”مخلوقات الوهم, كمثل الشعب التلمودي, يسعون دائما في تزوير حقائق الواقع والتاريخ حتى تبدو متوافقة مع أوهامهم الفكرية والدينية, وكأن الحقيقة هي كل ما يقيم الدليل على صدق ما تضمنه "العهد القديم"; أما رجال الحقيقة فيحرصون كل الحرص على تطوير أفكارهم ومعتقداتهم بما يجعلها أكثر توافقا مع الواقع وحقائقه.”

[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/jawadalbashity.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]جواد البشيتي[/author]

... وإنَّها لضربة عنيفة تلك التي وجَّهتها "اليونيسكو" إلى أساس الأوهام التلمودية إذ أكدت في قرار تاريخي لها أنْ لا صلة لليهود، دينًا وثقافةً وتاريخًا، بالمسجد الأقصى، ولا حتى بحائط المبكى!
لقد برز نتنياهو, أو أبرز نفسه, في هيئة "رجل الحقيقة", السادن لها, والمتحدث باسمها, إذ وصف الصراع الذي تخوضه إسرائيل من أجل تهويد القدس الشرقية بأنه صراع من أجل الحقيقة، أي من أجل إظهارها, وانتصارا لها.
وإنصافا للحقيقة أقول إن الإسرائيليين واليهود على وجه العموم يؤمنون بأن حقيقة القدس موجودة في التوراة؛ وهُمْ، من ثمَّ، لا يكترثون لـ"الحقيقة", وإنما لما يتوهمون أنه حقيقة; وليس يصح في الإفهام شيء إذا احتاج النهار إلى دليل; وإن الإنسان الذي استبدت به الأوهام التلمودية هو من جنس أولئك الذين يجادلون, طالبين دليلا على وجود النهار!
اسألْ كل يهودي ضيق الأفق, ومؤلف كتاب "مكان تحت الشمس", أي نتنياهو, "لمن القدس?", فيجيبك على البديهة قائلا "إنها للشعب اليهودي; وإنها له, عاصمة, منذ ما يزيد عن ثلاثة آلاف سنة"; ثم اسأله عن الدليل والبرهان, فيأخذك إلى "العهد القديم", الذي فيه ذكر "صهيون", أي الاسم العبري للقدس, بحسب زعمه, 850 مرة; وكفى الله ممثلي أوهام "العهد القديم" شر التاريخ, علما وحقائق, وشر العقل والمنطق, فإن هؤلاء الذين لا يستطيعون العيش في أي مكان تحت الشمس يتخذون مما هو في حاجة إلى إثبات (أي مزاعم التوراة) دليل إثبات.
ما الفرق النوعي بين مخلوقات الوهم ورجال الحقيقة؟
مخلوقات الوهم, كمثل الشعب التلمودي, يسعون دائما في تزوير حقائق الواقع والتاريخ حتى تبدو متوافقة مع أوهامهم الفكرية والدينية, وكأن الحقيقة هي كل ما يقيم الدليل على صدق ما تضمنه "العهد القديم"; أما رجال الحقيقة فيحرصون كل الحرص على تطوير أفكارهم ومعتقداتهم بما يجعلها أكثر توافقا مع الواقع وحقائقه.
القدس (أو التي يسمونها صهيون) لهم; لأن فلسطين لهم; وفلسطين لهم; لأنها "أرض الميعاد"; ولكن ما هي هذه التي يسمونها "أرض الميعاد"؟
إنها في منزلة أرومة شجرة أوهامهم الدينية, فالرب, على ما يزعمون, خاطب أبرام العبراني, قائلا: "لنسلك أعطي هذه الأرض, من نهر مصريم (نهر مصر, أي النيل) إلى نهر فرت (نهر الفرات").
ومن هذه الخرافة, التي لا يؤمن بها على أنها حقيقة إلا إنسان القرن الحادي والعشرين قبل الميلاد, استمدوا شرعيةً لجعل فلسطين (التي كانت أرضا تخص العرب) دولة قومية لجماعة بشرية, تنتمي بالدين فحسب إلى جماعة بشرية بادت عرقا منذ آلاف السنين, وكأن الحقوق القومية تبقى ولو باد أصحابها من الشعوب!
