في الوقت الذي اعتبر فيه العرب أن السلام مع كيان الاحتلال الإسرائيلي هدف استراتيجي، وأوضحوه بجلاء من خلال اجتماعاتهم المتعددة وبخاصة مؤتمر القمة العربية في بيروت عام 2002، لا يزال كيان الاحتلال الإسرائيلي يعتبر أن موضوع السلام مع العرب هو مجرد محطات لالتقاط الأنفاس ضمن مسيرة المناورات التي لا تنتهي حتى يمكن هضم حقوق الشعب الفلسطيني عن آخرها، ورغم أن العرب رأوا ـ ولا يزالون ـ هذه المراوغات رأي العين ويصطلون بنارها صباح مساء، إلا أنهم مستمرون في تثبيت ودعم هذا الواقع الذي أراده المحتل الإسرائيلي بصورة أو أخرى وتحت ذرائع أو تبني سياسات ومخططات أميركية ـ غربية لكنها إسرائيلية الطابع والجوهر، تستهدف المنطقة تغييرًا كليًّا لصالح مشروع الاحتلال الإسرائيلي. ومع أن العرب قدموا تنازلات جوهرية على طريق إثبات حسن النية، إلا أننا ـ مع بالغ الأسف ـ نجد المحتل الإسرائيلي لا يجيد إلا عض اليد الممدودة للسلام، وما كان لهذا العض والتنمر الإسرائيلي أن يكون بكل هذه الصلافة والوقاحة لولا حالة الوهن في الموقف العربي من ناحية، والسياسات الأميركية والأوروبية الداعمة بكل قوة وعنفوان لكيان الاحتلال الإسرائيلي وانتهاكاته وجرائمه من ناحية أخرى.
فرصيد الأخطاء التي ارتكبتها الدول الغربية وبالتحديد أوروبا والولايات المتحدة تفوق الحصر فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، لكن تطورات الأحداث أخذت تكشف هذه الأخطاء شيئًا فشيئًا بعد طول مكابرة وتجاهل للأخطاء وعزوف مشين عن إصلاحها في الوقت المناسب. والآن ـ كما نعتقد ونحسن الظن ـ يجد الأوروبيون تحديدًا أنفسهم في مأزق كبير بسبب هذا الإذعان المخجل لرغبة كيان الاحتلال الإسرائيلي الذي يستهدف القضاء المبرم على حقوق الشعب الفلسطيني إلم يستطيعوا إبادة هذا الشعب بالمطلق.
اليوم يوجه كيان الاحتلال الإسرائيلي صفعة أخرى للحليف الاستراتيجي والصديق الوثيق لأوروبا وخاصة لفرنسا برفض دعوتها له للمشاركة في مؤتمر باريس للسلام في الشرق الأوسط بحجة تشتيت الانتباه عن المفاوضات المباشرة مع الفلسطينيين.
ووفقًا لتقديرنا، فإن باريس تفهم أكثر من أي عاصمة عربية طبيعة السياسة الإسرائيلية وما ترتكز عليه من مراوغات وتنصلات ومؤامرات، ومتى يلجأ المحتلون الإسرائيليون إلى هذا الأسلوب المراوغ الذي نمَّته وشجعته في مراحل ومحطات سابقة السياسة الفرنسية، وبالتالي تعلم باريس ـ كما واشنطن كما لندن كما برلين باعتبارها العواصم الداعمة عسكريًّا واقتصاديًّا للاحتلال الإسرائيلي ـ أن الحجة التي رفعها كيان الاحتلال الإسرائيلي لرفضه قبول الدعوة الفرنسية للمشاركة في مؤتمر باريس للسلام، تحمل في طياتها استكمالًا لما بدأه في إطار المفاوضات المباشرة بينه وبين السلطة الفلسطينية، ومواصلة تفريغ هذه المفاوضات من أي مضمون، واستغلالها مصيدة وليست ملهاة للجانب الفلسطيني، لفرض وقائع جديدة لنهب ما تبقى من الحق الفلسطيني. وبالتالي فإنه ـ وفقًا لهذا الفهم وهذا الاستنتاج ـ بإمكان باريس بالتعاون مع شقيقاتها واشنطن ولندن وبرلين وغيرها، أن تمارس القدر المطلوب لإنجاح مؤتمرها فتثبت بذلك حسن نياتها تجاه القضية الفلسطينية، وتُكفِّر عن سياساتها السابقة والداعمة للاحتلال الإسرائيلي الذي تمكَّن وتوحَّش وتنمَّر بهذه الصورة المستفزة والوقحة، حتى على منشئيه. ففي ظل هذا الواقع لا أحد بإمكانه إيقاف هذا الاستخفاف الإسرائيلي بالمجتمع الدولي وبعملية السلام، سوى حلفائه وداعميه من جهة، والفلسطينيين إن أرادوا ذلك حقًّا من جهة أخرى. أما الرهان على الموقف العربي فهو رهان خاسر على الأقل في ظل الوضع الراهن.