[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/uploads/2015/09/mmostafa.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]محمد مصطفي [/author]
”كانت مهمة الديمقراطيين والخط العام لسياستهم هي عملية الترشيد لسياسات رأس المال والهيمنة المؤسس عليها الدولة الاميركية أو تغليفها بالقفاز الحريري إياه، وهي بطبيعتها جموحة وشرسة ومجنونة، وكان دور الجمهوريين والذين برعوا فيه على مدار عقود هو اطلاق تلك السياسات لعنان السماء، حروب تغذي ماكينات البارود وصراعات راح ضحيتها ملايين البشر، فهيئوا أنفسكم للأسوأ.”


مدفوعا بدعم غير مسبوق من أقصى اجنحة اليمين الجمهوري الأميركي تشددا وانغلاقا، نجح دونالد ترامب في قلب كل التوقعات والتي كانت تسير عكس اتجاهه وفاز في انتخابات الرئاسة الاميركية ليصبح الرئيس الخامس والأربعين للدولة الأكثر تأثيرا في العالم والتي تنعكس رؤاها على الجميع، الخصم قبل الحليف.
بالطبع لم تلهنا الحرائق التي تلتهم أحياءنا وقرانا من متابعة تلك الملهاة، والتي أتت بأكثر الرؤساء الأميركيين جنوحا وإعلانا للعداء الصريح لكل ما هو ليس اميركيا خالصا، بنزعة شوفينية فجة وبلا حجب اطلق ترامب حملته تحت شعار لافت "المجد لأميركا"، تصريحات وخطط غاية في العدائية تجاه "الآخر"، أي آخر، على تنوعه واختلافه وضعفه، حتى حلفاء أميركا التاريخيين لم يسلموا من ألسنة الرجل الحِداد، من وعود بالصعود باميركا إلى النجوم وبسط نفوذها وهيمنتها اكثر على العالم، بصرامة غير معهودة في مثل تلك المواقف والتي يجنح فيها المرشح إلى استمالة المؤيدين من معسكر الخصوم، واجتذاب المتردد على اعراف التصويت والمشاركة، وهو ما لم يفعله ترامب، كان يتحدث في مؤتمراته الانتخابية بقوانين حديدية حاكمة يبدو انه لم يتعلم سواها، يبشرنا ترامب بمزيد من "السلطوية الاميركية" والتي تحمل في طياتها المادة الخام للقبح، والفاقدة لأدنى درجات احترام خصوصية الآخر، تدهس في طريقها الضعفاء وتصب على جروح الخلائق المزيد من الملح الحاد.
لا يملك العرب ترف تجاهل حدث مثل عملية اختيار رئيس اميركا، مثلما ادعت بعض نخبهم البارزة حتى ولو ظاهريا، وهي الدولة التي يرتبط بها العرب ارتباطا وثيقا ومربكا في آن، وعصيا على الفهم في أغلب الاوقات، "التجاهل" فعلا مستحيلا في العلاقة المتبادلة بين العرب وأميركا، وهو ما يحذرنا منه "نيتشه"، التجاهل فعل خال من المشاعر بالأساس وهو ما لا نجده كلية في مستوى تلك العلاقة الخاصة جدا بين العرب وأميركا، وصفها نفر من قادتنا في لحظة صدق نادرة بأنها متينة مثل "الزواج" وليست عابرة مثل صداقات النوادي والحانات، اميركا وهي الحاضرة بقوة على غرف الطعام لدى بسطاء العرب وبرجوازيتهم الأثيرة، من أرغفة الخبز وزيوت الطعام إلى شرائط الأفلام وبرامج المصارعة الحرة ذائعة السيط في البيوت والمقاهي الشعبية حتى طبعت في احيائنا من نمط حياة غارق في "الأمركة"، حاضرة ايضا في معسكراتنا العامرة بمختلف العتاد والخبراء والمستشارين المؤثرين، حاضرة في حروبنا التي تلتهم عواصمنا بقذائف وسواعد اميركية خالصة، من حلفاء أميركا وخصومها، وفي المنتصف تقطعت السبل بأطفال ونساء وشيوخ تمزعت أوصالهم واحترقت جلودهم. نحن هنا لسنا بصدد تحليل كيف وصل الأمر بنا إلى هذا المربع، محاصرون بين أضلاعه الصلبة، ليس لنا مناص، على أهمية تحليل تلك الجزئية، ولكننا معنيون وبصورة عاجلة بالعمل على تشكيل رؤية واضحة وشاملة لما هو قادم، العالم في حالة من التقلب المستمر لم تهدأ منذ سنوات، ركود اقتصادي وتوترات بينية غير مسبوقة، غرب تضربه أزمة اقتصادية خانقة، صعود صاروخي لتيارات اليمين المتطرف المعادية للحياة، صاحبة التصورات الإقصائية، مع تدفق مئات الآلاف من المهاجرين وصعود مخاوف التغير الديموغرافي لأوروبا تنكفئ على ذاتها وتغلق ابوابها وتختار العزلة راضية مرضية، وفي المشرق تضربنا الإحباطات تلو الأخرى عقب بارقة أمل لحظية استفقنا منها على انهيارات متتالية وسريعة لطبقات حكم مساعدة لأنوية أنظمة ما بعد الاستقلال الصلبة، أضحينا أمام "عصب حاكم" بلا غطاء، في مهب الريح، تضربه الأزمات السياسية والاقتصادية والمجتمعية، انكشفت خباياه المتدثرة بشعارات الوهم البراقة، سقطت بفعل عواصف وأعاصير ربيع قاس، كَشفنا جميعا أمام أنفسنا.
