حملته العسكرية الناجحة التي أخمدت المعارضة في اقليم الشيشان، ومن الناحية الاقتصادية نجح بوتين في استثمار موارد روسيا الهائلة من النفط والغاز الطبيعي لاسيما مع ارتفاع أسعارها في السوق العالمية فتوفرت أموال هائلة أستثمر جزء منها في تحسين الاحوال المعيشية للمواطنين وتسديد جميع ديون الدولة، وخصص الجزء الآخر لإعادة إحياء المؤسسة العسكرية الروسية بوصفها أحد أعمدة بناء الدولة، وذلك عن طريق إلغاء وثيقة الأمن القومي الروسي لعام ١٩٩٣ لأنها لم تعد صالحة لمرحلة بناء الدولة واستعادة مكانتها الدولية السابقة. وفي ضوء هذه المعطيات جاءت وثيقة الأمن القومي لعام ٢٠٠٠ لتجسد واقعية المذهب العسكري الروسي الجديد، لأن ادارة الرئيس السابق ميدفيدف لم تلغها بل أكدت عليها واعتمدتها في وثيقة الأمن القومي الروسي للعام ٢٠١٠ . إن أهم ماجاء في وثيقة الامن القومي الروسي للعام ٢٠٠٠ هو امتلاك الجانب السياسي للمذهب العسكري الروسي رؤية واضحة للتهديدات الفعلية والمحتملة لأمن الدولة ومصالحها، إذ انه حصرالتهديدات في حلف الناتو لدرجة تدفع أي باحث للاعتقاد بأن روسيا تنظر اليوم للناتو كعدو فعلي وليس كشريك مقلق كما كان في حقبة التسعينات من القرن العشرين. هذا التطور يعود الى:
١- قيام الناتو بعمليات عسكرية خارج إطار القانون الدولي وبدون موافقات من مجلس الامن ، وهو أمر لايمكن لروسيا إلا أن تعترض عليه ليس لانه يتجاهل مكانتها الدولية ودورها في عمليات حفظ الامن والسلم الدوليين بل لأن جميع هذه العمليات تمت في مناطق لروسيا مصالح حيوية فيها مثل كوسوفو عام ١٩٩٩ ، والعراق العام ٢٠٠٣
٢- إن عملية توسيع الناتو أخذت تتجاوز الحدود المرسومة لها جيوبولتيكيا لتشمل المجال الحيوي الجديد لروسيا والمتمثل بمنطقة الكومنولث عبر محاولات ضم اوكرانيا وجورجيا للناتو، مما يعني وقوف الحلف امام بوابة روسيا ووصول مرتكزاته العسكرية إلى الحدود الروسية مباشرة، وبذلك تكتمل عملية التطويق الجيوبوليتكية الشاملة لروسيا بعد أن نشر الحلف قواعده في الخليج وأفغانستان والعراق وجمهوريات آسيا الوسطى، فضلاً عن قواعده الموجودة في دول شرق اوروبا، وعندئذ لايكون لروسيا أي مجال في لعبة الشطرنج أو اوراسيا التي اشار اليها بريجنسكي.
٣- قيام حلف الناتو بنشر الدرع الصاروخي في بعض دول اوروبا الشرقية التي انضمت إليه، مثل نشر رادارات متطورة جداً مضادة للصواريخ في تشيكيا، وبطاريات مضادة للصواريخ في بولندا وأعتبرت روسيا ذلك تهديدا خطيراً جداً لأمنها القومي وإخلالا بالتوازن الاستراتيجي النووي العالمي إذ ستؤدي إلى فقدان روسيا القدرة على التسديد بالضربة النووية الثانية الانتقامية الثأرية، لاسيما ان مشروع هذا الدرع الصاروخي تتضمن ايضاً عسكرة الفضاء بعدد كبير من الاقمار الصناعية القادرة على اكتشاف الصواريخ الروسية سواء المنطلقة من الغواصات او القواعد البرية المتحركة وتدميرها بدقة متناهية.
