”.. مع الارتقاء الحضاري، وتوسُّع "الانتشار الإنساني"، وزيادة التقسيم الاجتماعي للعمل، وتنامي التبادل التجاري، نُفِيَت ظاهرة "الاتِّصال المباشِر" بين أفراد الجماعة الواحدة، وتعرَّض عيشها المشترَك للتمزُّق، ولمزيدٍ من التمزُّق؛ ولقد جاءت "الرأسمالية"، في عهودها وأطوارها الأولى، بما جَعَل "انفصال" أفراد الجماعة الواحدة، في المكان والزمان، "ضرورة اقتصادية"، وأمْرًا محتومًا.”

[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/jawadalbashity.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]جواد البشيتي[/author]

"الاتِّصال" بين البشر، ولجهة "وسائله" و"أدواته"، عَرَفَ كثيرًا من التطوُّر والتقدُّم؛ أمَّا "نتائجه" التي نراها ونعاينها في مناحي حياتنا كافَّة، والتي هي في تَفاعُل مستمر لا ينقطع، فيَضيق بها كل "تَوقُّع"، ولو جاء به "عَقْلٌ عِلْمِيٌّ خالص"؛ وكأنَّ هذا "الفَيْض المعلوماتي"، الذي لم يَعْرِفه، ولم يتوقَّعه، البشر، من قَبْل، لم يُحرِّر الإنسان من "عبودية الطبيعة"، أيْ من استعباد "قوى الطبيعة" له، إلاَّ ليَجْعَله مُسْتَعْبَدًا لـ"قوى الطبيعة الثانية"، أيْ الطبيعة التي أنتجها الإنسان من طريق العمل والحضارة. إنَّ "الفيض المعلوماتي" يشبه الآن "النَّقْص المعلوماتي"، لجهة كونه يرفع منسوب عَجْز البشر عن "التوقُّع"؛ فتفاعُل النتائج المترتِّبة، حتمًا، على تطوُّر وتقدُّم "وسائل" و"أدوات" الاتِّصال بين البشر، يأتي بـ"تغيير"، فيه من عنصر "المباغتة (أو المفاجأة)" ما يَجْعَل العثور على "إشارةٍ إليه" في "توقُّعات" البشر من الصعوبة والاستعصاء بمكان؛ وكأنَّ "يدًا خفية" هي التي تُسيِّر العالَم، وتَجْعَل الإنسان، من ثمَّ، أكثر اقتناعًا بأنَّ "إرادته الحُرَّة" أقرب إلى الوهم منها إلى الحقيقة.
ومع ذلك، أجِدُ في هذا المسار (التاريخي والحضاري) ما يقيم الدليل على حيوية وصواب "الثلاثية الهيجلية الشهيرة"؛ وهذا ما حَمَلَني على أنْ أكْتُب في هذا الأمر (أمْر الاتِّصال بين البشر) بما يُوافِق هذه "الثلاثية".
في البدء، كان "الاتِّصال المباشِر" بين أفراد الجماعة البشرية البدائية المنعزلة (لأسباب موضوعية، منها، في المقام الأوَّل، نمط عيشها، وحواجز وفواصِل المكان بمعناها الطبيعي).
ومن طريق "العمل" و"اللغة (البدائية)"، كان هذا "الاتِّصال المباشِر"؛ فأفراد الجماعة يتَّصِلون (ويتفاعلون، ويتبادلون التأثير) من غير "وسائل" و"أدوات" اصطناعية؛ فالرؤية مباشِرة، والحديث مباشِر، واللقاء مباشِر؛ فَلَمْ يكن بين أفراد الجماعة من "الانفصال (أو التباعُد)" في المكان والزمان ما يُشدِّد لديهم الحاجة إلى اختراع "وسائل" و"أدوات" اتِّصال عن بُعْد. حتى "لغة الجسد"، والتي من طريقها نَقِف على كثيرٍ من معاني الكلام والمواقِف، كانت في متناوَلهم، أيْ في متناوَل عيونهم (والعَيْن، على ما يُقال، هي مغرفة الكلام). ومع الارتقاء الحضاري، وتوسُّع "الانتشار الإنساني"، وزيادة التقسيم الاجتماعي للعمل، وتنامي التبادل التجاري، نُفِيَت ظاهرة "الاتِّصال المباشِر" بين أفراد الجماعة الواحدة، وتعرَّض عيشها المشترَك للتمزُّق، ولمزيدٍ من التمزُّق؛ ولقد جاءت "الرأسمالية"، في عهودها وأطوارها الأولى، بما جَعَل "انفصال" أفراد الجماعة الواحدة، في المكان والزمان، "ضرورة اقتصادية"، وأمْرًا محتومًا.
من أجل "العمل"، وبحثًا عن حياة أفضل، انفصل كثيرٌ من الأفراد عن الجماعة التي إليها، وإلى نمط عيشها، وثقافتها، ينتمون؛ فابن القرية ترك عائلته وأهله وذهب إلى المدينة للعمل والعيش فيها؛ واتَّسَع "الانفصال"، في المكان والزمن، فانتقل كثيرٌ من الأفراد من "الوطن الأُم" إلى أوطان وبلاد أجنبية، بعضها يقع في قارات أخرى؛ وكان لهذا "الانفصال"، الذي دافعه الأوَّل هو "العمل"، مساهمة كبرى في زيادة الاندماج الإنساني، عرقيًّا وثقافيًّا وحضاريًّا.