ومع كل استحقاق رئاسي أميركي يتداول بعضنا تبسيطا مخلا للأمر، فرحتهم بقدوم ترامب تثير الدهشة والارتياب، بمزاعم ان العدو الواضح خيرا وافضل من العدو المستتر تطلق أبواقنا صيحات التهليل والاستبشار بقدوم "العدو الصريح"، نتعاطى نفس الرؤية البئيسة طوال أربعين سنة ماضية حتى صارت ادمانا، اتانا نيكسون وريجان وبوش أبا وابنا، أورطونا في الحرب تلو الأخرى، ومع ذلك لم نتقدم تجاههم قيد انملة، حتى اننا وقد ظهر امامنا أعداؤنا بكل وضوح، لم نقاومهم أو على الأقل لم نظهر في وجههم تمعرا حتى ولو كان مصطنعا، تاريخنا يشهد، يعرف الأميركي جيدا الفروق بين المرشحين حتى ان هناك عرفا أميركيا متداولا "الجمهوريون يشعلون دائما الحروب، فيأتي الديمقراطيون ليطفئوها" على المستوى العالمي، على صعيدنا العربي والشرق أوسطي، الديمقراطيون كانو اكثر تفهما لأوضاعنا المرتبكة، بالطبع لم يكونوا حلفاء مخلصين ولكنهم لم يكونوا أبدا مثل نظرائهم الجمهوريين، حروب منطقتنا ونطاقات نفوذنا الجغرافية والدينية شاهدة على ذلك، من عدوان 56 إلى نكسة 67، ومن حرب افغانستان الاولى وحرب البوسنة وحصار العراق إلى احتلال كامل لأفغانستان والعراق، فقد بدأ الحصار جمهوريا وانتهى باحتلال جمهوري أيضا، حتى دخل العرب في نفق الأفول وغياهب التيه.
علينا ان نعي ان هناك فروقا وتقاطعات واسسا لن تحيد عنها الدولة الأميركية المؤسسة على ورقتين في البيان التأسيسي منذ مئتي عام، يأتي الرئيس أيما كان، له مهمة عليه ان يختار احداهما، إما ترشيد وكبح للسياسات تلك من جهة، أو اطلاقها وفك عقالها من جهة اخرى، كانت مهمة الديمقراطيين والخط العام لسياستهم هي عملية الترشيد لسياسات رأس المال والهيمنة المؤسس عليها الدولة الاميركية أو تغليفها بالقفاز الحريري إياه، وهي بطبيعتها جموحة وشرسة ومجنونة، وكان دور الجمهوريين والذين برعوا فيه على مدار عقود هو اطلاق تلك السياسات لعنان السماء، حروب تغذي ماكينات البارود وصراعات راح ضحيتها ملايين البشر، فهيئوا أنفسكم للأسوأ.
يلفت الانتباه ان تيارات سياسية في بعض بلداننا العربية ترى في ترامب حليفا جيدا وبعضهم ذهب بعيدا إلى وصفه بـ"المخلص"، حتى وصل الأمر إلى ان يتغزل نفر منا في عملية صعوده وتحطيمه لكل التكهنات، في ظني ان هؤلاء يتأملون خيرا في مساحات شراكة على جانبي سيد البيت الأبيض الجديد، وعلى وقع الهزة المتوقعة للمؤسسات الحاكمة لحركة رأس المال والتجارة والتي يأمل أصحابنا في أن تخلق فرصا مواتية وشواغر في دنيا الاستثمار والتجارة وتشكيل تكتلات مساعدة لترامب واتاحة فرصة لبروز وجوه جديدة في نطاقات أميركا التي يشتاق إليها المشتاقون، تاريخيا شهد العالم فترات مشابهة منها ما مر به العالم بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، والأخبار التي عكسها فوز ترامب شاهدة على ذلك، فعملية طلبات الهجرة من الولايات المتحدة إلى كندا شهدت إقبالا تاريخيا معه تم قفل موقع التسجيل الكندي على الانترنت وهو خبر له من الدلالات التي لا يتسع لها المقام.
بدأت بريطانيا النزوح الغربي نحو هذا السباق المجنون، جرس انذار ان العالم يتجه نحو حافة الخطر والجنون، اقتراب اكثر تيارات اليمين الأميركي تطرفا من الهيمنة المطلقة على مقاليد السلطة والحكم وتنحية اليمينيين الأقل ضررا من محافظ ومتدين، يضعنا أمام خيارات كلها صعبة، مزيد من الاختناق وتقليص مساحات التعايش، على وقع ثورة أميركية ضد فساد المؤسسة السياسية قادت يمينا مرعبا إلى البيت الأبيض، ستنعكس سياساته عالميا على فئات أقل قدرة على تحمل تبعات تلك السياسات وآثارها المدمرة.