مع كثرة المجانين الذين يمتطون صهوات السياسة بدون رادع فإننا الآن أحوج من أي زمن آخر إلى الإمساك بأي حكيم لحل قائمة طويلة من الخصومات تمتد على مساحات أنفسنا، أو على مسافات من التناقضات بيننا, إننا نعيش الآن حياة قلقة زاخرة بالمزيد من احتمالات الانهيار الكلي والدخول ضمن مجموعة الدول الفاشلة، ولذلك لا بد من الحكمة والتحكيم إذا تعطلت الفرص الأخرى.

[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/adelsaad.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]عادل سعد[/author]

أن يغيب التحكيم كملجأ لحل الخصومات بين بعض الأطراف داخل البلد العربي الواحد، أو بين بلدان عربية بشأن قضايا قد لا تتمكن جهات أخرى من حسمها, أقول قد يغيب التحكيم كوسيلة للمعالجة فلا يعني ذلك أصلا أن رصيد التراث العربي بشأنه قليل أو ضائع، لكن كثرة المناكفات واتساع انسداد المواقف عتمت عليه.
إن الإرث العربي والإسلامي عموما زاخر بقرارات محكمين أثرت مواقف، وأنقذت أنفسا وحقوقا، وأغنت وجاهة العقل العربي بالدراية والتبصر بعد أن تم اللجوء إلى محكمين تحت ضغط البحث عن حلول، ولنا في الآية الخامسة والثلاثين من سورة النساء ما يجعل أفق التحكيم فضاء مفتوحا بقوله تعالى (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله
كان عليما خبيرا).
التحكيم من الحكمة، والحكمة عطاء العقل الراجح الذي يستحق أن يكون قوة استقطاب يتم اللجوء إليه لفض منازعات وإقرار حقيقة كان الخلاف محتدما عليها, ومن ذات التعريف التحكيم هو نزعة لصلح، وإذا كنا نحن العرب نمتلك هذا الرصيد الكبير منه فإن الأمثلة لا تحصى على إيقاعه. وأعتقد أننا ذهبنا بعيدا جدا إليه بالتوصية التي تقول (خذ الحكمة لو من فم مجنون)، ومع كثرة المجانين الذين يمتطون صهوات السياسة بدون رادع فإننا الآن أحوج من أي زمن آخر إلى الإمساك بأي حكيم لحل قائمة طويلة من الخصومات تمتد على مساحات أنفسنا، أو على مسافات من التناقضات بيننا, إننا نعيش الآن حياة قلقة زاخرة بالمزيد من احتمالات الانهيار الكلي والدخول ضمن مجموعة الدول الفاشلة، ولذلك لا بد من الحكمة والتحكيم إذا تعطلت الفرص الأخرى.
أجزم أن جزءا بسيطا من رصيد الحكمة والتحكيم يستطيع أن ينتشل بعض الدول العربية من جحيم الهلوسة الأمنية والسياسية، وتستطيع أن تعيد الحياة إلى فرص تنموية مشتركة ما زالت مركونة بعيدًا عن أيدي التنفيذ, وأجزم أيضا ومن ذات القناعة توافر الفرصة من أجل أن نعيد للعقل السياسي العربي صفاء النية والأمل، والحسبة المعقولة إذا كنا في منأى من تطويحات الإعلام المسيس الذي لا وظيفة له سوى التأجيج والتحريض وزرع ألغام الشكوك, وأجزم كذلك أن جامعة الدول العربية بحاجة ماسة أن تضع على طاولة اهتمامها مبدأ التحكيم لإنهاء الخلافات الدموية السائدة بين بعض الدول العربية استنادا إلى إرثنا القومي في هذا الشأن، وإذا تعذر الأمر فاستنادا إلى اتفاقيات دولية جاءت ضمن منظومة من المفاهيم والآليات التي يمكن أن نفيد منها وفي مقدمتها بروتكول جنيف لسنة 1923، واتفاقية جنيف لسنة 1927، واتفاقية نيويورك لسنة 1958، واتفاقية واشنطن عام 1965.
في كل ذلك وفي غيره من النصوص والأعراف والقيم والأسبقيات يظل التحكيم الصادر عن العقل السياسي بإرادة ذاتية على رأس أولويات التوجه الصحيح، وتحضرني هنا المعالجة السياسية العقلية التي (اكتسحت) لبنان خلال الأيام القليلة الماضية بانتخاب الجنرال ميشال عون رئيسا للبلاد بعد شغور هذه الوظيفة على مدى سنتين ونصف السنة، ففي هذه الخطوة انتصر العقل المتحرك على الانسداد بعد ظهور احتمالات خطيرة أن يتعرض لبنان إلى (جلطة) سياسية تشل كل مؤسساته، وفي ذات الاتجاه أسأل ألا يوجد عقل سياسي واحد حكيم في المعارضة السورية يقول كفى بنا أن نكون حصان طروادة لتهديم الدولة السورية. أنا هنا لا أخاطب المعارضين الذين أودعوا ضمائرهم في حسابات مصرفية لحساب هذه القوة الإقليمية أو تلك، ولا أخاطب أيضا أولئك الذين أدمنوا التسكع في شوارع اسطنبول وباريس ولندن وواشنطن، بل أدعو العقل السياسي المعارض الذي لم يتلوث جيبه أو يده لأن يصغي إلى نداء العقل، وأن تهبط عليه نعمة رعاية بلده، وحينها سيجد انتصاره المشرف في حقن الدماء، ويكون قد حرر نفسه من خزي (المواظبة) على القتل.