[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/abdellatifmhna.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]عبد اللطيف مهنا[/author]

من سمات محاولات الحركة التصفوية الراهنة للقضية الفلسطينية اتصافها بالدأب والاستعجال والاستماتة في انتهازها لما تراه فرصة تاريخية لا تعوض لإنهاء الصراع ودفن القضية، أتاحها لها الراهن الفلسطيني الأبأس، والواقع العربي الأردأ، والحالة الكونية المتواطئة، وأقله غير المبالية.
يأتي جون كيري وزير الخارجية الأميركي إلى المنطقة ولا يغادرها إلا ليعود إليها، وهو إذ يرحل عنها مثيرًا من خلفه زوابع من الأوهام والتحليلات والتوقعات بانتظار غيث حلوله القادم فيها، يستخلف فيها من بعده مساعده الصهيوني مارتن إنديك لإدارة حلقات المفاوضات الدائرة بين الصهاينة والأوسلويين الفلسطينيين.
هذه التي، لمن نسي، لم تتوقف وسوف تستمر، كما هو متوافق عليه، حتى نهاية هذا الشهر، سواء أفرج عن الدفعة الأخيرة من أسرى ما قبل أوسلو أم لم يفرج، وجُمِّد التهويد إعلاميًّا أو تباطأت حركته أم ارتفعت وتيرتها، أما بعد نهاية شهرنا فما من عاقل يدرك مدى حاجة أطرافها، أوسلويين وصهاينة وأميركان، لاستمرارها قد يتخيل إمكانيةً لتوقفها... لماذا؟
نبدأ بالتسوويين الأوسلويين، الذين هم في حكم المنتج والصنيعة لمسيرتهم التفريطية التي ألغت منظمة التحرير بعد أن عبثت بميثاقها لصالح سلطة بلا سلطة وتحت احتلال. لقد أوغل هؤلاء في متاهتهم التسووية، بعد أن واصلوا منذ البدء نهجًا تفاوضيًّا تنازليًّا مدمرًا للقضية استمر لأكثر من عقدين. وإذ ذهبوا بعيدًا في منزلق باتوا أسراه.
وحيث ما من خيار وما من رؤية، ولا من قدرة ولا من رغبة، لديهم في تخليهم عن نهج عبثي جربوه طيلة تلكم الحقبة الكارثية، كان من شأنه فحسب أن ألحق ما ألحق من أذى بالقضية والشعب الفلسطيني ووحدته ونضاله الوطني المعاصر، فإن المفاوضات والمفاوضات لا غير باتت بالنسبة لهم كما يصفونها "حياة"، أو هم لا يتصورون لهم استمرارية بدونها... لذا، والشيء بالشيء يذكر، لعل أسوأ خطيئة أوقع أصحاب العريضة المائة من الأكاديميين الفلسطينيين أنفسهم فيها هو توجيههم لعريضتهم العتيدة تلك، مثقلة بما حفلت به من النصائح والمناشدات والالتماسات، لأصحاب مثل هذا النهج الكارثي بالذات، مندرجين بذلك مع عريضتهم هذه موضوعيًّا تحت سقفهم الأوسلوي التسووي التصفوي عينه.
أما الصهاينة، وبعيدًا عن تكتيكاتهم وهوبراتهم الإعلامية، فهم لا يقلون حرصًا عن الأوسلويين على مسألة تمديد المفاوضات، بل هم مع تأبيدها إن أمكنهم ذلك، لأنها كانت وخلال العقدين المنصرمين، إلى جانب فعاليتها التصفوية عبر استدرار التنازلات من الأوسلويين، ولما ألحقته بالوحدة الوطنية الفلسطينية والنضال الوطني الفلسطيني المعاصر، قد شكَّلت بالنسبة لهم أفضل وأنسب غطاء منشود لتنفيذهم سياساتهم التهويدية الكاسحة، بحيث تحوَّلت السلطة الأوسلوية عبرها إلى مجرد شاهد زور تصفوي مجاني على ما يجري على مدار الساعة من ابتلاع تهويدي للأرض من حولهم وتحت أقدامهم وما يرافقها من عملية خلق لوقائع احتلالية زاحفة.
وبالنسبة للأميركان، ورغم أنه بدا وكأنما هم قد نجحوا مؤخرًا في الظهور بمظهر من هو يفاوض الصهاينة نيابة عن الأوسلويين، إلا أنهم في واقع الأمر كانوا ينسقون كافة خطواتهم مع حلفائهم الصهاينة، ولم ينفكوا يعملون، عبر تكثيف ضغوطاتهم على الجانب الأوسلوي الضعيف لحساب صنائعهم التاريخيين، وهم لا يختلفون معهم لا في الأساسيات ولا في الأولويات. وإذا كان جل همهم وجهدهم منصبا على تبرير الخطايا الصهيونية وتغطيتها والتستر عليها وحمايتها، فإن كل هدفهم الراهن هو تمديد المفاوضات باعتبار ذلك مصلحة مشتركة للحليفين...
وهنا نأتي إلى الحكاية التي جعلت من كيري يحصد شهادات التقدير والثناء من التسوويين الفلسطينيين وعرب الجامعة مؤخرًا، حين أدلى بشهادته، أو إبان استجوابه من قبل لجنة الشؤون الخارجية في الكونجرس الأميركي. كان كل ما كان من كيري هو توجيهه لقليل من لوم رقيق وحنون للتعنت الصهيوني، حينما أشار إلى أنه كان في عدم الإفراج عن دفعة الأسرى المتفق عليها، والإعلان عن العطاءات التهويدية في منطقة القدس، ما قد عطل إجراءات الوصول إلى الاتفاق على تمديد المفاوضات. وما أن كان هذا منه حتى كاد أن يتحول إلى بطل سلام في أعين كل من الواهمين والتسوويين الفلسطينيين والعرب، أو أن يخلع عليه بجدارة لقب "الوسيط النزيه"! لقد نسي هؤلاء، مثلًا، أن كيري الجاهد لانتزاع الاعتراف الأوسلوي بما يدعى "يهودية" الكيان الصهيوني، إنما كان يدلي بشهادته أمام لجنة برلمانية أميركية مختصة، بمعنى أنه هنا في موقع الرائد الذي علية أن لا يكذب قومه، ثم إن الخارجية الأميركية كانت حريصةً على المسارعة لتوضيح المأثرة أو الزلة الكيروية، حين أكدت أن صاحبها "لم يتهم إسرائيل، ولم يحمِّلها مسؤولية توقف المفاوضات"، والمفارقة أن لا أحد في المستويات السياسية في الكيان الصهيوني نفسه كان المنكر لما قاله كيري، بل لعلها واحدة من النقاط التي يعدونها لصالح نتنياهو، هذا إذا استثنينا بعضا من تبرم صدر عن ليفني فحسب.
...بقي أن نقول إن مأثرة كيري هذه ما هي إلا شطحة محسوبة جوهرها الضحك على ذقون الأوسلويين وعرب التسوية، ورشوة منه هدفها تشجيعهم على اقتراف خطيئة تمرير حكاية تواصل المفاوضات من أجل المفاوضات، هذه التي من المطلوب، صهيونيًّا وأميركيًّا، تواصلها حتى التصفية... الآن كل الجهود منصبة على إنضاج طبخة تمديد المفاوضات قبل نهاية شهرنا هذا، وما نحن إلا على موعد مع تمديدها.