أحمد محمد خشبة
الحمد لله رب العالمين، خلق الإنسان علمه البيان وجعل اللسان مع القلب دليلاً على عقل الإنسان . وصلى الله وسلم على خير من قال ومن علم محمد صلى الله عليه وسلم، وبعد ..
فإنه لا توجد مهمة أعلى وأفضل وأهم وأخطر من مهمة الدعاة إلى دين الله. ذلك أنهم يحملون هم نشر الدين وتبليغه وتذكير الناس به، فقولهم هو أحسن قول، (ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين)،(ولا تستوي الحسنة ولا السيئة أدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم)،(وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظٍ عظيم).
حقا هم أحسن الناس قولاً وأخطرهم شأناً ومهمتهم لا تتأتى لأي إنسان أن يتلقاها فهي حظ الذين صبروا وهي شأن ذوي الحظ العظيم. إنهم ورثة الأنبياء في حمل مشاعل الهداية للناس.
هم القادة والسادة في مجتمعهم إن هم أخلصوا نيتهم لدينهم وقاموا بواجبهم نحو إرشاد الناس له وحملهم على فهمه وبلغوا هذا الأمر كما أمرهم ربهم وكما دعاهم نبيهم )عليه الصلاة والسلام(: (بلغوا عني ولو آية ..).
إن "الخطابة" وعلومها ، تدريب للخطيب على البيان والإقناع وإيراد الحجج والبراهين إنها تـعطيه القدرة على القيادة والصدارة والتوجيه، قدرة يستطيع بها حمل الناس على الحق وإرشادهم إلى الخير ودلالتهم على مواطنه.
ولقد خلق الله الإنسان قابلاً للتأثر بغيره ، وللتأثير كذلك في غيره. وهذه حقيقة مؤكدة تؤكدها الوقائع. فالإنسان يغالبه الابتسام إذا استمع إلى ضحكات الآخرين ويبكي إذا رأى منظرا مبكياً، أو رأى من يبكي أمامه، ويتثاءب إذا تثاءب من بحضرته من حيث لا يشعر.
وقد اعتبرت الشريعة الإسلامية هذه الحقيقة وحذرت من التعرض لبعض المؤثرات التي قد يتعرض لها الإنسان حتى لا يستدرج الإنسان إلى الخطيئة ، فقد قررت غض البصر عما لا يحل ونهت عن الاستماع إلى ما يُحرم، كما دعت إلى اجتناب ما يشتبه من الأمور.
وهذا كله في إطار حماية الإسلام للإنسان من التورط في الخطيئة لأنه ببساطةٍ مخلوق متأثر بطبعه.
هو متأثرُ لا شك لكنه كذلك مؤثر، ومن حيث أنه مؤثر فقد شرع الله له أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، لينقذ غيره مما لا يليق بكرامة الإنسان، فإذا قام ـ عن إذن ربه ـ بهذه المهمة كان له حظ من التأثير عظيم.
وهذا الذي تقدم: يبين ولو بشكل سريع بعضاً من أحكام الإسلام التي ما شرعت الا ملائمة لطبيعة الإنسان من حيث أنه متأثر ومؤثر.
ولما اكتشف الإنسان من ذاته هذه الحقيقة أخذ يستغلها استغلالا هائلاً، فتراه قد نجح في تطوير وسائل التأثير بصورة مذهلة ، ونحن نلاحظ نشاطه في هذا المجال قد تميز بظاهرتين عجيبتين.
الأولى : تتمثل فيما ابتدع من وسائل التأثير وحرصه المتواصل على تنويعها وتوسيع آفاقها، فنجد الإنسان مثلاً قد طور استخدامه للطباعة تطويراً مذهلاً وتطويراً ما عهدت البشرية مثيلاً له في تاريخها الطويل، وتدفق نشاط المطابع، حتى كادت الثواني تعجز عن ملاحقة هذا التطور الذي يخرج لنا الملايين من المطبوعات : كتب وصحف وجرائد وإعلانات ومجلات، وهذا النشاط الرهيب يكاد ينحصر تأثيره على الإنسان.
أما الإذاعات فهي تبث على جميع الموجات ولا تنقطع إلا لتستأنف البث المغري بكل أنواع الإغراء.
وكذا يفعل مصورو الأفلام والمسلسلات كي يحصدوا أكبر تأثير يمكن، ولا شك أن تأثير التلفاز الذي يجمع كل المؤثرات السابقة المقروءة والمسموعة والمرئية، فبات يؤثر أعظم التأثير وكل هذه المؤثرات التي اهتدت إليها الإنسانية ليس لها هدف إلا الإنسان. إنها تتنافس فيما بينها للحصول على أكبر قسط من التأثير على الإنسان ، فلم تترك له موطن لم تطوقه فيه، فهي تحاصره
وتلاحقه في مركز عمله وتحيط به في الشارع، وفي النادي والبيت ووسيلة المواصلات والمستشفى في المدينة والبادية.
الظاهرة الثانية : تتمثل في استخدام تلك الوسائل، وهو استخدام يبدو ولا شك ضاراً بالإنسان ، فكم من جهة استغلت وسائل التأثير سالفة الذكر وغيرها لتقدم بها الضلال ليبدو في صورة الحق.
