[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/suodalharthy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]سعود بن علي الحارثي[/author]


ثانيا : عرض لتجارب بعض الدول الناجحة
عندما اتصل بي أحد الزملاء في برنامج «تنفيذ» طالبا مني إعطاء وجهة نظري في برنامج (تنفيذ)، كنت أعد حقيبة رحلتي المقدسة إلى المدينة المنورة ومنها إلى مكة المكرمة لأداء مناسك الحج، فاعتذرت له حينها مع التأكيد على أنني سأنظر في الأمر بعد عودتي إلى أرض الوطن، وطلبت منه أن يبعث لي عبر بريدي الالكتروني بأية محاور أو معلومات عن (تنفيذ)، وبعد أن اطلعت على التعريف بالبرنامج والقطاعات المستهدفة لتحقيق سياسات التنويع الاقتصادي والأهداف والخطوات وآلية المشاركة في حلقات العمل ... تساءلت ما هو الجديد ؟ وبماذا يختلف هذا البرنامج عن غيره من الخطط والبرامج والاستراتيجيات والدراسات والتوصيات والرؤى التي أطلقت على مدى العقود الماضية؟ وهل سيتمكن من إصلاح عثرات 2020 وتحقيق أهداف التنويع؟، وتابعت بعدها الكثير من المقالات والتغريدات والنقاشات في وسائل التواصل من قبل عدد من الكتاب والمشاركين في الحلقات النقاشية والمتابعين، وكانت النظرة التقييمية الأولية إلى (تنفيذ) تميل إلى التفاؤل الحذر، يستند الحذر أو القلق إلى العديد من التحديات التي رافقت رؤية 2020 وأدت إلى ضعف أو بطء تنفيذ الغايات والسياسات المحققة للتنويع الاقتصادي والتي لا تزال تطل على المشهد، وفي المقابل فقد تطورت واختلفت بعض المسارات والآليات والظروف ذات العلاقة بـ(تنفيذ)، والتي دعت إلى هذا التفاؤل وهو ما سوف استعرضه في قراءتي للبرنامج الوطني لتعزيز التنويع الاقتصادي في الجزئين الثالث والرابع من المقال. وما أتمناه وأدعو إليه أن نبتعد عن العواطف والانطباعات المتسرعة والاعتماد على المشاهد الأولية في تقييمنا وتقديم الآراء والملاحظات بشأن (تنفيذ) وغيره من المشاريع، فلا يكفي الحضور الواسع والالتزام بالوقت والمشاركة النشطة والتبريرات التنظيرية والشعارات الاعلامية، لكي نقدم رؤيتنا المتفائلة، فأمام المشروع العديد من التحديات التي تستوجب تحليلا دقيقا ورؤية واضحة وشفافية في الطرح ونقدا لاذعا علينا أن نعتاد عليه ونتقبله لتحقيق النجاح ومقارنات مهمة بين الماضي بمشاريعه وخططه ورؤاه والحاضر بتطوراته وظروفه وتحدياته، علينا أن تستوعبها، وعلينا كذلك أن نعي بأن المجتمع لم يعد يحتمل التجارب الفاشلة .

يأتي تضميني الجزء الثاني من هذا المقال لتجارب بعض الدول التي حققت نجاحات رائدة في الخروج من أزماتها الاقتصادية وتمكنت من اللحاق بالبلدان المتقدمة، وتغلبت على التحديات التي واجهتها وقدمت نفسها كنماذج يحتذى بها، لتحقيق جملة من الأهداف منها، أولا : التأكيد على قدرة أي بلد في العالم على النهوض والتقدم وتحقيق المعجزات مهما كانت ظروفه وشح موارده متى ما وجدت الدوافع والأسباب وروح التحدي والتصميم وشحذ الهمم والقيادة الفذة، وعمان لديها من الامكانات والمقومات والثروات التي تؤهلها لأن تصبح نموذجا آخر في المنطقة تنضم إلى تلك النماذج فيما لو وجدت المحفزات والمشجعات القادرة على استثمار وتوظيف كل الامكانات لتحقيق الأهداف وتمكنت من تشخيص ومعالجة التحديات أيا كانت، ثانيا: إن دول العالم تشترك في العديد من المحددات والعناصر وتختلف في جوانب كثيرة على ضوء النهج أو الفكر الاقتصادي المطبق - شكل النظام السياسي - الأوضاع الأمنية - طبيعة وثقافة المجتمع ومستوى أفراده التعليمي وأشكال الأزمات والتحديات التي تعاني منها، وعلينا قبل الاستعانة أو الاستفادة من أي تجربة أو نموذج أن نطرح عددا من التساؤلات المرتبطة بظروفنا وواقعنا وأنواع التحديات والصعوبات التي تقف أمام تحقيق الأهداف وأسباب الأزمة التي تعاني منها قطاعاتنا الاقتصادية ... هل نتيجة لضعف الموارد وشح الثروات؟ أم بسبب استشراء الفساد وتغلغله في أوصال المؤسسات وأصحاب النفوذ وغياب أسس التقييم وأدوات المحاسبة السليمة؟ أم بسبب نقص الخبراء الاقتصاديين وهشاشة النظام التعليمي ومخرجاته وغياب الأفكار والرؤى القيمة والأبحاث والدراسات التخصصية التي ينبغي أن تحظى بالأولوية متقدمة المراحل الأخرى لتهيئة الأجواء وإصلاح البيئة للنهوض والتقدم؟ أم يعزى ذلك إلى الفكر التقليدي لبعض المسئولين وتعقيد الاجراءات وقصور التشريعات ومشكلات يعاني منها الجهاز الاداري للدولة وتداخل الاختصاصات ؟ ... إلخ، وبالتالي مقارنتها بظروف التجربة التي نسعى للاستفادة منها وتطويرها وتطويعها لتتناسب مع ظروفنا ومن ثم تطبيقها على واقعنا، فمن بين الأدوات المتبعة لعلاج أي مشكلة
( محاولة إلقاء الضوء على تجارب شبيهة ناجحة والاستفادة منها بعد دراسة إمكانية تطبيقها)، فهل طرحنا تساؤلاتنا وتعرفنا على التحديات التي لا أشك بأن المسئولين على علم تام بها قبل التعاقد مع (وحدة الأداء والتنفيذ التابعة لحكومة ماليزيا ؟) وهل سيكون تعاملنا معهم على درجة عالية من الشفافية والاعتراف والمضي قدما في التصحيح لتحقيق النجاح ؟، أخيرا : للتأكيد بأن العديد من التجارب الاقتصادية الناجحة في عدد من البلدان وجدت قيادات ملهمة وشخصيات قيادية آمنت بأهمية التحولات فأعدت الخطط والبرامج والرؤى بما يتناسب مع طبيعة المشكلة والمجتمع والموارد المتوفرة وإدارتها بـ(عزيمة وهمة عالية وتحدٍ وإيمان بأهمية وجدوى التحول والتغيير، ما جعل من
هذه القيادات أيقونات تاريخية ملهمة)، وهو ما تطرقت إليه في الجزء الأول من هذا المقال، فمن الأهمية بمكان أن تدار هذه المشاريع والرؤى التي تهدف إلى تحقيق التنويع الاقتصادي من قبل شخصية معروفة لدى المجتمع تتحمل مسئولية الاخفاق والفشل فتحاسب عليه، أو النجاح وتحقيق الأهداف فتكافأ على ذلك، ومتى ما أوكلت المهمة إلى هذه الشخصية واستشعرت حجم المسئولية والتحدي وبأنها عرضة للتقييم والمساءلة حينها سنرى مستوى الفرق في العمل والنتائج ... فـ(تنفيذ) على سبيل المثال لا نعرف من هو المسئول والمشرف عليه ومن يقوده إلى بر الأمان والنجاح أو إلى متاهات الفشل، وتعدد المسئولية تفضي إلى التشتت وتبادل الاتهامات وتباين الآراء واختلاف التوجهات وإلى الفشل ؟ . إن دولة مثل كوريا الجنوبية وبرغم أنها لا تمتلك موارد طبيعية تقريباً وتعاني من اكتظاظ سكاني في مساحة صغيرة، وتشكل سوقا استهلاكية داخلية كبيرة، وكانت حتى العام 1960 من افقر دول العالم كغانا والسودان إلا أنها تحولت في فترة قصيرة لتصبح من بين (أسرع الاقتصادات نموًا في الفترة ما بين الستينيات والتسعينيات في القرن العشرين، وأيضًا كان اقتصادها من بين الأسرع نموًا في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين)، بالإضافة إلى اقتصاديات كل من هونج كونج وسنغافورة وتايوان، ذاك لأنها أخذت باستراتيجية الاقتصاد الذي يتوجه نحو التصدير، ففي 2012، كانت كوريا الجنوبية سادس أكبر مصدر وسابع أكبر مستورد على العالم. والبرازيل التي اعتمد اقتصادها على التصدير، أصبحت في المرتبة السابعة ضمن قائمة أكبر اقتصاديات العالم، وفي المرتبة الأولى في أميركا اللاتينية، وبعد أن كان (صندوق النقد الدولي يرفض إقراض البرازيل في أواخر عام 2002 أصبح بعد ثماني أعوام من العمل في برنامج لولا الاقتصادي مدين للبرازيل بـ 14 مليار دولار)، لقد اعتمدت التجربة البرازيلية في تطوير وتنمية اقتصادها على عدد من الركائز من أهمها (بناء تكامل اقليمي مع دول الجوار والانفتاح على اقتصاد