٤- رفض حلف الناتو التوقيع عام ١٩٩٩ على تجديد معاهدة خفض الاسلحة التقليدية في اوروبا المعقودة منذ عام ١٩٩٠ بين حلفي الناتو ووارشو، لاسيما ان روسيا كانت قد خفضت العديد التقليدية وفقاً لهذه المعاهدة، في حين بالمقابل لم يتخذ الناتو أي إجراءات مماثلة، ثم جاء رفضه لتجديد هذه المعاهدة ليؤكد لروسيا سعي الناتو لتحقيق التفوق عليها ليس فقط في القدرات النووية وانما في القدرات التقليدية أيضاً، وهو ما دفع بوتين لاعلان انسحاب روسيا من معاهدة العام ١٩٩٠ ، ومن جهة اخرى إذا كانت روسيا قد أخذت وفقاً لتحليلنا تنظر للناتو على أنه اكبر تهديد لأمنها القومي ومصالحها الحيوية فإنها رسمياً مازالت تعده شريكاً في مواجهة أخطار مشتركة قد تهدد الطرفين مثل الإرهاب الدولي وانتشار أسلحة الدمار الشامل في مناطق قريبة من روسيا مثل أسيا الوسطى او الشرق الاوسط وهو ماحفزها لعقد قمة روما عام ٢٠٠٢ مع الناتو لمكافحة الارهاب، بيد ان الشراكة الرسمية شيء والواقع الموضوعي شئ آخر فمنذ الهجوم غير المسبوق للولايات المتحدة الاميركية وأعضاء في حلف الناتو على العراق واحتلاله عام ٢٠٠٣ ، أخذ المذهب العسكري الروسي يضع خطوطاً حمراء على قضايا لا يتهادن فيها مثل انضمام أوكرانيا وجورجيا إلى حلف الناتو، والملف النووي الايراني، وتغيير النظام السياسي في سوريا، فضلاً عن القضية المركزية وهي نشر الدرع الصاروخي في دول أوروبا الشرقية، هذه الخطوط الحمراء ربما ستتضح لنا بشكل أكبر عندما نستعرض بعض الاحكام التي مثلت الجانب العسكري للمذهب العسكري الروسي وفقاً لعقيدة العام ٢٠٠٠ والوثائق الاخرى التي اعتمدت عليها ومنها:
أ- حق روسيا في استخدام سلاحها النووي لصد أي عدوان يقع عليها او يهدد مصالحها، فخلافاً لوثيقة العام ١٩٩٣ التي قصرت استخدام الأسلحة النووية ضد توسيع الناتو، فإن وثيقة العام ٢٠٠٠ وسعت من دوائر هذا الاستخدام ليشمل كل التهديدات التي قد تتعرض لها روسيا سواء كانت صادرة من الناتو او من قوى محلية او إقليمية.
ب ـ حق روسيا في النشر الاستراتيجي لقواتها التقليدية لمواجهة الازمات التي تهدد الأمن الروسي سواء كانت صادرة من منطقة الكومنولث الروسي أو دول اوروبا الشرقية، بل ان الوثيقة وسعت من البعد الجيوبوليتكي لاستخدام القوة التقليدية الروسية ليشمل التدخل في مناطق بعيدة إذا طلبت منها الأمم المتحدة حفظ السلام في تلك المناطق، بمعنى يجب أن يكون ذلك الاستخدام البعيد شرعياً ومستنداً إلى قرارات مجلس الأمن على عكس الاستخدام الوقائي والاستباقي الذي يمثله المذهب العسكري الأميركي.
