[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/ahmedalkadedy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د.أحمد القديدي[/author]
” .. تشكل ما سموه النظام العالمي منذ 1945 على قياس المنتصرين فأسسوا منظمة الأمم المتحدة بمبادئ سامية ونوايا طيبة لكنهم وضعوا في ميثاقها لغما يسمى (حق النقض الفيتو) فاستعملوه على سبيل المثال ضد الحقوق الفلسطينية 73 مرة ثم فكروا في الهيمنة على الاقتصاد العالمي فأسسوا سوقين للمال يتحكمان في مسالك التجارة العالمية و تداول العملات وقيمة المواد الأولية وأسعار الطاقة والسوقان هما (وول ستريت) في نيويورك و(السيتي) في لندن...”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تتلاحق الأحداث الجسام في بلداننا العربية و حولها بوتيرة يومية لتعلن عن ظاهرة استثنائية عالمية قد لا يتفطن لها العالم العربي ونحن معتادون على الغفلة وعدم الاهتمام بما يمس مصالحنا الحيوية وأمننا القومي وهويتنا الأصيلة في زمن لا يغفر للغافلين غفلتهم وفي زمن نطلق عليه نعت العولمة. يكفي أن نقرأ التحولات العميقة التي تضمنها بيان مؤتمر القمة للعشرين الأقوى الذي انعقد في الصين يومي 4 و 5 سبتمبر الجاري لندرك حجم ومدى التغيير في طبيعة العلاقات الدولية حيث استفاقت الأمم الأخرى على الحقائق الطارئة والمفروضة على الناس جميعا. أكبر وأخطر هذه الحقائق هي إفلاس النظام العالمي الأطلسي التقليدي الجائر الذي نشأ مع نهاية الحرب العالمية الثانية وتشكل حسب مصالح وإرادة الدول الكبرى المنتصرة على الأعداء النازيين في ألمانيا والفاشيين في إيطاليا والمتجبرين في اليابان أي أولئك الذين يسمون تحالفهم بدول المحور حين هزمتهم جيوش أميركا وبريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفييتي (أنذاك) واستسلم المهزومون الثلاثة بعد قصف مدينتي هيروشيما وناجازاكي بالقنابل الذرية في أغسطس 1945 وشرع الغالبون يقسمون الدول المهزومة الى مقاطعات تخضع لهم وعاقبوها بإذلالها وحرمان شعوبها من أن تكون لهم دول مستقلة أو جيوش أو حتى رايات تمثل سيادتهم. والكبار من القراء عايشوا الحرب الباردة بين المعسكرين الليبرالي تتزعمه واشنطن والشيوعي تتزعمه موسكو. وهندس هؤلاء المنتصرون (سيستم) يضمن على المدى البعيد سيطرتهم ويضمن خضوع المهزومين ولكنه (سيستم) يضمن لهم كذلك استمرار عجز الشعوب المستضعفة عن التحكم في مصائرها ومن هذه الشعوب نحن العرب ولم نكن طرفا لا في الحرب ولا في السلم بل حشرونا حشرا في خانة سموها (دول العالم الثالث) أو بنعت ألطف (الدول السائرة في طريق النمو) واكتشف جيلنا العربي أن النمو لايزال بعيد المنال وتساءلنا في كتبنا ومؤتمراتنا عن طريق النمو الموعود وقلنا إما أننا نزحف كالسلاحف على الطريق وغيرنا يجري كالغزلان وإما أننا أخطأنا الطريق أصلا ! وتشكل ما سموه النظام العالمي منذ 1945 على قياس المنتصرين فأسسوا منظمة الأمم المتحدة بمبادئ سامية و نوايا طيبة لكنهم وضعوا في ميثاقها لغما يسمى (حق النقض الفيتو) فاستعملوه على سبيل المثال ضد الحقوق الفلسطينية 73 مرة ثم فكروا في الهيمنة على الاقتصاد العالمي فأسسوا سوقين للمال يتحكمان في مسالك التجارة العالمية و تداول العملات وقيمة المواد الأولية وأسعار الطاقة والسوقان هما (وول ستريت) في نيويورك و(السيتي) في لندن (وقد ولدا في مؤتمر بريتن وودس في يوليو 1944 مع البنك العالمي و صندوق النقد الدولي) وهما يسيطران الى اليوم على 76% من اقتصاد العالم ثم بطبيعة تشابك الاقتصادي مع السياسي انتهكت حرمات الشعوب المستضعفة وديست مصالحها الحيوية وصفيت قضايانا المركزية مثل الملف الفلسطيني وانهارت حرياتنا وهوياتنا بفعل الغزو الممنهج واستمر النظام العالمي لمدة