الدول الصاعدة كالهند والصين). وفي القائمة يمكن أن نضيف سنغافورة التي تحولت من جزيرة صغيرة مقفرة بلا موارد إلى واحدة من أهم البلدان الاقتصادية في العالم ولاعبا رئيسيا في نادي الأغنياء، ورئيس الوزراء السنغافوري لى كوان يو وصانع نهضتها، يعترف بنفسه أن نهضة وتقدم بلاده اعتمدت في الأساس على الاستفادة من أفكار وخبرات وتجارب تنتمي إلى هذا الفضاء العالمي، حيث يقول :(منذ 25 عامـًا أحضر زملائي العالِم سيدنى بريمير للقائي، وكان عالمـًا متخصصـًا في علم الميكروبات، وشرح لي أن دولة صغيرة كسنغافورة إذا كانت لديها عزيمة وتبنت تطوير هذا العلم فإنها ستصبح ذات شأن؛ لأن هذه العلوم أساسية للتقنية، فقلنا فلنحاول، وبدأنا بتأسيس المعهد العلمي للجينات البيولوجية واستقدمنا خبراء من بريطانيا والسويد واليابان ووسعنا عملنا معهم). وتابع لى كوان يو قائلًا: فـ(نحن نجتذب المهارات من جميع مناطق العالم ونستخدم علماء يتحدثون اللغة الإنجليزية، حيث إننا من خلال هؤلاء الإخصائيين المهرة وبفضل تعاونهم معنا حققنا أكبر استفادة. جدير بالذكر أن نبيِّن أن الذين يأتون إلينا ويلتحقون بدراسات إنسانية في بلادنا، فإن بعضهم لا يعود لبلاده لأنهم يحصلون على ما يريدون وهكذا ننمو بسرعة)، وتعد سنغافورة اليوم بفضل هذا الانفتاح على التجارب والخبرات العالمية واحدة من أغنى دول العالم (في المرتبة الثانية عالميا). ولا يمكن أن ننسى في الاطار ذاته ماليزيا وتجربة محاضر محمد، الذي قاد الدولة الماليزية إلى نهضة حضارية تحولت فيها من دولة تعتمد كُلّياً على (الزراعة، وإنتاج وتصدير المواد الأولية، إلى دولة صناعية مُتقدمة يُساهم قطاعيّ الصناعة والخدمات فيها بنحو 90% من الناتج المحلي الإجمالي). كذلك فإن دولة مثل تركيا بقيادة حزب العدالة والتنمية، والتي بلغ ناتجها الإجمالي المحلي 800 مليار دولار أميركي في عام 2014 مقارنة ب 305 مليار دولار أميركي في 2003. وتبوأت المركز السادس عشر بين أكبر الاقتصاديات في العالم وسادس اقتصاد (مقارنةً بدول الاتحاد الأوروبي في عام 2013). أضحت مصدر إلهام لعدد من بلدان الأسواق الصاعدة، حيث زارها ما يزيد عن 20 وفداً من (الهند وأوزبكستان وكوسوفو وكينيا وأوكرانيا، للتعرف على كيفية الإصلاح الذي اعتمدته لنظام الرعاية الصحية، والتعليم الثانوي، وإعادة هيكلة الجهاز المصرفي، وإدارة المالية العامة ... ) في تأكيد على أن هذه التجارب الرائدة يقف خلفها ملهمون وأصبحت في الوقت ذاته متاحة لمعدي ومنفذي السياسات والبرامج الاقتصادية في مختلف دول العالم العازمة والماضية قدما في إصلاح اقتصاداتها وتكييفها بما يتناسب مع ظروفها، فمعظم اقتصاديات الدول الكبرى والنامية تستفيد اليوم من خبرات بعضها وتأخذ ما يناسبها من تجاربها الناجحة وتستقدم خبراء عالميين لإلقاء محاضرات وتنظيم ندوات متخصصة وتقديم أفكار تنويرية وإعداد خطط وبرامج تبتغي إصلاح وتحسين وتهيئة المناخ الاستثماري المحفز للقطاع الخاص وتعزيز الموارد وتطوير القطاعات الاقتصادية بشكل عام، بل إن الكثير من دول العالم المتقدمة والصاعدة تستقطب خبرات وكفاءات مشهودة وفي تخصصات متنوعة وتقدم لها الجنسية لضمان بقائها وولائها وإخلاصها في البحث والعمل والابتكار وإجراء التجارب وتقديم خلاصة أفكارها وخبراتها. إن الانفتاح على التجارب الاقتصادية التي حققت نجاحات كبيرة وتمكنت من بناء اقتصادات قوية وقدمت نفسها نماذج عالمية في هذا المجال واستخلاص الأسباب التي مكنتها من تبوؤ هذه المكانة والاستفادة منها في بناء نهضة اقتصادية شاملة قادرة على تجاوز الواقع الذي فرضه التراجع الحاد في أسعار الذهب الأسود من الأسباب الرئيسة لتحقيق النجاح .

[email protected]