ج- حق روسيا في تطوير قدراتها العسكرية التقليدية وغير التقليدية بما يتناسب مع طبيعة التهديدات التي أشار اليها الجانب السياسي للمذهب العسكري، ويبدو ان عملية التطوير قد بدأت فعلاً منذ ولاية بوتين الثانية ومازالت مستمرة حتى العام ٢٠٢٠ ، وقد شملت عملية التطوير أدخال أجيال جديدة من الدبابات والمدرعات الصغيرة الحجم والسريعة ومزودة بأسلحة متقدمة تقنياً وقادرة على الوصول إلى مناطق الازمات مثل دبابات تي 90/92/94 ومدرعة BMB 3 ، وطائرات حديثة مثل ساخوي 35 ، و ميغ 25 ، أضافة لطائرة ميغ 29 ذات المناورات الرائعة في الجو ، و ٦حاملات طائرات، و٨ غواصات تعمل بالطاقة النووية، وأجيال جديدة من الصواريخ البالستية الهجومية بعيدة المدى من طراز تويول- م- أراس ٢٤ الذي يحمل رؤوسا نووية عدة، فضلاً عن إدخال نظام راداري صاروخي متطور جداً أطلقت عليه روسيا أسم أس أس ١٢ م ٢، وهو نظام دفاعي قالت عنه روسيا انه قادر على تدمير مفردات الدرع الصاروخي الاميركي بدقة كبيرة . ومن جهة اخرى أخذت روسيا منذ ولاية بوتين الثانية القيام ببعض الممارسات العسكرية ليس فقط في مجال الاستخدام الفعلي للقوات كما حصل في الحرب الجورجية وانما ايضاً المناورات العسكرية الهادفة إلى اثبات القدرة على الردع او حتى إثبات إن للمذهب العسكري الروسي مديات جيوبوليتكية أبعد بكثير من منطقة الكومنولث، ومثال على ذلك رفع العلم الروسي في منطقة المحيط المتجمد الشمالي، وهذا يعني أن دول البلطيق الثلاث القريبة من المحيط تقع ضمن المجال البولوتيكي الروسي رغم انضمامها للناتو العام ٢٠٠٤، واعادة تحليق طائراتها الاستراتيجية النووية بشكل مستمر فوق المحيط الاطلسي والهادي مثلما كان الامر في الحقبة السوفيتية لتثبت للولايات المتحدة الاميركية وحلف الناتو أنها لاعب فاعل في الاجواء والفضاء الخارجي، ثم مناوراتها العسكرية الكبيرة مع الصين ومنظمة شنغهاي للامن الاقليمي، لتؤكد مصداقية أنها حاضرة في لعبة الشطرنج الاوراسية، ويدخل ضمن مجال هذه اللعبة نجاحها في دفع بعض دول اسيا الوسطى لإلغاء القواعد العسكرية الاميركية المتواجدة على أراضيها أو عدم تجديد عقودها ، ثم أن مناوراتها العسكرية البحرية مع فنزويلا وكوبا العام ٢٠٠٩ والوجود المستمر لأسطولها الحربي في البحر المتوسط وقاعدته الرئيسة في ميناء طرطوس السوري. يثير هذا التحول في مضامين المذهب العسكري الروسي بعد العام ٢٠٠٠ تساؤلاً مهماً حول نظرة القيادة الروسية السياسية والعسكرية لطبيعة الحرب المقبلة التي يمكن ان تخوضها روسيا سواء من حيث نطاقها، محلية، أقليمية، دولية أو من حيث مستوياتها تقليدية – نووية .