”إن أشكال العمل الوطني التي يُمارسها عموم أبناء فلسطين في الداخل المحتل عام 1948 وأحزابهم وقواهم، انتقلت من العمل العفوي في الفترات السابقة، إلى العمل المُنظم والمؤطر، والموجه، والقائم على ركائز من الكفاح السلمي من أجل المساواة والعدالة والحفاظ على الهوية الوطنية والقومية. وفي العمل العام وفي الإسهام في ترشيد الخطاب السياسي في ثقافة ووعي الناس.”

[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/alibadwan.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]علي بدوان[/author]

لم تَكُن حملات الاعتقال الهستيرية الأخيرة، التي نَفَذَتها، وتُنفذَها سلطات الاحتلال «الإسرائيلية» في صفوف قيادات وأعضاء حزب التجمع الديمقراطي الفلسطيني داخل فلسطين المحتلة عام 1948، والتي مَسّت حتى رئيس الحزب عوض عبدالفتاح، وعددا من أعضاء المكتب السياسي، لم تَكُن بالمفاجئة بالنسبة للمُطلعين على أحوال الداخل الفلسطيني وأوضاعه، وما وصلت إليه أشكال العمل الوطني في مواجهة سياسات التمييز العنصري ومحاولات «الأسرلة»، ومن أجل الحقوق القومية والوطنية لفلسطينيي الداخل عام 1948. والتي يقوم بها الشباب الفلسطيني في الداخل في مواجهة آلة القمع «الإسرائيلية».

