”إن الترحيب بمواقف دول الاتحاد الأوربي بشأن انتقادها لتهويد الأرض الفلسطينية واستيطانها، لا تعفي من ضرورة التحرك العربي السياسي والدبلوماسي لحث تلك الدول على الانتقال بمواقفها وتطويرها نحو آفاق جديدة، تستطيع من خلالها ممارسة الضغط الجدي على "إسرائيل"، والكف عن الضغط على الطرف الفلسطيني عبر التلويح بوقف الإمداد المالي من الدول المانحة للسلطة الفلسطينية، كما فعلت بريطانيا قبل أيام من خلال وقف توريد مبلغ (25) مليون دولار للسلطة الفلسطينية.”

[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/alibadwan.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]علي بدوان[/author]

لم تأتِ مجموعة دول الاتحاد الأوروبي بالجديد، حين أعلنت مؤخرًا عن قلقها تجاه موافقة سلطات الاحتلال "الإسرائيلي" على بناء وحدات استيطانية جديدة في مناطق مُختلفة بالضفة الغربية، بما فيها توسيع مستعمرة (بيت إيل) قرب ريف نابلس.
الاتحاد الأوروبي كرر القول بأن "بناء الوحدات الاستيطانية إجراء غير قانوني، ويتعارض مع التوصيات الواردة في تقرير اللجنة الرباعية لعملية السلام بالشرق الأوسط، ويضعف احتمالات التوصل إلى حل الدولتين في إطار عملية السلام، ويجعل من إمكانية قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة أكثر بُعدًا". لكن القول إياه لا رصيد له على أرض الواقع، فمواقف مجموعة الاتحاد الأوروبي ما زالت لفظية، ولم ترتقِ حتى الآن إلى عداد المواقف الحازمة من السياسات "الإسرائيلية"، حيث ما زالت تراوح مكانها عند حدود المناشدات الأخلاقية التي "لا تُسمن ولا تُغني عن جوع"، فيما تَستَمِرُ سلطات الاحتلال "الإسرائيلي" في تحدي المجتمع الدولي بأسره، غير آبهة بالمواقف اللفظية الخجولة، الناعمة، المخملية، والطرية، التي تُطلقها مجموعة دول الاتحاد من حين لآخر بشأن القضية الفلسطينية، ومسألة مصادرة الأراضي وتهويدها.
لقد شَهِدَ الربع الثاني من العام 2016 أعلى مُعدلات للبناء والتهويد في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، حيث تسعى سلطات الاحتلال حاليًّا، وبالواقع العملي على الأرض، لتحقيق المزيد من الفصل بين مدينة رام الله (وسط الضفة الغربية) عن مدينة نابلس شمال الضفة الغربية، وتقطيع المساحات بينهما بكتل مُتفرقة من المُستعمَرات، وبالتالي في إحداث المزيد من التمزيق للأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967، والتقليل من إمكانية نجاح حل الدولتين على المدى الاستراتيجي، بل ووأد هذا الحل وإهالة التراب عليه.
وفي حقيقة الأمر، إن العلاقة السياسية والمالية والعقائدية بين "إسرائيل" والحركة الصُّهيونية وصناع القرار في مجموعة دول الاتحاد الأوربي ومجموعات اليمين المتطرف راسخة ومتينة، وتقوم على رؤية مشتركة من المصالح ذات الأبعاد الاستراتيجية، وهنا نستحضر ما سبق أن قاله رئيس وزراء اسبانيا الأسْبَق (خوسيه ماريا أزنار) من أن "إسرائيل" جزء لا يتجزّأ من العالم الغرْبِي. ولا ننسى هنا أن مُعظم المنابر ووسائل الإعلام الغربية تُسَوِّقُ سياسات ومواقف "إسرائيل"، فضلًا عن الدَّعْم الاقتصادي والعسكري الأوروبي الكبير لـ"إسرائيل" حتى وإن تراجع منسوبه عن العقود الماضية.
إن اللوبي اليهودي الصهيوني، في العديد من دول مجموعة الاتحاد الأوروبي يلعب دورًا كبيرًا في تحقيق ربط المصالح بين المنظمات الصهيونية مثل "وقف حلفاء إسرائيل" و"التحالف الأوروبي من أجل إسرائيل"، ومراكز القرار في تلك الدول، وجميع هذه المنظمات مُرْتَبِطَة بالسياسات اليمينية المتطرفة، ولها علاقات بأحزاب اليمين المتطرف في فرنسا وبلجيكا وهولندا وغيرها، حيث ضَغَطَتْ هذه المجموعات على الاتحاد الأوروبي (وعلى حكومات الدّول) من أجل تَطْوير العلاقات التجارية بين مجموعة دول الاتحاد الأوروبي و"إسرائيل"، مع التركيز على تجارة الأسلحة، وتجريم حركة المُقَاطَعَة لمنتوجات المستوطنات والتي بادرت إليها العشرات من الجهات المدنية ومؤسسات المجتمع المدني في بلدان الاتحاد الأوروبي، رغم طابعها الحضاري والسلمي.