والحقيقة إن المذهب العسكري الروسي لم يتطرق لهذا الموضوع أو أن هناك نوعاً من السرية عليه، بيد ان تحليل مفردات هذا المذهب من حيث توسيع مصادر التهديدات الفعلية والمحتملة للأمن القومي الروسي وإدخال الناتو على قمتها، ثم التطوير المستمر للقدرات العسكرية الروسية حتى العام 2020 فضلاً عن المناورات العسكرية الروسية في السنوات الاخيرة واتخاذها مديات أبعد من منطقة الكومنولث تدلل على ان روسيا بدأت تخطط لخوض حروب أبعد من نطاق الحروب المحلية بكثير وربما تكون أقليمية مع الناتو بحيث تشمل منطقة شرق اوربا مثلاً، او حتى عالمية إذا توفرت لها ظروف مناسبة لخوض هذه الحروب كوصول قدراتها العسكرية، خاصة التقليدية الى مستوى يمكنها من تحمل كلفة هذه الحروب، او تطور علاقتها مع الصين ودول اخرى مثل ايران، والهند إلى حد التحالف الاستراتيجي، لاسيما اذا علمنا ان الصين تشعر بالقلق الامني من وجود القواعد العسكرية الاميركية في منطقة آسيا الوسطى، ومن مشروع الدرع الصاروخي الاميركي واحتمالات نشره في مديات هذه المنطقة، فضلاً عن ان القيادة السياسية والعسكرية الروسية تسعى ليس فقط لبناء الدولة القومية وانما استعادة مكانتها الدولية السابقة، لذا فإن احد العناصر المحفزة لهذه المكانة هو امتلاك مذهبها العسكري القدرة على التخطيط والاعداد لحروب كبرى، لأن روسيا ليست دولة صغيرة ذات إمكانيات محدودة لتخطط لحروب محلية، وانما هي دولة كبرى حتى قبل ان تتأسس الولايات المتحدة الاميركية العام ١٧٧٦ ، وتمتلك مكونات وعناصر قوة شاملة مكنتها من تحمل جميع الحروب التي خاضتها كالحرب العالمية الاولى والثانية وتخرج منها وهي الأقوى، وربما هذا هو ماقصده بوتين عندما قال : إن تفكك الاتحاد السوفيتي السابق خطأ استراتيجي وإن عليه مسؤولية تصحيح هذا الخطأ، أي إعادة بناء الدولة واستعادة مكانتها الدولية. ثم ان هناك حقيقة مهمة وهي ان حروب المستقبل ليس بالضرورة ان تكون ايديولوجية لتعطي للحرب ذلك الطابع الواسع للحروب المقبلة، فتعارض المصالح المادية هو ايضاً يعطي للحروب هذه السمة، ومثلما كانت الحرب العالمية الاولى والثانية على المصالح الأستعمارية والمجالات الحيوية الكبرى، فإن حروب المستقبل ستكون على إمدادات الطاقة، ونزاعات الجغرافية الجديدة حول مصادر المياه، والدولة العظمى التي تسيطر على هذه المصادر كالولايات المتحدة الاميركية ستدفع بالدول الكبرى اما إلى إقناعها بالمشاركة في هذه المصادر وإذا فشلت في ذلك فليس أمامها سوى المقاومة والتحدي، ومن هنا قد يتبدى شبح الحروب الكبرى سواء أقليمية او عالمية وستكون روسيا والصين طرفين فيها، لأن مشاكل أمدادات الطاقة والموارد المائية ستتفاقم بعد عقدين من الزمن عندئذ يجب على روسيا ان تخطط لحرب واسعة، لأن هذه المصادر إما قريبة منها في آسيا الوسطى والقوقاز، او بعيدة عنها كالشرق الاوسط وشمال إفريقيا . أما من حيث مستويات الحرب المقبلة تقليدية – نووية، فإن حروب المستقبل كما يقول الجنرال الروسي محمود غارييف رئيس الاكاديمية الروسية للعلوم العسكرية ستكون تقليدية ولكنها ليست من نمط حروب العالم الصناعي التي اعتمدت على الحشد الهائل للقوات والآليات الميكانيكية والمدرعة، وانما على الذكاء الصناعي لهذه القوات أي على الثورة العلمية لاجهزة المعلومات والاتصالات والعقول الالكترونية والاقمار الصناعية والانذار المبكر، وحيث أن روسيا مازالت متخلفة عن الولايات المتحدة الاميركية وحلف الناتو في هذا المجال ، لذلك