إن حملات الاعتقال التي مست أعضاء وكوادر وقيادت حزب التجمع الديمقراطي الفلسطيني داخل مناطق العام 1948، جائت في سياق تزايد حدة السلوك السياسي «الإسرائيلي» الحالي على مستوى الحكومة وسلطات القرار والكنيست (البرلمان) تجاه فلسطينيي الداخل المحتل عام 1948، والذي يتجسد بمحاولات عديدة لتشريع واستصدار العديد من القوانين التي تَمِسُ فلسطينيي الداخل، وتزيد من الخناق والحصار حولهم وعلى أحزابهم وقواهم المجتمعية، ومنها عمليات الإقصاء والتطهير السياسي، كما حَصَلَ مُؤخرًا في السعي «الإسرائيلي» المحموم لإخراج الحركة الإسلامية الشمالية (بقيادة الشيخ رائد صلاح) وتجريمها، مرورًا بتحريضات لا نهائية على النواب العرب المؤتلفين في القائمة المشتركة في الكنيست (البرلمان الإسرائيلي)، والتي يُمكن أن تقود الأوضاع لمرحلة سياسية تحاول فيها «إسرائيل» إعادة رسم العلاقة مع فلسطينيي الداخل المحتل عام 1948، ليكون سقف الإجماع الصهيوني هو سقف الخطاب والأداء السياسي للأحزاب والقوى العربية في الداخل، تمامًا كما كان «اليسار الصهيوني» يُحاول قبل عقدين من الزمن لجعل الخطاب العربي في الداخل المحتل عام 1948 تحت سقفه.
إن القوانين ليست مُجرد أرقام في نهاية الأمر، إنها ليست الظاهرة، بل هي مؤشرات ودلائل حول الظواهر السياسية والاجتماعية العميقة التي باتت تَحكُم المجتمع اليهودي الصهيوني على أرض فلسطين التاريخية، فالتشريعات التي تَصدُر عن الكنيست بخصوص الفلسطينيين لها سياقها السياسي والاجتماعي، كما لها سياق بنيوي يتعلق ببنية النظام الاستعماري الكولونيالي الصهيوني على أرض فلسطين نفسه كحالة استعمارية مُركبة، مزجت مُبكّرًا بين مفهوم وسياسات الترانسفير والتطهير العرقي التي مورست بحق الشعب الفلسطيني صاحب الوطن الأصلي منذ العام 1948، وسياسات الأبارتهايد والعزل (البانتوستانات) بحق الفلسطينيين.
على كل حال، التجمع الوطني الديمقراطي الفلسطيني في «إسرائيل» أصبح رقمًا صعبًا على الأرض، ولم يَعُد أعضاء ونشطاء التجمع مُجرد مجموعات تهتف وتغني في الساحات عندما يطلب منها ذلك... بل هي مجموعات شبابية مُنضبطة ومؤطرة تمارس دورها ضمن نَسَقٍ متواصل من العمل بين عموم أحزاب وقوى فلسطينيي الداخل.
إن أشكال العمل الوطني التي يُمارسها عموم أبناء فلسطين في الداخل المحتل عام 1948 وأحزابهم وقواهم، انتقلت من العمل العفوي في الفترات السابقة، إلى العمل المُنظم والمؤطر، والموجه، والقائم على ركائز من الكفاح السلمي من أجل المساواة والعدالة والحفاظ على الهوية الوطنية والقومية. وفي العمل العام وفي الإسهام في ترشيد الخطاب السياسي في ثقافة ووعي الناس.
فالعمل الذي تخوضه الأحزاب والقوى العربية في الداخل عام 1948، أسّسَّ ومنذ زمنٍ، لمرحلة نوعية جديدة في المسيرة الوطنية لعموم الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات، وهو ما لا ترضى عنه «إسرائيل» ولا يروق لها بأي حال من الأحوال، باعتباره يستقطب كل يوم القطاعات الواسعة من فلسطينيي الداخل، كما يستقطب المزيد من التعاطف الدولي.
العمل المنظم والمؤطر لفلسطيني الداخل، عَمَل كفاحي مُتطور يقوم على النهج السلمي الديمقراطي بالوسائل والأدوات المتوفرة، بما في ذلك من داخل منبر الكنيست التي تَضُمُ نحو (16) نائبًا عربيًّا، عمل بدأت مفاعيله منذ وقت طويل تَطرُق، وبهدوء، مسامع العالم بأسره، ويستقطب إعجابًا وتعاطفًا دوليًّا يتطور كل يوم ويتزايد، ويضع دولة الاحتلال في قفص الاتهام...
إن الدور الكبير لفلسطينيي الداخل عام 1948، نجح وحقق نقلات نوعية، حيث خاض فلسطينيو الداخل 1948 معارك سياسية ناجحة ضد مشاريع الاستيطان والتهويد في الجليل والنقب وغيرهما، كما التصدي لمحاولات محو الهوية الوطنية الفلسطينية، والحفاظ عليها.
من هنا، نُدرك المغزى العميق لعمليات التنكيل وحملة الاعتقالات التي تقوم بها سلطات الاحتلال من حين لآخر للوجوه الوطنية من فلسطينيي الداخل من كافة المشارب والألوان السياسية والفكرية. وكان منها تجريم الحركة الإسلامية بقيادة الشيخ رائد صلاح، وإخراجها عن القانون قبل عامٍ مضى، نتيجة الدور الوطني المُتعاظم الذي تقوم به بين فلسطينيي الداخل.
سلطات الاحتلال، ومعظم مصادر القرار فيها، تُدرك تمامًا أن ارتفاع منسوب البطش وإن كان موجعًا، لن يوهن عزيمة الفلسطينيين، بل أثبتت الوقائع أن الفلسطينيين وبالرغم من كل مآسيهم وأوضاعهم الصعبة وحالة الانقسام الموجودة في صفوف إخوتهم في الضفة الغربية والقطاع والشتات، قادرون على تجاوز أزماتهم في نهاية المطاف لا لأنهم فقط أصحاب الأرض والحق، بل، أيضًا، لأنهم يستخدمون، ويشتقون ويجترحون، الأساليب الكفاحية المناسبة لوضعهم الخاص داخل حدود العام 1948.
لقد غض ما يسمى «اليسار الإسرائيلي» عينيه عن ممارسات حكومة نتنياهو تجاه الأحزاب والقوى العربية في «إسرائيل»، وخاصة الاعتقالات في صفوف حزب التجمع، حيث لم يستيقظ هذا اليسار من سباته العميق، ولم ينبس ببنت شفة عندما اقتصرت هجمة أفيجدور ليبرمان العنصرية على المواطنين العرب، بل شارك نواب محسوبون على تيار الوسط في تشريع سلسلة قوانين بهدف تقييد حرية التعبير والنشاط السياسي للعرب الفلسطينيين في الداخل المحتل عام 1948.
ومع ذلك، إن الحراكات على الأرض داخل فلسطين وفي مجرى الصراع مع الاحتلال وصمود المقاومة والشعب الفلسطيني، أنتجت تحولات تمخضت عنها تفعيلات ولو محدودة داخل النسيج المجتمعي في «إسرائيل»، عبر قيام منظمات حقوقية «إسرائيلية» تنشط في مجال حقوق الإنسان الفلسطيني في الأراضي المحتلة عام 1967، وتضم في صفوفها (عربًا ويهودًا) من داخل الأرض المحتلة عام 1948، في خطوة جيدة حتى لو كانت محدودة الحضور والفعل والتأثير، وقد استنفرت الأحزاب «الإسرائيلية» المختلفة لمواجهتها ومنها حزب «إسرائيل بيتنا» اليميني الفاشي المتطرف بزعامة وزير الخارجية أفيجدور ليبرمان. ■