[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/suodalharthy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]سعود بن علي الحارثي[/author]
” .. النهضة الاقتصادية في اي بلد مرهون نجاحها وتحقيقها لغاياتها بعدة اعتبارات وعوامل ودوافع يأتي في مقدمتها نجاح مؤسسات التعليم في تقديم مخرجات قوية في مختلف التخصصات العلمية خاصة تلك المرتبطة بالمحاور والسياسات والقطاعات المستهدفة ومجالاتها التي يرتبط نجاحها بإسهام الكفاءات الوطنية في قيادتها والعمل في قطاعاتها والإيمان بها،”

ثالثا : (تنفيذ) بين التحديات والمحفزات .
البرنامج الوطني لتعزيز التنويع الاقتصادي (تنفيذ) يفترض أن يمثل لبنة أساسية لقيام نهضة اقتصادية عمانية تتسم بالتكامل والشمولية والاستدامة والاتساع التدريجي لتشمل مختلف القطاعات الأساسية، وأن يلبي تطلعات المجتمع في مسيرة النمو والازدهار والرخاء وتطوير التعليم وتوفير فرص عمل تلبي الطموح وتتواكب مع التخصصات العلمية وتعزيز الأمن والاستقرار ... إذ لا يختلف اثنان اليوم على أن سياسة تنويع مصادر الدخل يجب أن تأخذ الأولوية في سلم المشاريع والعمل الوطني، وان تتصدر اهتمامات أصحاب الاختصاص من مسئولين ورجال أعمال وأثرياء وقادة المجتمع خاصة في بلادنا، فالاقتصاد شريان الحياة وقوته ومتانته وتعدد موارده يعلي من مكانة عمان الداخلية والخارجية ويسهم في نجاح ورسوخ سياساتها المستقلة والحفاظ على مكاسبها وإنجازاتها التنموية ويحفظ لها استقلاليتها في اتخاذ القرار والتعبير عن آرائها ومبادئها في التعامل مع مختلف الملفات السياسية ... ولكن وفي المقابل علينا أن نعترف ونقر أولا بأن تحقيق أهداف وغايات البرنامج الوطني وغيره من المشاريع المشابهة ليس بالأمر اليسير فالتحديات عويصة والاشكالات متداخلة ومتشابكة وتحتاج إلى قرارات جريئة وتضحيات صعبة... فالنهضة الاقتصادية في اي بلد مرهون نجاحها وتحقيقها لغاياتها بعدة اعتبارات وعوامل ودوافع يأتي في مقدمتها نجاح مؤسسات التعليم في تقديم مخرجات قوية في مختلف التخصصات العلمية خاصة تلك المرتبطة بالمحاور والسياسات والقطاعات المستهدفة ومجالاتها التي يرتبط نجاحها بإسهام الكفاءات الوطنية في قيادتها والعمل في قطاعاتها والإيمان بها، فهل تمكنت مؤسساتنا التعليمية من تقديم مخرجات قادرة على متابعة وتنفيذ خطط وسياسات البرنامج الوطني وضمان نجاحه والانتقال إلى المراحل الأخرى المتتالية في تحقيق النهضة الشاملة ؟ وهل تم الأخذ في الاعتبار الاحتياجات الحالية والمستقبلية والاعداد لها بما يجب ؟ أم أن الأمر سيسند إلى كفاءات أجنبية كما هو الحال مع الرؤى والاستراتيجيات والخطط السابقة ؟. لقد مرت البلاد منذ منتصف العام 2015م، بأسوأ أزمة اقتصادية لم نكن للأسف الشديد في حالة توقع لحدوثها ولا على أهبة استعداد للتعامل معها ومع نتائجها وآثارها الخطيرة، رغم الدراسات والرؤى والاستراتيجيات والندوات واللجان والسياسات والتوصيات...