سبعين عاما وهو ليس نظاما بل هو فوضى أقنعونا بأنها خطوط حمراء لا يجوز الاقتراب منها أو التشكيك فيها ! وأذكر للتاريخ و للحقيقة أني حالفني الحظ للتعرف منذ أكثر من ثلث قرن على المفكر الاقتصادي الأميركي ومستشار الرئيس ريجان في الثمانينيات (ليندن لاروش) وزوجته السياسية الألمانية السيدة (هلجا لاروش) رئيسة معهد (شيلر) الدولي وشاركت في مؤتمرات عديدة نظموها في واشنطن وبون وباريس وفرنكفورت وتحاورت معهما في عديد المناسبات وكانا يحملان هذه الأفكار منذ الثمانينيات وينددان بالظلم المسلط على الأمم ويدعوان إلى تأسيس نظام عالمي عادل وبالطبع كانت كل أجهزة الإعلام الغربية تكيل الشتائم لهما وتروج أن هذه الأفكار هي متطرفة وخيالية (أقوى وسائل الإعلام كانت و لاتزال أذرعا للأمبراطوريات المالية) أدركت شخصيا اليوم أن اصرار (لاروش) على مبادئه ودفاعه عن حقوق الشعب الفلسطيني أثمر بعد عقود وأن زعماء أمثال بوتين والرئيس الصيني (كسي جين بنج) والرئيس التركي أردوغان وأن نخبا من دول أوروبية وآسيوية ومن أميركا الجنوبية يجسدون اليوم حلم (لاروش) وظهر ذلك في الاتجاه السليم الذي توخاه مؤتمر قمة العشرين الأقوى (جي20) الذي انعقد في مدينة (هانج زهو) منذ أيام وافتتحه الرئيس الصيني بالقول إنه على قادة العالم اليوم أن يتحالفوا لهندسة نظام اقتصادي ونقدي واستراتيجي وثقافي جديد ومختلف عن النظام القديم كما علق لاروش على نتائج المؤتمر قائلا إنه أكبر انتصار للبشرية. وبالفعل رأينا كيف اتجهت تركيا إلى موسكو لطي صفحة الخلافات وتدشين مرحلة جديدة من التفاهم لإيجاد حلول عادلة و معقولة و مقبولة لأزمات الشرق الأوسط وأولها المأساة السورية وقرأنا في بيان المؤتمر دعوة بكين الى إنشاء تحالف تكنولوجي بين الدول العشرين لتبادل المهارات في تسخير التكنولوجيا للسلم والتقدم وسعادة البشر ولا ننسى أن للصين أقوى برنامج لغزو الفضاء بعد أن تعطلت برامج واشنطن وموسكو ورأينا نشأة مؤسسات مالية جديدة لتكون النواة الصلبة للنظام البديل وهي المصرف الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية وساهمت في رأسماله ستون دولة ثم مصرف التنمية لدول (بريكس) أي البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا وهو تجمع دول قوية صاعدة قرر قادتها في قمتهم (يونيو 2016) توحيد جهودهم وتنسيق اقتصادياتهم خارج منظومة الأطلسي المنهارة.
كل هذه المبادرات لخصها لاروش في عبارة طريق الحرير الجديدة أي ربط شعوب العالم بشبكة من الجسور التجارية والمسالك الاتصالية والمراهنة على التعاون الاقتصادي وتبادل الخيرات والخبرات وإحلال السلام عوض النظام العالمي الأطلسي الغربي الذي يكتفي بإدارة الأزمات وتهيئة العالم للمواجهات العنيفة باللجوء للحروب لا بقصد إحلال السلام بل من أجل تكريس هيمنة الغرب المستكبر على حضارات الأمم الأخرى بنفس منطق الاستعمار القديم الذي زرع في وجدان بعض نخبنا العربية بواسطة القصف الإعلامي أن شعوبنا مغلوبة عاجزة وأنه أجدر بنا أن نتبع ملتهم في اللغة و القوانين واللباس والمأكل والمشرب. من هذا المنظور فإن تشكل نظام عالمي بديل هو في الحقيقة اعتراف بالمساواة بين الحضارات بدون الصدام الذي تصوره المفكر الأميركي (صامويل هنتنجتن) والذي كرسته في بداية القرن سياسات المحافظين الجدد بزعامة الرئيس بوش الابن. لسنا محتاجين الى كثير من الحجج لنبرهن على أن مشروع المحافظين الجدد سقط مع الزمن وأثبت فشله المحتوم والدليل على ذلك أن حروب الحلفاء سنة 2001 ضد طالبان بتلك الصورة نتجت عنها اليوم سنة 2016 ثلاثة طالبانات عوض واحدة أي طالبان أفغانستان وطالبان باكستان وطالبان كشمير ونتج عنها أن بؤر الإرهاب التي كانت خمسة أصبحت تتجاوز الثلاثين في كل القارات !