كانت مضطرة ان تعلن في مذهبها العسكري الجديد الاستخدام الاولي للأسلحة النووية في الحرب لكي تردعها عن توريط روسيا في حرب ذكية قبل إدخال الذكاء الصناعي الى صنوف قواتها التقليدية سواء كانت برية او بحرية او جوية، بتعبير آخر تريد روسيا أن تقول للولايات المتحدة الأميركية وحلف الناتو ان الثمن السياسي والعسكري المترتب على تدمير الجيش الروسي بالأسلحة الذكية قذ لا يوازي الأكلاف السياسية والاقتصادية على تدمير شرق أوروبا أو غربها او حتى عدة مدن أميركية بالأسلحة النووية الروسية، كما انه لايوازي ثمن تصعيد الحرب من مستواها التقليدي الذكي إلى نووية،عندئذ لن يكون للأسلحة التقليدية الذكية أي قيمة في تحقيق الاهداف السياسية والعسكرية. إن الطروحات الروسية بصدد الاستخدام الأولي للأسلحة النووية في الحرب التقليدية بقدر ما أسقطت المبدأ السوفيتي في عدم الاستخدام الاولي لهذه الاسلحة، فإنها على الأرجح قد أسقطت حتى طبيعة الاهداف للضربة النووية الاولى، ففي الحرب الباردة ولغرض إدامة استراتيجية الردع النووي المتبادل بين الولايات المتحدة الاميركية والاتحاد السوفيتي قسمت الاسلحة النووية إلى قوات ضربة أولى او هجومية توجه نحو القوة النووية المعادية بغية تدميرها، وقوات ضربة ثانية انتقامية توجه بعد الضربة الاولى نحو المدن والمراكز الحيوية للطرف المعادي. ولكن على ما يبدو أن المذهب العسكري الروسي الجديد لم يعد يأخذ بهذا التقسيم فإعلانه بان روسيا سوف تستخدم الاسلحة النووية لصد أي عدوان يقع عليها اوعلى مصالحها، معناه ان روسيا تخشى منذ البداية الدخول في مواجهة تقليدية ذكية مع حلف الناتو تكون فيها خسارتها مؤكدة إذ انه من غير المنطقي ان تستخدم روسيا أسلحتها النووية الاستراتيجية لصد عدوان تقليدي ذكي ملتحم مع القوات الروسية بصورة قد تؤثر سلباً على هذه القوات، وعليه الأرجح استخدامها ضد المدن والمراكز الحيوية للخصم، بعبارة أخرى ربما تريد روسيا وفقاً لهذا التحليل أن تقول للولايات المتحدة الاميركية وحلف الناتو إن الحروب التقليدية الذكية قد تكون ناجحة مع قوى إقليمية مثل العراق وسوريا وإيران ولكنها مع روسيا ستكون بمثابة عملية انتحارمنذ البداية، ومن ثم على واشنطن والناتو التراجع عنها أو عدم اتباعها مع روسيا.
المعلق العسكري في وكالة نوفوستي الروسية للأنباء ايليا كرامنيك قال عن العقيدة الروسية الجديدة بصفة عامة، إن العقيدة العسكرية الروسية الجديدة تعكس اتجاها إلى اعتماد معايير الغرب فيما يخص استخدام القوات المسلحة. خلاصة القول إن العقيدة العسكرية الجديدة لروسيا جاءت لتؤكد مكانتها كقوة كبرى على الصعيدين الدولى والإقليمى، وعزمها توظيف قدراتها فى الدفاع عن أمنها ومصالحها ومواطنيها فى الداخل والخارج. ففى ظل عدم الالتزام بقواعد القانون الدولى، وغياب الضمير الإنسانى، وسيادة منطق القوة، فإن من يريد هيبة ومكانة، فعليه التسلح بمقومات القوة، ليس عدوانا على أحد، ولكن حماية لأمنه ومصالحه وكرامة شعبه.


محمد نجيب السعد
باحث أكاديمي عراقي
[email protected]