التي بدأت مبكرا في مطلع الثمانينيات وكان محورها الأساسي وأولوية غاياتها تحقيق سياسات تنويع مصادر الدخل وتعزيز الموارد واستثمار المقدرات وتنمية القطاعات الاقتصادية العديدة، السياحية والسمكية والبشرية والصناعية والمعرفة والمعادن والمحاجر والموقع الاستراتيجي وتهيئة البنى التحتية والمشاريع الانمائية وخاصة الموانئ والمطارات والطرق والمصانع لتحقيق تلك الرؤى ... والمضي في تنفيذ برنامج زمني يحقق هدف الاستغناء التدريجي عن النفط، مع ما رافق تلك الجهود آنذاك من شعور طاغي بخطورة اعتماد اقتصاد البلاد على مورد واحد معرض للنضوب والتلاعبات والتجاذبات السياسية وتذبذب أسعاره في أسواق العالم، وقد كانت توقعات الخبراء والاقتصاديين في نهايات الثمانينيات وبدايات التسعينيات تشير إلى نضوب النفط ما بين 2018 - 2025 م، فهل يمكن أن ندعي بأن الخطط والبرامج والسياسات والشعارات التي أطلقت عبر العقود الماضية وما زالت تطلق من قبل مسئولينا ووزراء الحكومة في مختلف مؤسساتها والمضمنة في الموازنات السنوية والخطط الخمسية ورؤية 2020 ، واستراتيجيات التعليم والسياحة والقطاعات الاقتصادية الأخرى تحقق أهدافها وتسير وفقا لما هو مخطط لها وأدت إلى الرضا المجتمعي وقادرة على الحفاظ على مستوى معيشته، وكانت على درجة عالية من الاستعداد مع أية محنة تتعرض لها أسعار النفط كما حدث الآن ؟ وهل حققت القطاعات الإنتاجية الرئيسية التي يعول عليها في تنويع مصادر الدخل الوطني النسب المستهدفة لمساهمتها في الناتج المحلي الاجمالي للبلاد خلال الخطط الخمسية المتعاقبة التي أعدت في اطار الرؤية المستقبلية للاقتصاد العماني (عمان2020) ؟؟ وأين نقف من تحقيق الهدف الرئيسي للرؤية القاضي بأن تتراجع نسبة مساهمة النفط الخام إلى 9 % فقط من الناتج المحلي بحلول عام 2020م ، ونحن على وشك أن ننهي السنة الأولى في الخطة الخمسية الأخيرة من هذه الرؤية ؟ . إن الحقيقة الماثلة أمامنا تؤكد على أننا وللأسف الشديد لم نتمكن من تحرير الاقتصاد الوطني على مدى العقود الأربعة الماضية من قيود الاعتماد على الايرادات النفطية، فظل رهينة لتقلبات أسعاره التي تخضع لظروف وأسباب عالمية وتعتمد على نسب العرض والطلب وحجم ونمو اقتصاديات الدول الكبرى وسياساتها القائمة على المصالح والصراع فيما بينها، ورغم سنوات الرخاء التي شهدت ارتفاعا في أسعار النفط إلا أن تلك الخطط والسياسات لم تنجح في استثمار فوائض الأموال المحصلة منه في تنمية القطاعات الأخرى المشار إليها أعلاه، ؟ ورغم التوسع في برامج وإقامة وتنفيذ المشاريع الخدمية ودعم قطاعات الصحة والتعليم والاسكان والكهرباء والماء وغيرها إلا أننا في المقابل لم نحدث ونطور سياسات وآليات وأنظمة متقدمة للتوظيف ولم نربطها بقيم المنافسة الشريفة والكفاءة والجودة ما أدى إلى اشكالات وتحديات عديدة في سوق يقوم على منافسة ومزاحمة الأجنبي واستحواذه على معظم القطاعات والأنشطة وعلى التجارة المستترة، ولم تستهدف الموازنات والخطط أو أنها لم تقرن الأرقام والأهداف بآليات تنفيذ واضحة ودقيقة أو أنها أخفقت في اقامة مشاريع صناعية وتجارية وسياحية وتطوير برامج التعليم وتنظيم سوق العمل بما يكفل قيام تنمية مستدامة تتسم بالشمولية وتبتغي رفع الانتاجية وزيادة الكفاءة والنمو الاقتصادي وتوليد فرص عمل حقيقية وتعزز أنشطة البحث واستخدام وتوظيف التكنولوجيا وتحسين أداء المؤسسات وتحويل المجتمع إلى مجتمع معلوماتي وإعداد وتشجيع سياسات وطنية للابتكار والابداع. فأين يا ترى يكمن الخلل؟، هل في ضعف امكانات وقدرات المسئولين والوزراء الحكوميين أو بعضهم؟ أم في الآليات والسياسات والخطط والاستراتيجيات التي تم الاعلان عنها أم في مراحل التنفيذ وعدم ربطها بخطوات عملية دقيقة؟ هل في الجهاز الإداري للدولة من حيث (الترهل والتضخم وسوء الإدارة وتداخل الاختصاصات ... ) وضعف العمل المؤسسي في مجالات (التشريع والرقابة والمحاسبة) ... ؟ وهل تمكنا من تشخيص ومعالجة التحديات التي واجهت الخطط والبرامج والسياسات السابقة ورؤية 2020 وتشخيصها قبل انطلاق (تنفيذ) وذلك بما يضمن نجاحه ويقيه عثراتها؟ الأسئلة عديدة ومتناسلة وفي محاولة للإجابة عليها فعلينا أن نعرض للتحديات والمعوقات والصعوبات التي واجهت مختلف المشاريع والخطط والرؤى السابقة وأضعفت من تحقيقها لأهدافها في تعزيز التنويع الاقتصادي والاستغناء التدريجي عن النفط، ووفقا لقراءاتي ورؤيتي الشخصية فتتمثل في الآتي :

* سيادة لغة الخطاب الإعلامي وإعداد التقارير الموجهة لتحقيق غايات التسويق والترويج التي تعدها الوزارات والجهات الحكومية، والشعارات والأٌقوال التي تطلق من قبل المسئولين والمشرفين على تنفيذ الرؤى والمشاريع والخطط والبرامج وتحقيق الأهداف ذات البعد الاقتصادي خاصة، والتعامل مع العديد من المشكلات والتحديات الاقتصادية والاجتماعية والادارية، واللجوء إلى عقد الندوات وتشكيل اللجان والتعاقد مع الخبراء العالميين لإجراء الدراسات وتقديم التوصيات، دون أن يرافقها خطوات عملية ونتائج حقيقية لتنفيذ التوصيات والدراسات التي تم التوصل إليها، وهو ما كلفنا الكثير من الأموال والجهود وتأخر النتائج العملية لسنوات.
* تعززت خلال العقود الماضية ثقافة المصالح الفردية واتجه عدد من المسئولين إلى تحقيق منافعهم الشخصية في توظيف سييء للمسئولية ما أدى إلى العبث بالمال العام وتعطيل وتأخير القوانين وتداخل المصالح وتعدد المسئوليات التي توكل إلى فرد واحد، وعدم الاستفادة من الدروس والتجارب والخبرات التي قدمتها الأحداث الاقتصادية والاجتماعية، ما أعاق تحقيق الكثير من الجهود المتعلقة بسياسات تنويع مصادر الدخل والاستغناء التدريجي عن النفط الذي ظل طوال العقود الأربعة الماضية السلعة الأساسية التي يعتمد عليها الاقتصاد الوطني للأسف الشديد ما أوقعنا في هذا الفخ الذي نعاني منه الآن.
* ضعف أداء وكفاءة عدد من المسئولين وعدم قدرتهم على التطوير والتحديث، ووقوفهم حجر عثرة أمام تنفيذ الكثير من الرؤى المهمة والأفكار القيمة، وكانوا سببا في فشل العديد من الخطط والبرامج ذات العلاقة بتنويع الدخل، وتجاهلهم لثقافة النقد البناء والرأي الرصين، وتشكيكهم في وطنية الآخر واتهامه بشتى الاتهامات وإبعاده عن سلطة اتخاذ القرار، عندما يمارس حقه في النقد الموضوعي والرقابة الفردية وطرح آرائه بشفافية ووضوح والاسهام والمبادرة في تقديم المشورة التي تتعارض أحيانا مع بعض القرارات والممارسات والسياسات، والمطالبة بتفعيل وتعزيز دور المؤسسات الرقابية والتشريعية وغير ذلك من القضايا الوطنية ... ما أدى إلى هروب كفاءات مهمة من القطاع الحكومي إلى الخاص .
* التعقيدات والإجراءات الطويلة في التعامل مع الطلبات وإنهاء المعاملات، والمركزية والبيروقراطية في اتخاذ القرارات وغيرها من الملاحظات التي ظلت مستعصية على العلاج على مدى سنوات طويلة، وتنفر المستثمر الأجنبي من الاستثمار في الداخل وتدفع بالأموال العمانية إلى الخارج، وما زالت القوانين والأنظمة والبيئة وثقافة العمل والإجراءات الأخرى تقف عقبة أمام نمو وتطور واتساع قطاع الشركات الصغيرة والمتوسطة والقطاعات الأخرى الصناعية والتجارية وغيرها.
