جسدت كلمة السلطنة في الدورة الحادية والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة والتي ألقاها معالي يوسف بن علوي بن عبدالله الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية أمس، جسدت رؤية السلطنة تجاه الوسائل المثلى لإصلاح مسار السياسة الدولية التي تتداخل بقوة في الوقت الراهن مع سياسات الدول الداخلية، بعد بروز دور العديد من المؤسسات الدولية التي توجه حركة السياسة والاقتصاد، والتي أيضًا غدت تحدد معايير الثقافات المحلية للشعوب في العالم أجمع، متى ما توافرت جملة عوامل ومحددات كشرط لنجاح هذا الإصلاح وتطبيقه، وذلك من خلال تضافر الجهود ووجود الإرادة الصادقة، وسيادة روح العمل الدولي المشترك، والتوجه الصادق نحو تطوير علاقات التعاون، وتعميق المصالح بين الدول والشعوب، والارتكان إلى الوسائل السلمية والعقلانية والحكيمة لحل الخلافات والتي من بينها الحوار والاستناد إلى أحكام ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة وقواعد القانون الدولي والأعراف. وما يسهم في نجاح هذا الإصلاح وصدق التوجه وجود عامل آخر لا يقل أهمية ألا وهو الطبيعة المسالمة للشعوب، والميالة للتفاهم، والمحبة للتعايش السلمي الذي يحافظ على مصالح جميع الأطراف على قاعدة "لا ضرر ولا ضرار"، ومتى ما توافرت هذه العوامل مجتمعة مع صدق التوجه وحسن النيات كانت منظمة الأمم المتحدة هي منارة السلام وواحته التي يستظل بها جميع الدول وشعوبها.
وعلى الرغم من طغيان السلوكيات الشاذة على سياسات قوى دولية مؤثرة، وتأثيرها في سياسات دول ودور الأمم المتحدة وأخذه إلى مسارات مضادة للأهداف التي أنشئت من أجلها هذه المنظمة، فإن الحقيقة الثابتة هي أن التجربة العملية التي خاضتها السياسة العمانية على المسرح العربي والإقليمي والدولي قد أثبتت سلامتها من تلك السلوكيات، فقد حافظت سياسة السلطنة ـ ولا تزال ـ على قيم الشراكة والتعاون مع جميع الدول دون استثناء، ومع جميع المنظمات والمؤسسات والتجمعات الدولية وفق أسس عملية واضحة تتخذ من الاحترام المتبادل، وحل قضايا الشعوب بالحوار، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير، واحترام المصالح المشتركة، ركائز لها.
ومع تأكيد الكلمة على الإنجازات التي حققتها منظمة الأمم المتحدة منذ إنشائها وعملها من أجل السلم العالمي طوال واحد وسبعين عامًا، إلا أن السلطنة لم تخفِ تطلعها إلى نقلة نوعية في فعاليات المنظمة الدولية من أجل تحقيق الأمن والعمل على إيجاد عالم تسوده مظاهر الرخاء والاستقرار والتنمية وحسن النيات، والتخلص من سلبيات الماضي، والثقة في المستقبل وترسيخ لغة الحوار القائم على القبول بالآخر، مهما كان التباين الاجتماعي والثقافي بين المجتمعات البشرية، حيث تنهض الرؤية العمانية على أن الحوار يؤدي إلى تنظيم أكثر وضوحًا للشراكة العالمية لتحقيق التعايش المفعم بالرخاء والرفاهية والتقدم والازدهار، حيث كانت المساعي الطيبة والحثيثة للسلطنة لتقريب وجهات النظر في الأزمات وخاصة الأزمة السورية والأزمة اليمنية والأزمة الليبية ترجمة عملية لسياسة السلطنة ومصداقيتها وعقلانيتها وموضوعيتها، ما أكسبها الاحترام والتقدير الدولي.
ولأن قضية فلسطين هي قضية العرب المحورية، والسلطنة معنية أشد العناية بالعمل على تسويتها على نحو عادل، لذلك أكدت الكلمة على حتمية إيجاد حل للصراع المزمن في الشرق الأوسط، وإيجاد حل شامل وناجز وعادل للقضية الفلسطينية، ذلك أنه وبدونه من الصعوبة بمكان رؤية إقامة علاقات طبيعية بين دول وشعوب المنطقة على النحو الذي من شأنه أن يعزز الثقة المتبادلة والتعايش المشترك.
إن تلك المضامين التي اشتملت عليها كلمة السلطنة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، والمعبرة عن علو صوت الحكمة والعقل والموضوعية للسياسة العمانية، التي أرسى دعائمها قائد مسيرة نهضتنا المباركة حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظ الله ورعاه ـ وحب مظاهر الخير والتسامح والتعايش والاستقرار بين الشعوب، وضعت نقاطًا مهمة على حروف السياسة الدولية والإقليمية، بما يشكل معالم النظرة العمانية لوسائل النهوض بالبشرية جمعاء، وسبل بسط الأمن والاستقرار؛ لإفساح الطريق للتنمية في منطقتنا والعالم من حولنا.