[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/ahmedalkadedy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د.أحمد القديدي[/author]
الأسبوع الماضي عشنا الحدث المتميز أثناء انعقاد الدورة الحادية والسبعين للجمعية العامة المشحونة بالأحداث التي انعكست بفواجعها ومعضلاتها على المجتمع الدولي. وإذا أردنا إيجازها في ملفين حارقين طغيا على الملفات الأخرى وهما ملف الهجرات المليونية وملف الحرب السورية (وأزمات الشرق الأوسط) اللذان شغلا ضمائر زعماء العالم في القارات الخمس، وأثارا الجدل وأوقدا شعلة الحوار الساخن بين الفرقاء المجتمعين رغم اختلافاتهم حول ميثاق الأمم المتحدة وأمينها العام.

أتابع منذ أربعين عاما أشغال الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة في نيويورك كصحفي مبتدئ في الإعلام التونسي في السبعينيات، وتعودت من ذلك التاريخ أن أتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود في مسار العلاقات الدولية، وقراءة التحولات الكبرى التي تتضح في الجمعية العامة من خلال المؤشرات الدبلوماسية والمراوحة بين الحرب والسلم ومدى تأثير الاقتصاد على السياسة، وأدركت بحسي المتواضع أن انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في كل مطلع خريف يعتبر بحق محطة عالمية بكل المقاييس كالمرايا يرى فيها كل زعماء العالم وجوههم على حقيقتها بدون مساحيق الدبلوماسية والمجاملات التقليدية، كما يواجه فيها الزعماء ضمائرهم بتقييم سياساتهم وتجريب البدائل عسى يجسدون ما نص عليه ميثاق منظمة الأمم المتحدة من مبادئ السلام والمساواة والعدل، خاصة وهم يجتمعون في رحابها وتحت رايتها وبإشراف أمينها العام. هذا ما أطلقت عليه اسم ضمير المجتمع الدولي في لحظة محاسبة ومكاشفة أمام مخاطر رهيبة تهدد استقرار التوازنات التقليدية وتكاد تعصف بمنظومة الأمم المتحدة ذاتها.
الأسبوع الماضي عشنا الحدث المتميز أثناء انعقاد الدورة الحادية والسبعين للجمعية العامة المشحونة بالأحداث التي انعكست بفواجعها ومعضلاتها على المجتمع الدولي. وإذا أردنا إيجازها في ملفين حارقين طغيا على الملفات الأخرى وهما ملف الهجرات المليونية وملف الحرب السورية (وأزمات الشرق الأوسط) اللذان شغلا ضمائر زعماء العالم في القارات الخمس، وأثارا الجدل وأوقدا شعلة الحوار الساخن بين الفرقاء المجتمعين رغم اختلافاتهم حول ميثاق الأمم المتحدة وأمينها العام. ولاحظ المراقبون أن الخطب الملقاة من على المنبر الأممي جاءت أصداء طبيعية للأحداث المريرة التي تجري في نفس اللحظات وتمس الجميع مهما تباعدت بلدانهم عن مسارح المأساة. فالهجرات العملاقة وغير المسبوقة التي حركت شعوبا وقبائل كاملة من بؤر الأزمات وأتون الحروب الأهلية ومن دول فقيرة ومحرومة ومهمشة مهاجرة كالطيور إلى الشمال للنجاة بالأنفس والعيال من الموت، فحركت هذه الموجات من الهجرات جمرات الخوف من تحت رماد النظام العالمي الأطلسي القديم حين أرست ولا تزال ترسي مراكب الموت من سواحل جنوب البحر الأبيض إلى سواحل أوروبا محملة بآلاف البؤساء اليائسين الهاربين من الموت إلى الموت قادمين من حلب والرقة ودير الزور ونينوى وحمص وسرت ومقديشو ومن سواها مفضلين رحلة العذاب على الموت المحقق، إما تحت القصف، وإما جوعا وعطشا حاملين في أحضانهم أطفالا بدون طفولة ورضعا بدون لبن وأمهات بدون دواء ولا غذاء. بالملايين تنقلوا عابرين الحدود إلى أراضي الله (وهي أراضي دول ذات سيادة ولها حدود عززتها بالأسلاك الشائكة والمكهربة) وتزامن