إن الترحيب بمواقف دول الاتحاد الأوروبي بشأن انتقادها لتهويد الأرض الفلسطينية واستيطانها، لا تعفي من ضرورة التحرك العربي السياسي والدبلوماسي لحث تلك الدول على الانتقال بمواقفها وتطويرها نحو آفاق جديدة، تستطيع من خلالها ممارسة الضغط الجدي على "إسرائيل"، والكف عن الضغط على الطرف الفلسطيني عبر التلويح بوقف الإمداد المالي من الدول المانحة للسلطة الفلسطينية، كما فعلت بريطانيا قبل أيام من خلال وقف توريد مبلغ (25) مليون دولار للسلطة الفلسطينية.
في هذا السياق لا بد من الإشارة إلى تمايز مواقف بعض دول الاتحاد عن غيرها، بشأن الموضوع الفلسطيني. فقد قررّ المؤتمر العام لحزب (سيريزا) الحاكم في اليونان، وبالإجماع، في نهاية مؤتمره العام قبل أيام خلت، دعوة حكومة بلاده للاعتراف بدولة فلسطين المُستقلة، ودعا إلى تقديم كل الدعم المطلوب لفلسطين، في خطوة جديدة تأتي في سياق المواقف اليونانية الإيجابية تاريخيًّا من القضية الوطنية للشعب العربي الفلسطيني، حيث تميّزت اليونان عن غيرها من دول الاتحاد الأوروبي بمواقفها المُتقدمة مُبكرًا، والداعمة للشعب الفلسطيني، ولنا أن نستذكر، وأن نُدرك في هذا المقام معنى اختيار الرئيس الراحل ياسر عرفات اليونان كأول بلد وطأت قدماه فوق أرضه بعد الخروج الفلسطيني من بيروت نهاية أيلول/سبتمبر 1982، حين غادر ياسر عرفات بيروت على متن السفينة (سولفرين) نحو تونس وعبر اليونان، التي توقف فيها ليومٍ كامل، وليلة، واستقبله في حينها رئيس وزرائها أندرياس باباندريو، في فعالية لافتة للانتباه عكست مواقف اليونان والشعب اليوناني من الشعب الفلسطيني.
إن دلالات المواقف التاريخية للشعب اليوناني من القضية الفلسطينية نجدها في محطات كثيرة ومُتعددة، ولنا دلالة صارخة في مواقف أحزاب اليونان، في البرلمان وخارجه، التي تَختلِفُ بين بعضها البعض على كل شيء تقريبًا، لكنها تُجمع على دعم الشعب الفلسطيني، وضرورة الاعتراف بفلسطين كدولة سيادية تُمثّل الشعب العربي الفلسطيني.
وكان برلمان اليونان ايضًا، قد رفع بدوره العام الماضي (توصية) للحكومة اليونانية، وبالإجماع، وفيه يدعوها للاعتراف رسميًّا بدولة فلسطين في الوقت المناسب، وحدّد اعترافها اللاحق السيادي بالدولة الفلسطينية بأنها تقوم على أساس حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، أي كما تُحدّد فلسطين المنظمة والسلطة والدولة حدودها، ومن حينها باتت الحكومة اليونانية تستخدم كلمة فلسطين، بدلًا من السلطة الفلسطينية في مراسلاتها الرسمية.
اعتراف اليونان بالدولة الفلسطينية له أكثر من معنى ومغزى سياسي في فضاء سياسة اليونان على المستوى الداخلي والخارجي، حيث قال الشعب اليوناني كلمته بهذا الشأن عبر قواه السياسية والحزبية التي طالبت البرلمان بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، بعد أن كان قد قال كلمته أيضًا بشأن الأزمة المالية والخلاف مع دول منطقة اليورو قبل عامين تقريبًا، حين صرخ الشعب اليوناني وبالصوت العالي: لا لشروط الاتحاد الأوروبي بشأن التعامل مع أزمات اليونان الاقتصادية. وقال أيضًا وبالصوت العالي: لا للسياسات الأوروبية الغربية للدول النافذة بالاتحاد بشأن أكثر من قضية ساخنة على المستوى الدولي، وفي القلب منها القضية الفلسطينية والصراع العربي والفلسطيني مع المشروع الكولونيالي التوسعي الاستيطاني الصهيوني.
إن حدوث تقارب "إسرائيلي" يوناني في السنوات الأخيرة، ولا سيما في مسائل الطاقة، لم يؤثر على العلاقات التقليدية الجيدة بين أثينا والفلسطينيين، فهامش المصالح بين تل أبيب وأثينا، لا يلغي مواقف اليونان المتميزة من القضية الفلسطينية، والتي باتت راسخة منذ زمنٍ طويل.
مرحبًا بالاعترافات الأوروبية المتتالية بالدولة الفلسطينية، ومرحبًا بالجهود التي تُطلقها بعض دول الاتحاد الأوروبي لكسر الهيمنة الأميركية على مسارات العملية السياسية في الشرق الأوسط. وبالمقابل فإن على الفلسطينيين أن يحسموا العديد من قضاياهم الداخلية حتى يكسبوا الفوز في نضالهم الوطني، وأول تلك القضايا تأتي أهمية وضع حدٍّ للانقسام الداخلي وطي صفحاته السوداء.