وهذا "الانفصال"، ومع تعاظمه، شدَّد الحاجة إلى اختراع "وسائل" وأدوات" الاتِّصال عن بُعْد، أيْ "الاتِّصال غير المباشِر"، كالاتِّصال البريدي (تبادل الرسائل والصُّوَر والمعلومات..) والهاتفي. وتطوَّرت، في الوقت نفسه، وسائل المواصلات من برية وبحرية وجوية، فاخْتُصِرَت مسافات المكان زمنيًّا؛ وعاد هذا الاختصار بالنفع على "الصحافة الورقية" التي كانت الوسيلة الإعلامية الأكثر أهمية. ثمَّ ظهر الراديو والتلفزيون، فاتَّسع أكثر "الاتِّصال الإعلامي" بين الناس.
في البدء، عَرَفْنا "الاتِّصال المباشِر (الحي)" بين أفراد الجماعة البشرية الواحدة؛ لكنَّ هذه "الإيجابية" لازمتها "سلبية" انقطاع كل اتِّصال تقريبًا بين الجماعات البشرية المختلقة، وعلى المستوى العالمي على وجه الخصوص.
ثمَّ عَرَفْنا قرونًا من الزمان انقطع فيها (أو تضاءل كثيرًا) الاتِّصال المباشِر (والحي) بين أفراد الجماعة الواحدة، فظَهَرت "الغُرْبة" على أنَّها "الشَّر الذي لا بدَّ منه"، ورَجَحَت فيها كفَّة "المعاني السلبية" على كفَّة "المعاني الإيجابية"؛ فـ"المُغْتَرِب" بينه وبين عائلته (ومجتمعه ووطنه) مسافات مكانية وزمنية شاسعة، وإنْ تطوَّرت وتقدَّمت وسائل المواصلات؛ يجهل أمورهم وأحوالهم، ويجهلون أموره وأحواله؛ لا يملك هو، ولا يملكون هم، من "وسائل" و"أدوات" الاتِّصال إلا ما يعطي "معرفة متبادلة" هي، حجمًا ونوعًا وتأثيرًا، دون تلك التي كانوا ينعمون بها في مجتمعهم القديم الضيِّق الذي يقوم على "الاتِّصال المباشِر (الحي)"، مع ما يلازمه من "تفاعُل" و"تأثير متبادل".
وإنِّي لأقول بحيوية وصواب "الثلاثية الهيجلية الشهيرة"؛ لأنَّ "الثورة الإلكترونية العظمى" التي عرفتها وسائل وأدوات الاتِّصال (وفي مقدمها "الشبكة الإلكترونية العالمية") أعادت البشر إلى "اتِّصالهم المباشِر"؛ لكن في مستوى أعلى، وبما يحفظ لهم كل ما هو "إيجابي"، و"مفيد"، و"ضروري"، و"قابل للحياة"، من عهود "الانفصال"؛ فـ"المُغْتَرِب" الآن، ومن غير أنْ يتخلَّى عن "إيجابيات الانفصال"، كالعمل والعيش والاندماج في "وطنه الثاني (البعيد)"، أصبح في مقدوره أنْ يتَّصِل بأهله، ويتفاعل معهم، وكأنَّه يعيش بينهم؛ مباشَرَةً، وفورًا، يلتقي البعيدان، يتحادثان، ويرى كلاهما الآخر؛ وفي زمن ضئيل، متضائل، يصِل كلاهما إلى مكان الآخر؛ أمَّا "الثَّمَن" الذي يُدْفَع من أجل هذا أو ذاك فيتضاءل هو، أيضًا، وفي استمرار؛ والعالَم، الذي كان جُزُرًا منفصلة متباعِدة، يغدو كالقرية، لجهة سرعة وسهولة الاتِّصال والتفاعُل بين أبنائه.
وإنَّكَ الآن تتصل وتتفاعل مع الذي بينك وبينه فاصِلًا جغرافيًّا من آلاف الأميال، وفاصِلًا زمنيًّا من آلاف الدقائق، أكثر كثيرًا مِمَّا تتَّصِل وتتفاعل مع جاركَ الذي يبعد عنك بضعة أمتار.
لقد عُدْنا، وبعد قرونٍ من الانفصال في المكان والزمان، ومن الفقر في "المعرفة المتبادلة (المتزامنة)"، إلى "نقطة الانطلاق" في الاتِّصال الإنساني؛ عُدْنا إليها؛ لكن عودةً مختلفة المحتوى، وتمثِّل درجة أعلى في "السُّلَّم الحلزوني (اللولبي)" لتطوُّر الاتِّصال (أو التواصُل) الإنساني؛ عُدْنا إليها؛ لكن مع استبقاء (والمحافَظَة على) كل ما هو "إيجابي"، و"مفيد"، و"ضروري، في "طور الانفصال"؛ وكأنْ لا مهرب، ولا مفر، من هذا "المُركَّب الهيجلي"، الذي فيه، وبه، تندمج وتتَّحِد العناصر الإيجابية في "الطَّوْرين السابقين المتناقضين".
أنتَ الآن، وبفضل هذا "المُرَكَّب الهيجلي"، في وسعكَ أنْ تعمل وتعيش في أبعد مكان وكأنَّك لم تغادِر الجماعة التي إليها تنتمي؛ فأصبح تمييز "البُعْد" من "القُرْب" من الصعوبة بمكان.