وصول هؤلاء البؤساء مع أعمال إرهابية محدودة استهدفت أبرياء أوروبيين وزرعت الخوف لدى شعوب أوروبا من المسلمين بل وبزغت نجوم الأحزاب العنصرية اليمينية لدى هذه المجتمعات لتمارس سياسات الترويع وتكريس كراهية المسلمين. وخلال خطب القادة على منبر الجمعية العامة وضع بعضهم أصابعهم على أصل الداء حين أرجعوا هذه المأساة إلى أسبابها الحقيقية المتمثلة في تفاقم المظالم الدولية، وصمت المنظمة الأممية حيالها أو عجزها عن تفعيل المبادرات الأممية بفضل آليات مجلس الأمن، بالإضافة إلى تغول الدول العظمى والإقليمية بتفضيلها خدمة مصالحها العاجلة على إقرار السلام والعدل بين الأمم. وفي هذا الصدد تكلم الرئيس أوباما عن استحالة احتلال إسرائيل لأراضٍ فلسطينية إلى الأبد، لكنه قام بنفس التمويه الشهير حين دعا الفلسطينيين للاعتراف بإسرائيل وهو اعتراف حاصل منذ 1987 بالتنازلات الفلسطينية المتعاقبة! وأسطع مثال على تعقد المعضلات المشرقية ما سمعناه من تلاسن بين الوزيرين التوأمين (كيري ولافروف) حول قصف القافلة الإنسانية في حلب وحول ما هو أبعد أي الحلول التي تسعى كل من واشنطن وموسكو إلى فرضها بشأن مصير النظام السوري وتصنيف فصائل المعارضات السورية، فإذا بنا أمام خطابين متضادين تماما لا تقرأ فيه الدولتان الأعظم حسابا إلا لمصالحهما الحيوية لا لمصالح الشعوب التي تذوق الويلات وتعيش بل تموت تحت القصف والخراب!
وكان في هذا الباب خطاب الأمير القطري الشيخ تميم وخطاب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وخطاب الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية معالي يوسف بن علوي بن عبدالله من أرقى التحليلات الاستراتيجية لأسباب الأزمات الكبرى التي اندلعت في الشرق الأوسط، وانطلاقا من الشرق الأوسط يمتد لهيبها للعالم بأسره مهما أبعدته الجغرافيا عن بؤر العنف، وأول هذه الأسباب استمرار الجور المسلط على الشعب الفلسطيني وتعاقب الحكومات اليمينية الإسرائيلية التي أصبحت تتوارث ملف المظلمة، فتحاول حلها بالقوة لا بالقانون الدولي، ويتحول يأس الشعب الفلسطيني ليصيب بعدواه كل الشباب المسلم في العالم بفضل وسائل الاتصال الآنية الراهنة، فيعيش الشباب العرب والمسلمون جرائم قتل الشباب والفتيات الفلسطينيين لمجرد الشبهة، وتنتقل الصور في نفس اللحظة لضمائر الشباب المسلمين فيدركوا أن الرد بالعنف على العنف هو الحل، ويتسع فضاء الغضب ليتحول إلى صراعات ذات طابع ديني وطائفي وعقائدي وتنزف الجراح، وكما رأينا الأسبوع الماضي في حلب فإن القصف طال قافلة خيرية إنسانية جاءت شاحناتها بشجاعة ومروءة لتوزع الأغذية والأدوية على الحلبيين المحاصرين في مدينتهم الشهيدة، لكن القافلة أحرقت واستشهد أطباء ومسعفون وناشطون متطوعون في تلك الفوضى العبثية.
والملف السوري ليس اليتيم، فبجانبه الملف العراقي الذي ينتظر أيضا تدخل مجلس الأمن لإضفاء الشرعية على كل عمل عسكري قادم وأيضا الملف اليمني الذي تتراكم فوقه مواقف متباينة لتحديد آفاق حلوله السلمية، ولا ننسى الملف الليبي الذي يؤرق شعوب المغرب العربي وحكومات الاتحاد الأوروبي؛ لأن الأزمة الليبية ذات تداعيات أمنية خطيرة وذات تفرعات اقتصادية حيوية، فالسواحل الليبية بسبب الحرب أصبحت هي المصدرة الأولى لمراكب المهاجرين القادمين من الشرق الأوسط وإفريقيا. كما أن النفط الليبي بسبب قربه من أوروبا أصبح محور المزايدات والمؤامرات والمخابرات والمخططات دون التفكير في حلول توافقية بين الليبيين لتجاوز خلافاتهم وحل مشكلاتهم.