وها هو ممثل الأوهام التلمودية يخاطب بشر القرن الحادي والعشرين بعد الميلاد قائلا: "إننا موجودون في القدس منذ ما يزيد عن ثلاثة آلاف سنة; فهذه هي الحقيقة البسيطة"!
لقد قنط نتنياهو من الجهود المضنية التي بذلها علماء الآثار الإسرائيليون (منذ احتلال إسرائيل للضفة الغربية والقدس الشرقية) لإثبات أن لـ"الشعب اليهودي" حقا دينيا وتاريخيا في أرض فلسطين, وفي العاصمة الموحدة الأبدية على وجه الخصوص.
ولا شك في أن النتائج قد ذهبت بأوهامه التلمودية إذ أكد علماء آثار يهود, بعد البحث والحفر والتنقيب في "مدينة داود" في حي سلوان في القدس الشرقية, أن لا شيء هناك يدل على أن داود كان له قصرا, حيث بحثوا وحفروا ونقبوا, أو أن ذلك المكان عرف داود، أو عرفه داود.
وأخص بالذكر من هؤلاء المحاضر في جامعة تل أبيب رافاييل جرينبرج, الذي قال "لم نعثر على شيء", وعالم الآثار في الجامعة نفسها البرفيسور إسرائيل فنكلشتاين الذي قال "هؤلاء يخلطون الدين بالعلم.. المنظمات اليهودية اليمينية المتطرفة (كجمعية إيلعاد) لم تعثر على قطعة أثرية واحدة من قصر النبي داود", وعالم الآثار المستقل البروفيسور يوني مزراحي الذي قال "لم نعثر على لافتة مكتوب عليها مرحبا بكم في قصر داود"!
التاريخ، الذي لم يتركوا لهم أثرا فيه; لأنهم عاشوا دائما في خارجه, يقول لهم "القدس ليست لكم", فيرد له الدجال نتنياهو الصاع صاعين, قائلا له "بلى، إنها لنا, فالتوراة قالت إنها لنا", فكيف لهذا أن يجنح للسلام مع الفلسطينيين وهو الذي يأبى أن يجنح للسلام مع العقل؟!
إنَّ البشر ضيِّقي الأفق (بسبب مصالحهم الفئوية الضيقة) لا رادع يردعهم عن إنكار بديهية هندسية إنْ تعارضت مع مصالحهم؛ ولقد أنكر أبناء الأوهام التلمودية ما يشبه تلك البديهية إذ رفضوا تصديق ما أتاهم به علم التاريخ، وعلم الآثار، من أدلة مفحمة على أنَّ الحرم الإبراهيمي في الخليل لا يضم رفات "إبرام العبراني"، الذي، في زعمهم، وعده الرَّب قائلًا: "لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصريم (النيل) إلى نهر فرات (الفرات)".
وأحسب أنَّ الرَّب، الذي حرَّم على موسى وأخيه هارون دخول "أرض كنعان"؛ لأنَّهما لم يمجِّداه أمام جماعة بني إسرائيل في برية صين، عند ماء مريبة، لا يمكن أن يحلِّل للصهاينة ما حرَّمه على كليمه.
واتجهوا بعيونهم التلمودية شرقًا، فرأوا ما أسموه "التاريخ اليهودي في الأردن"؛ ولقد نشروا قائمة طويلة بأسماء "مواقع توراتية في الأردن"، متحدثين باهتمام مريب عن قبر "النبي يوشع"، و"جبل هارون"، و"سادوم وعاموره"، و"جلعاد"، و"جبل نبو"، أو "جبل عباريم"، الذي صعد إليه البابا بندكتوس السادس عشر لينظر من قمَّته إلى "الأرض التي أعطاها الرَّب لبني إسرائيل"، وليَتَّخِذ من وقفته على هذا الجبل جسرًا للمصالحة بين كنيسته الكاثوليكية و"الشعب اليهودي"!
وَلْنَتَذَكَّر، في هذا الصدد، تلك النتائج المُغْرِضة التي انتهت إليها أبحاث أثرية، والتي بحسبها كان لسليمان (وريث الملك داود في الحكم) مناجم نحاس شمال البحر الميت في الأردن!