* غياب أدوات الاشراف والتقييم والمحاسبة والمساءلة، وضعف المؤسسات المعنية بهذا الجانب وجمود اختصاصاتها بشقيه القانوني والممارسة العملية، مع الادراك التام بأهمية المحاسبة ودورها الأساسي في تحقيق انجازات ملموسة والضغط على المسئولين ودفعهم إلى العمل والبذل والعطاء والإخلاص والأمانة والنجاح ... وإلا فإنهم أمام تقييم ومساءلة وحساب، هذا جانب ومن جانب آخر يتنامى الوعي المجتمعي المطالب بتعزيز المحاسبة، وفي قراءتي لعدد من المقالات فإن غيابها بالنسبة لـ(تنفيذ) يمثل قلقا حقيقيا لكتابها، كما أن الترهل وضعف الأداء الحكومي وتداخل الاختصاصات وتعدد الأنظمة الإدارية، وتأخر العمل في إجراء إصلاح شامل للجهاز الإداري للدولة جميعها ساهمت وما تزال في ضعف نتائج الخطط والبرامج والرؤى التي أطلقت وما تزال.
* ظلت أسعار النفط طوال العقود السابقة في الحدود المطمئنة المحققة للحاجة، وحتى إن شهدت تراجعا وهبوطا في الأسعار، فلا تلبث أن تعاود الارتفاع والتصحيح خلال أشهر قليلة، ما أشعر المسئولين وصناع القرار لدينا بالاطمئنان والاستكانة، والاعتماد على هذا السيناريو الذي استمر طويلا، وقد ساهم ذلك كذلك في التوسع في الإنفاق، ومن تابع تصريحات عدد من المسئولين في بدايات الأزمة النفطية في 2015م يجد أنهم ما يزالوا على هذه القناعة، وكانت المسألة بالنسبة لعدد منهم مسألة وقت، هذا العامل كان واحدا من أسباب الخمول والكسل والتباطؤ في عدم تحقيق الرؤى والخطط السابقة لسياسات التنويع الاقتصادي .
* ظلت مخرجات التعليم على مدى العقدين الماضيين محل انتقاد من قبل القطاعين الحكومي والخاص، وانحصرت معظم الملاحظات في ضعف التخصصات وعدم قدرتها على تحقيق الاشباع والاحلال في الوظائف الفنية والبحثية والاستشارية التي يعتمد عليها كبار المسئولين في الوزارات والمؤسسات الحكومية بما في ذلك الاكاديمية والهيئات المتخصصة، وما زالت الكثير من الوظائف تعتمد على العنصر الأجنبي والخبرات الخارجية خاصة في التخصصات الدقيقة، هذا جانب ومن جانب آخر فإن معظم الدول الناهضة والتي حققت نموا واسعا وتقدما كبيرا في مختلف المجالات والقطاعات استثمرت أول ما استثمرت في التعليم وقامت بإصلاح مناهجه وسياساته وتخصصاته، على اعتبار أنه المقدم على كل نهضة ولا نجاح لأي تقدم وتطلع في عالم اليوم بمعزل عن التعليم، بل إنها تجاوزت التخصصات العادية التي تشبع منه سوقها واتجهت إلى الدقيقة التي يحتاجها العصر لتحقيق التقدم والنهضة واللحاق بالركب الحضاري منها على سبيل المثال لا الحصر: الطب والوراثة وتكنولوجيا المعلومات وبرامج الحاسوب والأحياء الجزيئية والفضاء ... وإذا ما أردنا أن نحقق النجاح فعلينا بالتعليم أولا فكل نهضة لا قيمة لها إن لم تنفذ بيد أبنائها .
فهل ما زالت هذه التحديات موجودة جاثمة على المشهد الوطني أم تمت معالجتها تمهيدا لبرنامج (تنفيذ) ووقاية له من الفشل وتعزيزا لتحقيق الأهداف والغايات التي من أجلها انطلق؟ من وجهة نظري فإن العديد من تلكم التحديات ما تزال موجودة، وبعضها تراجعت حدتها وضعفت آثارها، ولدينا في المقابل عوامل ودوافع أخرى استجدت يمكن أن تسهم في إنجاح (تنفيذ) وفقا للقراءة الأولية، وهو ما سنعرضه في الجزء الرابع والأخير من هذا المقال، ولكن مع ذلك فإن الصعوبات التي استعرضتها ستظل عنصر تحد لهذا المشروع وغيره من الخطط والبرامج والمشاريع القادمة وإذا ما أردنا تحقيق النجاح في إطلاق نهضة اقتصادية شاملة وهي ما يعول عليه المجتمع، فعلينا معالجة تلك التحديات والتمهيد لقيامها وفقا لرؤية جديدة تتناسب مع التحديات والظروف وما يشهده العصر من تطورات شاملة في مختلف المجالات .

[email protected]