”لقد قالت العرب قديما (جمل بنية وجمال بنية أخرى) ولا شك أن تصعيد المواقف الفرعية والاستحواذ على الواجهة فيها إنما يخدم أهدافا حصصية تعتاش عليها بعض الأطراف ويغذي الكثير من التشرذم والانقطاعات على قاعدة هذا لك وهذا لي، وكذلك على قاعدة أن التكامل والوحدة ينبغي أن يختفيا تحت غبار تلك النزعات الفرعية غير المشروعة.”

[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/adelsaad.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]عادل سعد[/author]

مع الاختلاف في الأهداف والنكهات، والتباين القاطع بين الطرفين هناك تشابه واضح بين ما يناسب بعض الأشخاص من العطور ولا يناسب غيرهم، وكذلك في تناسب تصريحات تصدر من هذا الطرف أو ذاك وكأنها تمثل أجزاء أساسية من شخصياتهم وهم لا يقوون على مغادرتها تشبثًا بانتماءاتهم الفرعية.
الأصل في هذا المقارنة أن صديقي وليم وردا رئيس تحالف الأقليات العراقية أراد أن يشتري لي قنينة عطر عندما كان في باريس قبل عدة أيام، ومر على أحد أسواق العطور الفرنسية المعروفة عارضا طلبه على بائعة العطور أنه يريد عطرا يقدمه هدية لأحد أصدقائه وأتاح لها حرية اختياره، وعندها سألته البائعة: كم هو عمر صديقك؟ وما هو لون بشرته؟ وهل يستخدم ملابس حديثة أو تقليدية؟ وهل هو ممتلئ أم رشيق؟ وقد أجابها على كل هذه الأسئلة، فما كان منها إلا أن اختفت لحظات من أمامه لتجلب له ما طلبه بمواصفات الإجابة على تلك الأسئلة وكأنها أرادت أن تقول له إن ما يناسب بعض الأشخاص من العطور يختلف من شخص إلى آخر.
لقد أدهشتني هذه القصة كثيرا وأجد أن البائعة قد غالت في أسئلتها مثلما يغالي بعض الساسة في تصريحات تتناسب وتتماهى مع بعض المتلقين لتلك التصريحات، وهناك الكثير من الشواهد في الواقع العراقي، وكذلك في عموم الشرق الأوسط، ففي العراق لا يمل بعض السياسين من الإدلاء بتصريحات استجابة لبعض المكونات والاطراف الفرعية بالضد مما يحتاجه الرأي العام العراقي عموما ضمن الوعاء الجمعي الوطني العام، فهناك انتقاءات لمفردات معينة تتناغم مع هذا السلوك الطائفي أو ذاك، وكذلك مع الطرح المناطقي، في حين أن الوضع يتطلب مواقف وطنية موحدة لدعم عمليات تحرير محافظة نينوى، الأمر الذي أثار ويثير زوابع جانبية ويعتم على حجم الإنجاز العسكري العراقي المتحقق حتى الآن.
لقد قالت العرب قديما (جمل بنية وجمال بنية أخرى) ولا شك أن تصعيد المواقف الفرعية والاستحواذ على الواجهة فيها، إنما يخدم أهدافا حصصية تعتاش عليها بعض الاطراف ويغذي الكثير من التشرذم والانقطاعات على قاعدة هذا لك وهذا لي، وكذلك على قاعدة أن التكامل والوحدة ينبغي أن يختفيا تحت غبار تلك النزعات الفرعية غير المشروعة.
إن ما يحصل في العراق يتكرر في سوريا بأصابع إقليمية وفرعية أميركية، وإلا ماذا يعني أن تتولى الإدارة الأميركية بهمة طارئة ومريبة العمل على تحرير مدينة الرقة بالاعتماد على فصيل فرعي صنعته واشنطن تسليحا وتدريبا، في حين أن النوايا الصادقة لمواجهة الإرهاب لا تستقيم مع هذا التورط، لأن الواقع يفرض على الأميركيين أن ينسقوا مع الدولة السورية في ذلك إذا كانوا حقا مصرين على توجههم لتحرير الرقة.
هي إذا عملية توزيع روائح سياسية وأمنية بما يناسب أهدافًا فرعية يراد بها إطالة النزاع في سوريا وتفريخ مشاكل أمنية جديدة, ولنا كذلك في ما يجري باليمن من شواهد بذات الاتجاه، في الوقت أن الوضع هناك يحتاج إلى وقفة سياسية بمستوى طموح اليمنيين لإطفاء هذه الحرب العبثية التي سحقت الكثير من الآمال بتدمير منازل ومدارس ومستشفيات وتعطيل الحياة الاقتصادية ونشر رعب الموت المجاني، كما نستطيع أيضا أن نمسك شواهد مماثلة في الوضع الليبي.
على أي حال ما نشهده عربيا لا يحتاج إلى الكثير من خبرة بائعة العطور الفرنسية، بل إلى نظرة شاملة بمستوى الأوطان تنتزع الناس من ثقل السؤال: لماذا تستمر هذه المحن؟