وكم من جهة زينت بها الباطل لتقدمه كمثال أمين للهدى والصواب، وكم من جهة أثارت بها فتناً كانت أشد من القتل، وكم تسرب من هذه الوسائل خدع ماكرة ما أثيرت إلا لتقوض أسس الفضائل في المجتمعات وتدمر عناصر النبل فيها.
هذا الخضم المتلاطم من وسائل الإعلام الذي وقعت فيه البشرية وهذه التيارات الصاخبة التي تتصارع فيها إنما تتصارع على فريسة واحدة هو الإنسان.
وفي وسط هذا الصخب الهائل يكاد الإنسان لا يسمع إلا صوتاً واحداً يعبر عن الحق ويعلو به يحاول أن يأخذ بيده ويرشده إلى طريق الخير وسبيل الرشاد لكنه صوت لا يرتفع إلا مرة واحدة كل أسبوع ثم ما يلبث أن يصمت صمتاً تاماً طوال الأسبوع إنه صوت خطيب الجـمـعـة .
خطيب الجمعة وخطبته ما عساه أن يكون في وسط هذه المؤثرات التي حوله من كل مكان، وهل يمكن لهذا الصوت أن ينقذ الغرقى في المحيط المؤثر الذي يغرقهم فيه وهل يمكن أن تضيء الشموع آفاق الصحاري في ليلٍ حالك الظلام؟!!
لكنه من المؤسف أيضاً أن هذه الشموع ــ مع أخذها في التكاثرــ قد تضاءل ضوؤها ، وضعف الاهتداء بنورها، فتبدد السائرون في ظلمات المسالك على غير اهتداء.
ومن المؤسف أيضاً أن خطبة الجمعة قد ضعف تأثيرها في كثير من المجتمعات الإسلامية، وهذا الضعف له أكثر من سبب .
ومن أهم هذه الأسباب : أن خطبة الجمعة تسند في بعض الأحيان لغير الأكفاء أو غير المؤهلين بل إنها تعتبر عند بعضهم وظيفة يحصلون منها على معاش أو راتب فقط لا غير.
وأن بعض ذوي الكفاءة إذا أسندت إليهم هذه المهمة لا يألونها ما تستحقه من الاهتمام،فكأنها في اعتبارهم صورة مألوفة لعمل نمطي رتيب روتيني.
وأن خطبة الجمعة لا يستمع لها إلا جمهور قليل ممن يحرص على حضور الصلاة في المساجد ولا يتعدى هذا التأثير إلى خارج المسجد.
وأن ما تبنيه يد الخطيب الواحدة في دقائق من الأسبوع يهدمه مالا يحصى من الأيدي المدمرة، والتي تنشط طوال الأسبوع بلا انقطاع كما أسلفنا عند حديثنا عن وسائل الإعلام المختلفة.
والنظرة الاجتماعية لوظيفة الإمام والخطيب، فبعض المسلمين للأسف ينظر إلى الإمام نظرة دونية بمعنى أنه يرمز دائماً – وهذا من وجهة نظر البعض فقط- إلى الماضي،وساعد أيضاً في ذلك أن بعض وسائل الإعلام تظهر صورة سلبية للدعاة ورجال العلم الشرعي.
من كل ما تقدم من الأسباب فإنه وجب على كل محب لهذا الدين وراغب في نشره والدفاع عنه أن ينشط وينهض ليساعد على النهوض بالخطابة الدينية، ويمكن لذلك أن يتحقق بسهولة إذا بادرنا إلى الآتـي: تطوير المؤسسات القائمة بتخريج الخطباء والوعاظ والدعاة، وإدخال برامج دراسية جديدة في تعليم الدعاة كعلم النفس والاقتصاد والأفكار والحركات الاستشراقية والوافدة بالإضافة إلى علوم القرآن الكريم والسنة والعقيدة والفقه والسيرة واللغة والخطابة وأصول الدعوة، وقصر الخطابة والتوجيه الديني على الأكفاء دون غيرهم وإحلال هؤلاء الأكفاء تدريجياً مكان العاجزين أو من هم دون المستوى،وتطوير من يمكن تطويره ممن هو موجود على الساحة، والإكثار من الدورات التدريبية لمن هم في حاجة إلى المزيد من التدريب وترغيب الشباب وغيرهم في تعلم الخطابة وفنون الإلقاء، وتدعيم دور المؤسسات المسؤولة عن المساجد من ناحية المساعدة والتوجيه لخطباء الجمعة والدعاة، وزيادة الرقابة من قبل هذه المؤسسات على الدخلاء في مجال الخطابة والدعوة.
إن النهوض بدور المسجد كمؤسسة تعليمية وتربوية ودعوية، يستلزم النهوض بالمركز الأساس في المسجد وهو الإمام الذي يقود، ويؤثر، وينهض ، ويقوّم ويعدلُ ، ولن يكون كذلك إذا لم يتم تكوينه وإعداده الإعداد الصحيح ، كذلك إذا لم يشعر بتأثيره ودوره وقيمته في وسط مجتمعه ووطنه وأمته.