بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ
(لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَة، وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَة) (القيامة1 ـ 2)

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين وبعد: اليوم أيها القراء الكرام نحيا مع سورة كريمة من كتاب الله تعالى بعد أن انتهينا من سورة الانسان ألا وهي سورة القيامة وهي سورة مكية ، وهي تسع وثلاثون آية تتناول بعث الناس وحسابهم، وعن القيامة وأهوالها، ثم طمأنت الرسول صلى الله عليه وسلم على جمع القرآن فى صدره، ووجَّهت الردع إلى مَن يحبون العاجلة ويذرون الآخرة، ووازنت بين وجوه المؤمنين الناضرة، ووجوه الكافرين الباسرة، وتحدثت كذلك عن حال المحتضر، وما كان من تقصيره فى الواجبات حتى كأنه يظن أن لا حساب عليه، وختمت بالأدلة التى توجب الإيمان بالبعث، نسأل الله سبحانه أن يجعل القران الكريم ربيع قلوبنا ونور أبصارنا وذهاب همومنا وجلاء حزننا.

قوله تعالى:{لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} قيل:إن "لا" صلة، وجاز وقوعها في أول السورة لأن القرآن متصل بعضه ببعض، فهو في حكم كلام واحد ؛ ولهذا قد يذكر الشيء في سورة ويجيء جوابه في سورة أخرى، كقوله تعالى: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} . وجوابه في سورة أخرى: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ}. ومعنى الكلام: أقسم بيوم القيامة.
وحكى أبو الليث السمرقندي: أجمع المفسرون أن معنى "لا أقسم" : أقسم. واختلفوا في تفسير: "لا" قال بعضهم: "لا" زيادة في الكلام للزينة ، ويجري في كلام العرب زيادة (لا) كما قال في آية أخرى: {قال ما منعك أن لا تسجد}. يعني أن تسجد ، وقال بعضهم: "لا" : رد لكلامهم حيث أنكروا البعث، فقال: ليس الأمر كما زعمتم.
قلت: وهذا قول الفراء ؛ قال الفراء : وكثير من النحويين يقولون "لا" صلة ، ولا يجوز أن يبدأ بجحد ثم يجعل صلة ؛ لأن هذا لو كان كذلك لم يعرف خبر فيه جحد من خبر لا جحد فيه، ولكن القرآن جاء بالرد على الذين أنكروا البعث والجنة والنار، فجاء الإقسام بالرد عليهم (في كثير من الكلام المبتدأ منه وغير المبتدأ) وذلك كقولهم لا والله لا أفعل "فلا" رد لكلام قد مضى، وذلك كقولك: لا والله إن القيامة لحق، كأنك أكذبت قوما أنكروه. وأنشد غير الفراء لامرئ القيس:
فلا وأبيك ابنة العامري ... لا يدعي القوم أني أفر
وفائدتها توكيد القسم في الرد. قال الفراء : وكان من لا يعرف هذه الجهة يقرأ "لأقسم" بغير ألف ؛ كأنها لام تأكيد دخلت على أقسم ، وهو صواب ؛ لأن العرب تقول: لأقسم بالله وهي قراءة الحسن وابن كثير والزهري وابن هرمز {بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} أي بيوم يقوم الناس فيه لربهم ، ولله عز وجل أن يقسم بما شاء. {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} لا خلاف في هذا بين القراء ، وهو أنه أقسم سبحانه بيوم القيامة تعظيما لشأنه (ولم يقسم بالنفس). وعلى قراءة ابن كثير أقسم بالأولى ولم يقسم بالثانية.
وقيل: {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} رد آخر وابتداء قسم بالنفس اللوامة. قال الثعلبي: والصحيح أنه أقسم بهما جميعا. ومعنى: {بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} أي بنفس المؤمن الذي لا تراه إلا يلوم نفسه ، يقول: ما أردت بكذا ؟ فلا تراه إلا وهو يعاتب نفسه ؛ قال ابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم. قال الحسن: هي والله نفس المؤمن ، ما يرى المؤمن إلا يلوم نفسه: ما أردت بكلامى؟ ما أردت بأكلي؟ ما أردت بحديث نفسي؟ والفاجر لا يحاسب نفسه. وقال مجاهد : هي التي تلوم على ما فات وتندم، فتلوم نفسها على الشر لم فعلته ، وعلى الخير لم لا تستكثر منه. وقيل: إنها ذات اللوم.
وقيل : إنها تلوم نفسها بما تلوم عليه غيرها ؛ فعلى هذه الوجوه تكون اللوامة بمعنى اللائمة ، وهو صفة مدح ؛ وعلى هذا يجيء القسم بها سائغا حسنا. وفي بعض التفسير : إنه آدم عليه السلام لم يزل لائما لنفسه على معصيته التي أخرج بها من الجنة. وقيل: اللوامة بمعنى الملومة المذمومة عن ابن عباس أيضا - فهي صفة ذم وهو قول من نفى أن يكون قسما ؛ إذ ليس للعاصي خطر يقسم به ، فهي كثيرة اللوم. وقال مقاتل : هي نفس الكافر يلوم نفسه ، ويتحسر في الآخرة على ما فرط في جنب الله. وقال الفراء : ليس من نفس محسنة أو مسيئة إلا وهي تلوم نفسها ؛ فالمحسن يلوم نفسه أن لو كان ازداد إحسانا ، والمسيء يلوم نفسه ألا يكون ارعوى عن إساءته.
والله تعالى اعلم ،،،
يتبع بمشيئة الله ..
* المصدر: القرطبي
إعداد ـ أم يوسف: