مقدمة:
ذهب العراقيون إلى صناديق الانتخابات من جديد يبحثون عن خلاص لهم من عذاب الديمقراطية الذي طال. في بلد تطفو معظم أراضيه على بحيرات من النفط يعيش أكثر من 20% من سكانه تحت خط الفقر. هل ستأتي الانتخابات الجديدة بالجديد؟
ــــــــــ
تمثل التنمية السياسية في الوقت الحاضر مفهوما محايدا وبديلا لمفهوم الديمقراطية الليبرالي كما و تمثل الحل لمشاكل وأ زمات النظام السياسي عبر استعماله آليات متعددة مثل الإيديولوجية والثقافة السياسية والأحزاب والإدارة المدنية والجيش . وقد ساهمت التنمية السياسية في زيادة قدرة النظام السياسي على مواجهه الازمات، وعلى الخصوص الأنظمة السياسية الوليدة ومنها النظام السياسي العراقي بعد عام ٢٠٠٣. ان أزمات النظام السياسي تطال الدول المتقدمة وغير المتقدمة على حد سواء، مع خصوصية لبعض الدول ومنها العراق الذي يعاني من انهيار النظام السياسي واستبداله بنظام سياسي آخر، خصوصاً مع انهيار الدولة العراقية نفسها واستبدالها بدولة غير مستقرة وغير واضحة التشكيل بعد الاحتلال الأميركي عام ٢٠٠٣. تعاني القوى السياسية العراقية المعاصرة من غياب واضح لمفهوم الدولة ، وتحتضن بدلا عنها السلطة وتخلف البنى وضعف المؤسسات السياسية العراقية. لقد ولدت المراحل المختلفة لتاريخ العراق السياسي حالة من التضاد النوعي الدائم بين النظام السياسي والشعب، مما أوجد حالة تصدع للشرعية، وانعدام الثقة المتبادلة والعنف السياسي، واستعمال القوة المشروعة وغير المشروعة، ناهيك عن كثرة المفاهيم الفكرية والجوانب المستجدة في الواقع العراقي المعاصر مثل النظام السياسي البرلماني وموضوع الفيدرالية والدولة الاتحادية وغيرها. يعاني النظام السياسي العراقي بعد عام ٢٠٠٣ ، من عجز في تحقيق التنمية السياسية المطلوبة وغياب لتحديد اسباب الأزمات وطرق حلها، مما جعلها أزمات مستديمة وصعبة الحل، وذلك لأن آليات حلها الديمقراطية والدستورية نفسها تدور في حلقة دائرية مغلقة ومفرغة. ان مستقبل النظام السياسي في العراق يعتمد على حلحلة أزماته بشكل مستمر باستخدام آليات التنمية السياسية، والا فإنه سيخلق حالة، اما استمرار النظام السياسي واداءه بشكل ضعيف وغير مجدي، أو انهياره الكامل نتيجة عجزه التام عن مواجهه الازمات وإيجاد السبل والمناخ التنموي المطلوب لحلها.
التنمية السياسية :نظرة في المفاهيم والنظريات:
تميزت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، من بين أشياء عديدة ، بسمتين بارزتين.
الأولى: تصاعد حركات التحرر الوطني واستقلال عدد كبير من البلدان التي شكلت ما عرف لاحقا بدول العالم الثالث أو الدول النامية، والسمة الثانية: هي انقسام العالم إلى معسكرين، أحدهما اشتراكي بزعامة الاتحاد السوفيتي، والآخر رأسمالي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، وتصارع المعسكران من أجل ضم اكبر عدد من الدول التامية تحت دفتيهما. في الوقت نفسه أدركت البلدان النامية حقيقة أوضاعها المتخلفة وضرورة مواجهة تحدي التنمية وتقليص الفارق بينها وبين البلدان المتقدمة في شتى المجالات. وبالنظر إلى ضخامة الإمكانيات اللازمة لتحقيق التنمية في هذه البلدان اتضح بسرعة انها بحاجة إلى "مساعدة" الدول التي سبقتها في التقدم والقوة وعلى رأسها الولايات المتحدة وأوروبا والاتحاد السوفيتي.
في هذا السياق الدولي بدأ اهتمام علماء الاقتصاد والسياسة بتطورالعالم الثالث وظهرت الدراسات والأبحاث والنظريات عن التنمية الاقتصادية في وقت مبكر، وسرعان ما تبين أن التنمية الاقتصادية ينبغي أن تشمل الجانبين الاجتماعي والسياسي معًا، مع اصرار القطبين العالمين الاميركي والسوفيتي على تصدير نموذجهما السياسي الى الدول النامية. وهكذا، على غرار التنمية الاقتصادية، ظهر مفهوم "التنمية السياسية" وصارت أبحاث التنمية السياسية ونظرياتها حقلا من حقول علم السياسة. ان التنمية السياسية مفهوم شديد الغموض لأكثر من سبب. أولا لانه كثيرا ما يقع الخلط بينه وبين مفاهيم أخرى قريبة منه او قد تكون مرادفه له مثل التحديث السياسي، والانفتاح السياسي، والإصلاح السياسي، والانتقال السياسي، والديموقراطية. وثانيا لانه يضم مفاهيم فرعية غامضة بدورها، مفاهيم سياسية وإيديولوجية وأخلاقية وفلسفية غير قابلة للقياس الدقيق والملاحظة العلمية، مثل العدل والمساواة والقدرة وغيرها. السبب الثالث، وفيه يتجلى غموض المفهوم أكثر من غيره، هو تعدد التعاريف التي وضعت للتنمية السياسية واختلافها، وجزئيتها أحيانا وعموميتها وتجريدها في أحيان أخرى.
فقد ظهرت تعاريف عدة لمفهوم التنمية السياسية ؛ منهم من ركز على العلاقات الاجتماعية والروابط السياسية في المجتمع، العلاقات بين الناس والعلاقات بين المؤسسات الحكومية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والعلاقات بين هذه وأولئك. ومنهم من ركز على بنية الأجهزة والهياكل السياسية وطبيعتها ومكانتها ودورها في الدولة، ومنهم من اهتم خاصة بقدرات النظام السياسي وفعالية الأداء الحكومي، ومنهم من أولى عنايته لاستقرار النظام السياسي وشرعيته في المجتمع. وهكذا ظهرت تعاريف كثيرة يمكن اختصار مضمونها في :
التنمية السياسية هي نماذج العلاقات بين الناس من خلال المؤسسات الحكومية السياسية
والاقتصادية والاجتماعية.
التنمية السياسية هي زيادة المساواة وقدرة النظام السياسي وتمايز البنى السياسية وهي النظام المتطور سياسيا هو الذي يواجه بنجاح الضرورات الوظيفية لكل نظام سياسي وهي عند بعضهم وضع رموز سياسية متغيرة ورموز لتوطيد الهوية الوطنية، وبنية مركزية قانونية وسياسية، وقنوات لتنظيم الصراع السياسي التنمية السياسية هي قدرة النظام على التعامل مع بيئته الداخلية والخارجية. والتنمية السياسية هي قدرة النخبة الحاكمة على تحقيق التنمية. والتنمية السياسية هي عملية بناء الديموقراطية. في حقل التنمية السياسية ظهرت نظريات لم تثبت صحة أي منها بصورة تامة ومقنعة، تعرض بعضها للنقد في وقت ظهورها أو بعده، وتمت مراجعة بعضها أو مناقضته من قبل أصحاب النظريات أنفسهم. من هذه النظريات نذكر: في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي كانت النظريات الأكثر رواجا هي "نظرية التحديث" ونظرية التنمية الاقتصادية، ونظرية الثقافة السياسية ؛ وابتداء من نهاية الثمانينيات خاصة صار الحديث مركزا على "نظريات التحول الديموقراطي" وبناء الديموقراطية بوجه عام، وفي مقدمتها نظرية "الديموقراطية أولا" ونظرية "الاختيار العقلاني". وحدث هذا في ارتباط وثيق مع تطورات الوضع الدولي خاصة في العالم الثالث وفي المعسكر الاشتراكي سابقا. في ما يلي نلقي نظرة على كل من النظريات المذكورة.
نظرية التحديث
الإطار الفكري العام لهذه النظرية يقوم على تقسيم المجتمعات إلى "مجتمعات تقليدية" هي
المجتمعات المتخلفة و"مجتمعات حديثة" هي البلدان المتطورة، والإيمان بتصور خطي مستقيم وحتمي للتطور التاريخي يسير بالمجتمعات من التقليد إلى الحداثة، وهو المقابل الليبرالي للنظرية الماركسية القائلة آنذاك بوجود حتمية تاريخية أخرى تنتقل بموجبها المجتمعات الرأسمالية إلى الاشتراكية. إلى جانب هذا السياق النظري العام تتميز نظرية التحديث بسمتين هما العمومية والشمول، لأن التحديث مفهوم شامل يتناول التنمية السياسية في حركية واحدة شاملة للمجتمع بأسره من دون التركيز على المجتمع السياسي وحده. والسمة الأخرى أن نظرية التحديث تركز على العوامل الخارجية من حيث انها على قول أصحابها تقوم بدور كبير في نقل المجتمعات المعنية من التقليد إلى الحداثة، وتحقيق التنمية السياسية نتيجة لذلك. في عرض هذه النظرية شدد أشهر القائلين بها وهو دافيد أبتر التنمية والتحديث . فالتنمية تقتضي أ ن عملية التصنيع يتبعها وينجم عنها تغير في مبادئ التدرج الاجتماعي وفي توزيع المراكز والأدوار الاجتماعية، بصورة عقلانية متدرجة تنقل المجتمع من التقليد إلى الحداثة عبر مراحل متتالية تختلف فيما بينها من حيث مبادئ التدرج الاجتماعي وفي توزيع المراكز والأدوار الاجتماعية 8 السائدة في كل منها إلى أن تبلغ الطور الأخير، طور الحداثة المتميز بسمات المجتمع الغربي الحديث، يكون فيه بفعل عوامل متعددة على رأسها الحراك الاجتماعي انتماء الأفراد غير معتمد فقط على العلاقة بوسائل الإنتاج، بل تحدده أيضا الإقامة وأساليب الترفيه والتسلية والقيم المادية الاستهلاكية والمعنوية الأخلاقية، وبصفة عامة سلسلة من "مصالح مرتبطة بالمراكز الاجتماعية" تؤدي إلى تشكيل " مجموعات مصلحية متخصصة". عندئذ يتجه الوعي الطبقي نحو الزوال ويسود نظام وظيفي أو مهني تكون فيه النخب مجتمعة بمركز وظيفي متخصص تحدده الكفاءات والتعليم والتربية ونوعية التكوين والقيم المرتبطة بكل هذا، وهي كلها من خصائص الحداثة.
مدرسة الثقافة السياسية:
أشهر الباحثين وواضعي مقولات هذه المدرسة غابرييل ألموند . يعتقد ألموند أن أي ثقافة من الثقافات تضم ثلاثة جوانب، جانب معرفي يتعلق بمعارف المرء عن النظام السياسي، وجانب شعوري يخص التعلق الشخصي بالقادة والمؤسسات، وجانب تقييمي يشمل الأحكام والآراء التقييمية عن الظواهر السياسية. ومنه يمكن تعريف الثقافة السياسية بانها عند هذا المنظر مجموع ما يملكه الفرد من معارف عن النظام السياسي، ومشاعر إيجابية أو سلبية نحو القادة والمؤسسات وأحكام تقييمية بشأن الظواهر والعمليات السياسية . وهناك تعريف آخر أشمل وأوجز مفاده أن الثقافة السياسية هي "الجوانب السياسية للثقافة . السائدة في مجتمع من المجتمعات باعتبار أن هذه الجوانب تشكل جملة متناسقة الأجزاء" . يعود تاريخ هذه المدرسة إلى نهاية الخمسينيات من القرن الماضي لما قام ألموند وفيربا في فترة 1958-1963 بتحقيق شمل خمسة بلدان هي أميركا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا والمكسيك، وسئل فيه 5000 شخص. كان موضوع الدراسة في الحقيقة البحث في الثقافة "المدنية" تحديدا وليس الثقافة السياسية عامة، يعني دراسة الثقافة السياسية بالنظر إلى القيم الديموقراطية لمعرفة ما إذا كانت هذه الثقافة تساعد على تنمية الديموقراطية أو تعرقلها، بخلفية أن الهدف المثالي هو الديموقراطية الأميركية والبريطانية. من أجل القيام بالمهمة كان لابد من إعداد نظري سابق. ألموند حلل الثقافة السياسية فميز بين ثلاثة أصناف منها سماها "ثقافة محلية و"ثقافة التبعية ،.و"ثقافة المشاركة .الثقافة المحلية تكون متجهة نحو الأنظمة الفرعية المحلية مثل القرية والعشيرة والقومية والمنطقة من دون النظام السياسي برمته، وثقافة التبعية أو الخضوع تجعل الناس يعلمون بوجود النظام السياسي لكنهم يقفون منه موقفا سلبيا، ينتظرون منافعه وخدماته ويخشون تجاوزاته ولا يرون أنفسهم قادرين على التأثير فيه. أما ثقافة المشاركة فهي على النقيض من ذلك. هنا يعتقد المواطنون انه باستطاعتهم أن يؤثروا في سير النظام وفي العملية السياسية بطرق ووسائل شتى كالانتخابات والمظاهرات والعرائض وتنظيم الجماعات الضاغطة. في نظر ألموند كل صنف من الثقافة السياسية يقابله نوع من البنية السياسية أي نظام حكم خاص به، فالثقافة المحلية تكون في نظام غير ممركز تماما، فيه لامركزية واسعة وظاهرة. وثقافة الخضوع في نظام ممركز سلطوي، وثقافة المشاركة في نظام ديموقراطي. التطابق بين الثقافة السياسية وبنية النظام السياسي ضروري عنده لاستقرار النظام وعمله بشكل جيد والتفاوت بينهما يسيء إلى النظام ويهدد استقراره. ألموند أوضح أن ما حدده من أصناف الثقافة السياسية إنما هو "نماذج مثالية" لا توجد بصورة خالصة في أي نظام من الأنظمة الملموسة.
نظرية التنمية الاقتصادية:
هذه النظرية تطبيق لمقولات المدرسة السلوكية الشاملة في العلوم الاجتماعية على علم السياسة عامة والعلاقة بين التنمية الاقتصادية والتنمية السياسية خاصة. من المعلوم أن النظرية السلوكية في علم السياسة تقدم "كيف" على "لماذا"، وهي تسعى لبناء نظريات انطلاقا من ملاحظة سلوكيات منتظمة متكررة ثابتة تشاهد في العمليات السياسية. أدواتها التقديرات الكمية عن طريق الإحصاء، من دون أحكام تقييمية ولا اهتمام بتفسير الدوافع الداخلية التي تحمل الأفراد على نماذج معينة من التصرفات. المقدمة الفلسفية والمعرفية لهذه النظرية انه لا يمكننا أن نحلل إلا السلوكيات والتصرفات المشاهدة بالعين المجردة، وهو ما يؤدي إلى اتخاذ المنهج التجريبي بواسطة التقنيات الكمية أداة للبحث واعتماد نتائجه لوضع المقولات. من ناحية الأداء يرى القائلون بنظرية التنمية الاقتصادية أن توسيع التصنيع والتحديث وتزايد نطاق التعليم وارتفاع مستوياته وزيادة التمدين ونشاطات الإعلام تزيد النظام فاعلية وشرعية بالنتيجة. فيما يخص التركيبة الطبقية للمجتمع وتدرج شرائحه، يركزون على نمو الطبقة الوسطى وتعاظم دورها في المجتمع ذاهبين إلى أن تحقيق التنمية الاقتصادية بما تعنيه من مستويات عالية في التعليم والتمدين وتزايد الدخل الفردي وتغير أنماط المعيشة وتبدل القيم الاجتماعية والثقافية والسياسية تؤدي إلى نشوء طبقة وسطى تملك روحا مدنية عالية، مهتمة بسير الشأن السياسي وأحواله، راغبة أن يكون أصحاب الوظائف العامة في مستوى المسئوليات المسندة إليهم ومطالبة باختيار الأشخاص الملائمين، المنتخبين منهم والمعينين. فالطبقة الوسطى تنسب إليها فضائل الروح المدنية وروح المشاركة والمبادرة والنقد والمحاسبة والمطالبة، أي ثقافة ديموقراطية ليس يقدر النظام على تجاهلها. اتفق أصحاب هذه النظرية في أشياء أولها دور الطبقة الوسطى في تحقيق التحول الديموقراطي، واختلفوا في أمور أخرى منها أهمية هذا الدور وقوته ونوع العلاقة بين التنمية الاقتصادية والتنمية السياسية. أقوى المدافعين عن هذه النظرية، وهو سيمور مارتن ليبست قال بعلاقة إيجابية طردية ومباشرة بين التنمية الاقتصادية والديموقراطية، مؤكدا أن العامل الاقتصادي ، هو سبب استقرار الديموقراطيات الغربية بينما ذهب آخرون، في مقدمتهم صامويل هنتنغتون ومن دون إنكار دور الطبقة الوسطى في قيام الديموقراطية، إلى أن التنمية الاقتصادية واحد من العوامل وليس العامل الوحيد في العملية، لكنه سلم بأن الديموقراطية ستكون في نهاية المطاف إذا كانت التنمية الاقتصادية ملخصًا ما رآه من أهمية نسبية للمتغير الاقتصادي وللمتغيرات الأخرى بمسلمة عبارتها "التنمية الاقتصادية تجعل الديموقراطية ممكنة والزعامة السياسية تجعلها حقيقية" أو فعلية. نتائج الدراسات الخاصة بالبلدان المعنية بمسألة الديموقراطية كان فيها ما يتفق مع نظرية التنمية الاقتصادية وما يناقضها. فهناك بلدان منها الهند وسريلانكا حققت قدرا من الديموقراطية لفترات طويلة وهي في مستويات ضعيفة من التنمية الاقتصادية بمؤشرات المركز الاجتماعي الاقتصادي المعروفة، وفيها نسبة عالية من الأمية، وخصائصها خصائص المجتمعات الزراعية وليس الصناعية. فههنا إذًا ما يجيز القول إن التنمية الاقتصادية ليست شرطا لا غنى عنه للممارسة الديموقراطية. وهناك بلدان عديدة أخرى من أمثال نيجيريا والمكسيك وتايلاندا وكوريا الجنوبية أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية متفقة مع مقولات هذه النظرية.
النظام السياسي العراقي بعد عام ٢٠٠٣:
ان عملية التنمية السياسية تتطلب بشكل جوهري إشباع المطالب ومعالجة المستجدات، وتعبئة الموارد البشرية والمادية لغرض أجراء التحولات الكبرى في المجتمع، وتأسيس بنى اجتماعية سياسية مؤهلة تسانده وتؤدي وظائفه. ان هذه العمليات المذكورة مصحوبة دائما بالأزمات التي تتطلب المعالجة وصولا لأقامة نظام ديمقراطي حديث،خصوصا الانظمة الجديدة ومنها النظام السياسي العراقي بعد عام ٢٠٠٣ . عانى العراق ومازال من ست أزمات هي أزمات الهوية، و الشرعية، و التغلغل، والمساهمة، و الاندماج والتكامل، و التوزيع.
أزمة الهوية:
تتعلق أزمة الهوية بتكوين شعور مشترك بين أفراد المجتمع الواحد، وانهم متميزون عن غيرهم من المجتمعات الأخرى. اذ يجب ان يتوصلوا الى الى اقرار كون اقليمهم هو وطنهم الحقيقي، ما يجب ان يشعروا بوصفهم فراداً بأن هويتهم الشخصية محددة جزياً بانتماءهم الى بلادهم المحددة أقليميا. وفي معظم الدول الجديدة ان الأشكال التقليدية للهوية تتراوح ما بين العشيرة او الطائفة وبين الجماعات الاثنية واللغوية التي تتنافس مع الشعور بالهوية الوطنية الاوسع . ولهذا فان أزمة الهوية ذات ثقل في التنمية السياسية في المجتمع وفي بناء الدولة. وفي أطار المجتمع العراقي تكتسب الهوية اهمية متزايدة ، فالملاحظ ان التنوع الديني والعرقي والمذهبي، وتعدد الثقافات الفرعية لم يصل الى مستوى الانصهار والاندماج في اطار الهوية الوطنية الشاملة بدلاً من انتماءات ضيقة تفشل خطط التنمية السياسية وتجعلى الوحدة الوطنية ﺿمن الخطر المستديم . لذلك يمكن القول ان هشاشة الهوية الوطنية العراقية المتقطعة الاوصال، يساعد على ديمومة التوتر والعنف في الوضع السياسي والاجتماعي العراقي أن القوى السياسة العراقية لها قوة بمقدار قوتها العشائرية والمذهبية والقومية ، وبعضها لديها المسلحة، لذا فالقائمون على الشأن السياسي في العراق- ما يرى الدكتور عامر حسن فياض - يعيشون في العصر الحجري للسياسة، اي العصر الذي يعتمد على جمع قوت السياسة، وليس على إنتاجها. اي ان هذه القوى تعمل بعقلية اقتسام السلطة، وليس إيجاد وعي جديد بمفهوم الدولة. وفي حال تطبيق ذلك على اسس ونموذج البنية السياسية في مجلس الحكم الانتقالي والحكومات العراقية اللاحقة ، فإننا نرى الضعف البنيوي المميز للوعي السياسي العراقي فيما يتعلق بادراك خصوصية ومعنى لهوية الوطنية الشاملة. ان مبدأ المواطنة يصبح احد انجع الحلول الواجب ترسيخها، وما يجب ان يشكله من بوتقة على الكل العراقي ان ينصهر بها لإنتاج ذاته بما يناسب خصائصه الموضوعية، فضلاً عن تعميق الشعور بالهوية الجماعية للأفراد وجعلى الانتماء للعراق اولاً واخيراً .و لأجل حل اشكالية الهويات العشائرية والطائفية، فأن البديل يتمثل بالأقرار المجتمعي، ومن ثم الدستور العقدي، بالهوية التعددية المذهبية والطا فية والعشائرية في العراق لتمثل هويات دينية واجتماعية وليس سياسية . وبالإمكان لهذه المكونات العشائرية والطائفية تشكيل روابط اجتماعية ودينية تدافع عن مصالح أعضاءها بوصفها منظومات اجتماعية ودينية وليست سياسية. اذ ان اعتماد الهوية الوطنية وعلى ويتها على سواها من الهويات الأخرى لا يلغي او يقصي او يتجاهل الهويات الأخرى القومية والدينية والعشائرية والمذهبية، انما ستتميز الهوية الوطنية عن الهويات الأخرى جميعها بوصفها هوية سياسية وغيرها هويات غير سياسية . فالهوية القومية تمثل منظومة ثقافية وحضارية وليس منظومة سياسية. كذلك الهوية الدينية والعشائرية فانهما تمثلان ايضا منظومات اجتماعية لا يمكن ان يرتقيا الى مستوى الهوية السياسية بقدر تعلق الأمر بالعراق. ويجب ايضا تنمية الجانب الثقافي عن طريق خلق ثقافة وطنية شاملة وموحدة تشعر كل فئة مهما كانت لغتها او دياناتها او مذهبها بانها عراقية ومتساوية تماما مع الفئات الاجتماعية الاخرى .
أزمة الشرعية:
ترتبط أزمة الشرعية بشكل وثيق بسابقتها أزمة الهوية ،وهي ترتبط بتحقيق الاتفاق حول شرعية السلطة القائمة والمسؤوليات الخاصة بالحكم والنظام السياسي . وفي التحليل الاخير فان مآلها هو بناء الامة . وفي كثير من الانظمة السياسية الجديدة فإن أزمة الشرعية هي مشكلة دستورية ومؤسساتية، اذ تدور حول السؤال: ماهي العلاقة بين السلطات المركزية والسلطات المحلية ؟ كذلك ما هو دورالنظام السياسي في دفع عملية التنمية بكل جوانبها؟ . وفي انظمة سياسية اخرى ان قضية الشرعية أكثر ارتباكا ، وتنطوي على مشاعر تدور حول الروح التي يجب ان تسيطر على الحكومة والأهداف الأساسية للأمة وهل هي دينية ام ايديولوجية ام اقتصادية ام تنموية ؟ فضلاً عن ما تقدم، تتعلى أزمة الشرعية بعدم تقبل المواطنين المحكومين لنظام سياسي و نخبة حاكمة بوصفها غير شرعية أو لا تتمتع بالشرعية أي لا تتمتع بسند واساس يخولها الحكم واتخاذ القرارات ان مقياس شرعية اي نظام، ومنها النظام العراقي ، في معناها السياسي والقانوني يقوم على اساس جانب شكلي يتمثل بدستورية السلطة أي ممارستها وأقامتها على وفق قواعد الدستور، وجانب موضوعي يتمثل بقناعة ورضا افراد المجتمع بهذه السلطة، وهذان الجانبان لا ينفصلان عن بعضهما عن بعض ان دستورية السلطة في العراق ما زالت محكومة بسياسة التوافق بين مختلف الأطراف والكتل السياسية وإرجاء عددٍ من المشكلات الجوهرية والمصيرية المتعلقة بالدستور الدائم مثل شكل الدولة والعلاقة بين الدين والدولة وطبيعة النظام السياسي وهوية العراق وتوزيع الثروات وغيرها، الى المستقبل غير المنظور ، ومن ثم يستلزم اعادة التشاور والتوافق بشان المسائل العالقة مرة اخرى.
ومن جهة اخرى فإن تردي الوضع الامني والا قتصادي والاجتماعي، و ضعف النضج السياسي للقوى السياسية و ضعف الخدمات العامة وتفشي الفساد المالي والإداري وانتشار البطالة، جعل النظام السياسي يفقد همزة الوصل بينه وبين الجماهير، الا وهي سمة الفاعلية في ادائه لوظائفه واستقراره وديمومته من اجل دعم برامج التنمية السياسية . فضلا عن ما تقدم، فإن إفراز و إقرار التشكيل الوطني على اساس البنى التقليدية مثل البنى الطائفية والعرقية والعائلية ، افقدها شرعية التمثيل الطبيعي والموضوعي للشعب العراقي الذي تستطيع من خلاله ممارسة دورها البنيوي انطلاقا من وحدتها مع مجتمعها . اي ان محنة الشرعية ظاهرة سياسية تأريخية ملازمة للنظام السياسي في العراق إذ لم تتم حاليا إعادة بناء الدولة على وفق منطق الدولة - الأمة ، بقدر ما هي خاضعة لنزعة تشكيل دولة الطوائف. ان احد الحلول اللازمة لحل أزمة الشرعية هو قيام الديمقراطية الدستورية في العراق ، والمعتمدة على توافر شرطين جوهريين أولا: المساواة السياسية بين المواطنين عبر مبدئي المساواة والمواطنة وثانيا التوصل الى صيغة دستور ديمقراطي، والدستور الديمقراطي ليس منحة من احد ولا يجوز الرجوع عنه او تعديله الا وفق حكامه .
ازمة التغلغل:
تنجم ازمة التغلغل عن عجز النظام السياسي ومؤسساته عن تجسيد الأرادة المجتمعية والتعبير عنها مما يؤدي الى عجزه عن ممارسة أدواره على كامل الأمتداد الجغرافي للوحدة السياسية افقيا أو في كامل مستويات البنية المجتمعية عموديا . فيجب على النظام السياسي أن يكون قادرا على الوصول حتى الى مستوى القرية، وان يمس حياة الناس اليومية .ويرجع سبب ازمة التغلغل التي تصيب النظام السياسي العراقي المعاصر الى
أولا : هشاشة الوضع الامني في العراق الناتج عن ضعف تدريب القوات الأمنية للجيش والشرطة ووجود عناصر فاسدة متسللة اليها ، ولا ننس خطر الميليشيات المسلحة المستديم على الوضع الامني. ولا ريب في ان التنازع السياسي الحالي في العراق وسياسة التخوين بين قياداته او بين الكتل، سينميان حالة التخندق وفقدان الثقة وانعزال كل طائفة عن الاخرى، وانحيازها لمن يخاطبها على اساس المناطقية او الهوية المذهبية. وهذا الاختلاف السياسي هو عامل تأزيم للوضع الامني في المستقبل . فضلاً عما سبق ذكره هناك تشكيك في قدرة الجيش على حفظ الامن ، استناداً الى انه تم تشكيل غالبية عناصر الجيش والقوات الامنية العراقية بعد عام٢٠٠٣ من مليشيات احزاب سياسية وافرا د غير كفوئين، مع خضوع المؤسسة العسكرية لسياسة توزيع الحصص والمناصب بين الكتل السياسية الفائزة ، على وفق التقسيمات الطائفية والقومية للمناصب. اذ ان منصب وزير الدفاع هو من حصة العرب السنة ، ووزير الداخلية من حصة العرب الشيعة . اما رئيس اركان الجيش ونائب وير الداخلية، فيكون من حصة الكرد وتنزل فكرة الحصص حتى ادنى الفرق والالوية العسكرية، بل وحتى عد د طلاب الكلية العسكرية . هذه الامور مجتمعة جعلت بعض الخبراء يرجحون ان المؤسسة العسكرية العراقية لن تكون عاملا لحفظ الامن ، بل سيتوزع سلاحها وعناصرها على وفق تنوعها المذهبي والقومي والاثني. هذا ونصت المادة التاسعة من الدستور العراقي الدائم على ان تتكون القوات المسلحة العراقية والأجهزة الأمنية من مكوّنات الشعب العراقي ، بما يراعي توازنها و تماثلها دون تميز او اقصاء . إن هذا النص يستبطن خضوع القوات المسلحة والأجهزة الأمنية لأسس التقاسم والمحاصصة ، في حين ان ينبغي ان تكون القوات المسلحة فوق اي توجه حزبي اوفئوي او اثني او قومي ، معتمدة على معايير الوطنية والكفاية والخبرة .
ثانيا : الدور السلبي الذي تلعبه الدول المجاورة والاقليمية والدولية في العراق.
ثالثا : عدم قيام مصالحة وطنية عراقية شاملة وحقيقية بحيث تفضي الى اتفاق او ميثاق وطني يتضمن المبادئ الرئيسة، والآليات التي تقبلها جميع القوى السياسية العراقية .نتيجة لما تقدم اتخذت أزمة التغلغل مدىً يصعب التنبؤ بما ستؤول اليه مستقبلاً، الا اذا أستطاعت الحكومات العراقية المتعاقبة أن تبني قواتها المسلحة، بضمنها الشرطة والأمن وفق اسسس مهنية عالية وحيادية وطنية وتفرض سيطرتها الكاملة وضبط الحدود مع دول الجوار وتحسين علاقاتها مع دول العالم . ان الدعوات المتكررة من قبل القادة السياسيين والبرلمانيين الى نزع سلاح المليشيات وان يصبح السلاح في يد الدولة حصراً، هي من قبيل الدعوات الواقعية الرامية الى دمجها بالمجتمع العراقي كافة و تجنبا لحدوث الحرب الأهلية . ورغم ان هذا التوجه هو خطوة ايجابية تخدم النظام السياسي، الا ان التحدي الحقيقي يتمثل في آليات تنفيذ هذه الخطوة ومدى فاعليتها بخاصة في ما يتعلق بالجيش والشرطة العرا قيين اللذين سيتم دمج عناصر من الميليشياتالمسلحة فيهما ، فضلاً عن حدود قدرة الحكومة على توفير فرص العمل للعناصر المسلحة الأخرى التي سيتم دمجها في الحياة المدنية في وقت يعاني فيه التمجتمع العراقي من ارتفاع حاد في معدلات البطالة. ولكن الاهم من هذا فان التوافق بين القوى العراقية الرئيسة على الصيغ السياسية والمؤسسية لشكل النظام السياسي وطبيعة الدولة، هو الذي سيدعم عملية حل المليشيات المسل ة التابعة للقوى السياسية ، وذلك لحساب جيش عراقي موحد وشرطة عراقية موحدة يوفران الأمن والحماية للجميع . اما التعثر في تحقيق هذا الهدف فانه سيشكل دافعاً للقوى العراقية المسلحة بشكل او بآخر ، بوصفها ركيزة لتأمين مصالحها السياسية في ظل مجتمع تعددي تتقاسمه الانتماءات العرقية والدينية والطائفية والقبلية . ومع ان الانتخاب بالقائمة المفتوحة ادى الى تغيير ٨٠ % من اعضاء مجلس النواب السابق، الا ان القيادات والرموز السياسية حافظت على موا قعها ، بل ان بعضها حصل على اغلب الاصوات مثل المالكي وعلاوي وطارق الهاشمي واسامة النجيفي وابراهيم الجعفري ، لذا يدور النقا ش وبشكل مستمر حول تغيير النظام الانتخابي الذي يؤدي الى وصول اشخاص غير مستحقين بوساطة اصوات القائمة. يقول النائب بهاء الاعرجي ان ١٦ نائباً فقط من بين 325 نائبا فازوا باصواتهم.
أزمة المشاركة السياسية
ان أزمة المساهمة ناتجة عن عدم تمكن الأعداد المتزايدة من المواطنين من الإسهام في الحياة العامة لدولهم مثل المشاركة في اتخاذ القرارات السياسية، و اختيار المسؤولين الحكوميين . وتحدث هذه الأزمة عندما لا تتوافر تشريعات ومؤسسات سياسية معينة تتمكن من استيعاب القوى الراغبة في تلك المشاركة . فمع تهميش طرف سياسي عراقي على حساب الأطراف الأخرى والاتجاه نحو مساهمة الأطراف السياسية كافة في تشكيل ملامح النظام السياسي ، يجعل العملية السياسية تتجه تحقيق هدافها . فضلا عن ذلك، ان المساهمة التشاركية الحقيقية والوطنية يجب ان تبتعد عن المحاصصة الطائفية ، وان تكون الوزارات لمصلحة الشعب العراقي ، وان يكف من يعمل او من يريد ان يعمل على جعلها واجهات حزبية او طائفية او قومية تخدم شريحة مجتمعية بنفسها ، وتختزل المكونات الوطنية الأخرى في دائرة مغلقة.
وفي مرحلة ما بعد الاحتلال الاميركي وبالنظر إلى ما شهده العراق من تصاعد واضح للتيارات السياسية الجديدة طرح ما يعرف بالد يمقراطية التوافقية بوصفه حلاً امثل لازمة المشاركة في النظام السياسي، و قام الاحتلال بتكريس هذا الطرح عبر تشكيل مجلس الحكم الانتقالي على اساس المحاصصه الطائفية والقومية، واعتمد الأسلوب نفسه في تشكيل الحكومات العراقية اللاحقة. أن الديمقراطية التوافقية كونها سبيلا للحكم توفر السلم المدني وتصونه بين الطوائف المختلفة المكونة للمجتمع عبر الاستناد إلى التعددية الناجمة عن وجود ثقافات عدة داخل نظام اجتماعي واحد، مما يتطلب وجوداً متعادلاً لمختلف الفئات لتلافي حدوث مشاكل تترك ندوبا واضحة في جسد هذا النظام لدرجة تجعل الوضع متفجراً على الدوام . ويتميز نظام الديمقراطية التوافقية ايضا بقدرته على إيجاد حواجز حقيقية لا تسمح لأية فئة اجتماعية بالتجاوز على حقوق طا ئفة اخرى سواء باحتكار السلطة كلياً او جزئياً، اذ يقوم الدستور بوضع تفاصيل هذه التوافقية التي تجعل العمل السياسي والحزبي وكذلك الانتخابي والبرلماني ،قوة ديناميكية جماعية تساعد باختلاط أ دوار الجميع من أجل مصلحة الجميع. ففي العراق فان اشكالاً معينا من الديمقراطية التوافقية، التي تأخذ في نظر الاهتمام الانقسامات الاثنية – الدينية، قد تكون ضرورية بوصفها حالة انتقالية نحو نظام ديمقراطي كامل لا يتضمن اي ممارسات تمييزية.
ويبدو ان اعتماد الديمقراطية التوافقية بحاجة الى مقومات تجعل منها آلية فاعلة وتجنب حالة الانزلاق الى تدافعات وصراعات تأخذ شكلا عنفيا ، واهم هذه المقومات هو تبلور مفهوم الدولة على حساب السلطة لقد صنف العرا ق من الدول الفاشلة ووضع في مرتبة ادنى من الد يمقراطيات المعيبة ذت التحول الفاشل او غير المتاح . وعلى الرغم من تحقيق تحسن طفيف خلال 2008-2010 ، الا انه بقى ضمن التصنيف العام نفسه.
أذن لا يجوز عد الديمقراطية التوافقية شكلا للديمقراطية المطبقة في العراق، بل هي مرحلة انتقالية لابد من المرور والعبور فو قها نحو الافضل منها، والسبب في ذلك انها من الممكن ان تصيب مؤسسات الدولة التشريعية بالشلل التام و عدم قدرتها على الاستجابة لطموحات مواطنيها ، وعندما لا يحمل النظام السياسي صفة القدرة على المرونة والتغير من داخله وبالوسائل السلمية فانه سيتفجر من داخله بكل تاكيد استجابة للحراك الدينامي الاجتماعي والسياسي. لذا يجب تأسيس ما يعرف بالعدالة الانتقالية – خصوصا للمجتمعات التي تلك ارثا كبيرا من انتهاكات حقوق الانسان - التي تتيح للدولة والنظام السياسي اعادة تأسيس الشرعية على اسس جديدة قائمة على اساس العدل واحترام القانون والمساوة بين جميع المواطنين في الواجبات والمسؤوليات والحقوق، والمصالحة الوطنية وتعويض الضحايا والمتضررين واصلاح المؤسسات العامة. ومع ذلك فان الديمقراطية المطلوب تحقيقها فكرةً ونظاماً، تقوم على المساهمة والمشاركة لا على التأييد والموافقة. فالأخيرة لا تقر بالمشاركة المجتمعية بين المختلفين في صناعة القرار السياسي، انما تترك عملية صنع هذا القرار واتخاذه بيد فرد او اقلية، ثم يستخدم هذا الفرد او تلك الاقلية أساليب الترغيب والترهيب لكسب التأييد الشعبي والمشاركة الجماهيرية على قراراته، وعد هذا التأييد آلية وحيدة للممارسة الديمقراطية. بينما تقتضي ديمقراطية المشاركة اعتماد آليات وإ قرار
مبادئ تقوم على مبدا الأقرار المجتمعي بحقيقة التنوع في مكونات المجتمع العراقي قوميا ودينيا وسياسيا، وكذلك القرار بحق الاختلاف، وليس الخلاف بين المكونات المتنوعة للمجتمع العراقي، بالأضافة الى مبدأ هيمنة التنظيمات العصرية على التنظيمات التقليدية، لكي تعبر المكونات المتنوعة، لكي تعبر المكونات المختلفة " “القومية، الدينية، السياسية” في المجتمع العراقي عن مصالحها ومطالبها ومطامحها من خلال هذه التنظيما . أي من خلال منتديات، روابط ...الخ“، وليس عن طريق تنظيمات تقليدية “عشائر و طوائف و قوميات مع الاحتفاظ بحق هذه المكونات التقليدية في ان تعبر عن مصالحها بوصفها مكونات ذات منظومات اجتماعية، وليس سياسية .وجوهر النموذج العراقي السياسي والدستوري والديمقراطي المستقبلي يجب ان يتمثل في :
أ. التركيز على الحلول الوسط والاعتدال والتكييف والتوافق ما بين القوى السياسية
والاجتماعية والدينية .
ب . عدم هيمنة طرف واحد على المعادلة السياسية والنظام السياسي.
ج. ضرورة الموازنة بين الأكثرية و الأقلية في ظل وجود أدعاءات كل جهة معينة منانها تشكل الأكثرية و الموازنة تكون عبر عد الديمقراطية على انها ليست حكم الأكثرية فحسب، بل وأحترام الأقلية وحقوقها.
أزمة الاندماج والتكامل:
تغطي هذه الأزمة مشكلات ربط السياسة الشعبية بعمل الحكومة، وهكذا فانها تمثل الحل الفعال و الملائم لكل من ازمتي التغلغل والمشاركة . لذلك فان ازمة الاندماج تنصب على المدى الذي ينتظم فيه النظام السياسي ، وعده روابط متفاعلة فيما بينها، وهذه الروابط قائمة بين مختلف الجماعات والمصالح الساعية وراء مطالب لها لدى النظام . كما ان الأزمة تتعلق بكيفية تنظيم الوحدات الاجتماعية الوطنية “ السياسية والا قتصادية والعرقية والدينية “ واندماجها في كتلة متجانسة ومنسجمة .اي ان الأزمة تظهر عادةً عند حدوث الاختلال وعدم التوازن بين الفعاليات الرامية الى حل أزمتي التغلغل والمشاركة ، وعجزها عن تحقيق اهدافها . ان القوى السياسية العراقية قليلة التفاعل فيما بينها، وفي احسن الأحوال تسعى كل منها لتحقيق مصالحها في الحكومة بصورة منفصلة عن المصالح الأخرى . فضلاً عن ذلك، هناك تأثير واضح على هذه القوى من قبل دول مجاورة وإقليمية ودولية، ومن ثم تحقيق مصالح الاخيرة التي ليست بالضرورة متوافقة مع المصلحة الوطنية العراقية .
لا شك ان موضوع الأندماج كل ما له علاقة وثيقة بتوصيف الحكم الفيدرالي الذي يعني قوة الحكومة الاتحادية لا أضعافها، الأمر الذي يثبت حقيقة ان وجود الحكومة الاتحادية الفيدرالية، يعني السعي لوجود حكومة قوية لا حكومة ضعيفة . ونعني بالقوة هنا قوة تعزيز الاتحاد بين مكونات الدولة، وليس العكس لضمان وحدة الاتحاد الفيدرالي، ومن ثم وحدة الدولة . وهذا ما تؤكده تجارب الدول الاتحادية التي تقوم على اساس وجود حكومة اتحادية تعتمد مبدا المواطنة اولاً واخيراً، وتقر بحقيقة التنوع القومي والديني، وتصون حق الاختلاف بين المكونات الاجتماعية المتنوعة التي تعبر عن مصالحها و مطالبها من خلال مؤسسات المجتمع المدني و التداول السلمي للسلطة على وفق آلية الانتخابات .
و قد تبنى العراق الشكل الفيدرالي للدولة في الدستور الدائم الذي اقر عام ٢٠٠٥ ، اذ نصت المادة الأولى منه على ان جمهورية العراق دولة اتحادية واحدة مستقلة ذات سيادة كاملة، نظام الحكم فيها جمهوري نيابي “برلماني” ديمقراطي، وهذا الدستور ضامن لوحدة العراق، بينما أكدت المادة 117 من الدستور على إقرار أقليم ردستان وسلطاته القا ئمة إقليماًأتحاديا . و بهذا النص يكون جزء من العراق قد حصل على نوع من الاستقلالية على أسس قومية .اما بخصوص تناول موضوع الاختصاصات التي تمارسها السلطات اللتحادية واقاليم المحافظات غير المنتظمة في اقليم نجد ما يأتي : جاءت المادة ١١٤ لتحصين الاختصاصات المشتركة بين السلطات الاتحادية و الاقاليم غير المنتظمة في اقليم بها ، فجاءت شيئا نكرا لأن المحافظات غير المنتظمة في أقليم تعمل على وفق مبد اللامركزية الإدارية ، والاختصاصات التي تمارسها اختصاصات إدارية يتكفل القانون لا الدستور تحديدها ، وهذا خلط بين نظامي الفيدرالية واللامركزية الإدارية وطمس لمعالمها .
الذي يمكن قوله عن المادة ١١٥ هو المساواة بين الاقليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم في ممارسة الاختصاصات التي لم يحصرها الدستور ، وهذا لا يجوز قطعا لأن الاقاليم تعمل على وفق نظام الفيدرالية، بينما تعمل المحافظات غير المنتظمة في اقاليم وفق نظام اللامركزية الإدارية واكبر فرقاً ذاك الذي بين الاثنين هذا من ناحية، ومن ناحية اخرى موازية فانه اعطى الأولوية في الاختصاصات المشتركة لقانون الاقاليم والمحافظات غير المنتظمة في اقاليم ، وبذلك كان النص متنا قضاً وخياليا فهو متناقض لأن الأرجحية في الاختصاصات المشتركة تكون للسلطة الاتحادية .
ان الصيغة الأنسب للعراق هي الفيدرالية القائمة على اساس إ قليمي وجغرافي، وليس على أساس عرقي او طائفي، أن هذا من شانه جعل الحكومات المحلية تهتم بجميع المواطنين في مناطقها بالدرجة نفسها من دون ان تحابي هذه الفئة او تلك . فعندما تتحول الدولة العراقية مجالا لتمثيل الطوائف تتحول الى اتحاد او تركيب فيدرالي بين الطوائف، وهو ما غدا طبيعة للدولة او لازمة بنيوية لها . فمشكلة العراق السياسية الاساسية هي ازمة اخفاق مسيرة اندماج مكوناته الاجتماعية والمتنوعة اندماجاً مسالماً، وإن الأحداث والتطورات المستمرة منذ الاحتلال الاميركي عام ٢٠٠٣ ، دفعت العراق إلى ازمة وطنية حادة تمتاز بسمتين اساسيتين هما تأرجح وازمة العملية السياسية على اساس المحاصصة السياسية والطا ئفية والقومية واستمرار حالة انعدام الأمن والاستقرار وسيادة مناخ العنف والتهديد المستمر بالعودة إلى اطوارالصراع الاهلي.
أذن تكمن خطورة الطائفية و تهديدها للتعايش داخل البلد الواحد في انها تعبىء طاقات الأنسان الروحية بأتجاه واحد، في حين تنظر الى الاتجاه الأخر بوصفها نقيضا و حالة تهديد لها فتنشأ عند ذلك نقائص عقلية وروحية بين الأتجاهين ، واذا ما انبعثت هذه النقائص فانها تؤدي الى العنف والعنف المضاد، كما أن الطائفية تتلبس بلباس النزعة التعصبية ، فتجعل الفرد يقدم ولاءه الكلي او الجزئي للقيم والتصورات الطائفية.
ان الطائفية في العراق ترتبط بكل ما له علاقة بالسلطة ، وهي سياسية شبه محضة كان يراد لها ان تتحول الى طوائفية مجتمعية الاخطر منها، نتيجة الاحتلال الاميركي ، وضعف آليات اندماج مكونات الشعب العراقي في اطار وحدة وطنية شاملة .
وتعتقد القوى السياسية العراقية بان سياسة المحاصصا تمثل أستحقاقا وطنيا للمكونات في تلك الحقبة، لذلك لا مجال للتنازل عنها او التفريط بجزء منها . لذا تم رسم الخريطة السياسية الجديدة على اساس المكونات الاجتماعية، لا على اساس الاتجاهات الفكرية والسياسية ،اي اعتماد نظرية “دولة المكونات” ، بعيدا عن مبد المواطنة الحقة .
أزمة التوزيع:
تتعلق ازمة التوزيع بمهمة النظام السياسي في توزيع الموارد والمنافع المادية وغير المادية في المجتمع ، وقد تعني ليس فقط توزيع عوائد التنمية فقط ، وإنما اعباءها ايضا. وفي هذه الأ زمة يلتقي علم السياسة مع علم الاقتصاد، وتثور مشكلة المعايير التي ينبغي الاعتماد عليها في تحقيق هذا التوزيع . وتتعلق أزمة التوزيع في العراق بتوزيع الثروات والموارد كافة في انحاء العراق، وتوزيع الدخل القومي بما في ذلك التفاوت الواضح بين الطبقات، ومحاولة النظام السياسي إعادة توزيع المدخولات لصالح فئات الشعب العراقي فهناك أكثر من 23%من سكان العراق عام 2014 يعيشون تحت خط الفقر . ان السمة الريعية – النفطية للاقتصاد والنظام العراقي ، جعلت الثروة النفطية على مدى عقود قادمة تمثل العمود الفقري للا قتصاد، ومن ثم فان الطريقة التي سيتم بواسطتها استغلال وتوزيع هذه الثروة ستحدد الى مدى كبير مستقبل النظام السياسي والاجتماعي ، اي مستقبل التحول الديمقراطي في العراق والتنمية السياسية .
يعد الصراع السياسي على النفط أبرز تحد في مستقبل المشهد السياسي العراقي ، اذ يعاني العراق منذ عام ٢٠٠٣ من مشكلة صراع سياسي داخلي بهدف السيطرة على الوزارات السيادية ، خاصة وزارة النفط، فضلا عن صراع اخر بين الحكومة المركزية في بغداد وحكومة كردستا ن على محافظة كركوك ، التي تمتلك ثلث النفط العراقي ، وصراع ثالث مع المحافظات على صلاحيات تنفيذ المشاريع ، فضلا عن مشكلات اخرى تتعلق بنسبة الباحثين عن العمل التي تتجاوز ، بحسب تقارير الامم المتتحدة ٣٠ % من المواطنين ، وغياب وجود بنى تحتية ، وملف الديون الخارجية الذي لم يحسم بعد ، وملف التعويضات، وتفشي الفساد في اغلب قطاعات الدولة . وينبع الصراع على النفط ايضاً من كونه المصدر الاساسي للدخل القومي في العراق، وهو مصدر تمويل موازناته العامة السنوية التي ارتفعت تدريجيا من ٣٠ مليار دولار عام ٢٠٠٥ الى اكثر من ١١٥ مليار . وتأسيساً على ذلك، لن يكون النفط مصدر صراع بين مختلف القوى السياسية العراقية فحسب، بل سيكون مطمعا للكثير من الدول التي ستسعى حتى الى التحكم بالسياسة الداخلية للدولة، على ضوء ان الاحتياط النفطي العراقي ، بحسب الدراسات ، يكفي العراق نحو ١٦٣ عاما . ومن هنا تنبع اهمية العقود التي ابرمتها الحكومة العراقية مع شركات نفط عالمية لتطوير القدرة الانتاجية للنفط ، بحيث تصل الى ١٢ مليون برميل يومياً بحلول عام ٢٠١٧ .
وتربع العراق على قمة هرم الفساد الدولي اذ جاء في المركز 171 ( من مجموع 175) بين اكثر بلدانالعالم فسادا حسب تقرير منظمة الشفافية العالمية الصادر في العام 2013.
وعن هذا الموضوع "مهدي الحافظ" وزير التخطيط الاسبق” هناك مناخ جديد ومغر قد تشكل في العراق نتيجة غياب السلطة الوطنية الفعالة ذات الصلاحيات القوية ، فضلاً عن الانفتاح العام الذي رافق تغير النظام ، وهيمنة الاحتلال الاجنبي وتدفق اموال من الخارج وتعدد مصادر الصلاحيات الاقتصادية. وبالرغم من الجهود الكبيرة للقضاء على الفساد في العراق الا انه لا يزال يمثل اكبر سمات الوا قع العراقي، وان بقاءه بقوة ومن دون استئصال ، سيعرضه الى انتكاسة حقيقة في مجال التنمية ، و يؤد ي الى فشل برامج الاصلاح الاقتصادي خصوصاً مع عجز الحكومة عن ادارة شؤونها الاقتصادية ، ومن ثم سنشهد تبديدا لثروات العراق وعلى وجه التحديد الثروة النفطية ، مما يفتح المجال واسعا لتدخل مؤسسات التمويل الدولية في هذه الشئون و التي تعد من صميم اختصاصه الداخلي .
أن تجربة الدورتين السابقتين كشفت بوضوح أن البرلمان العراقي لم يتحمل مسؤوليته في تحقيق طموحات وأهداف المواطن العراقي وذلك سبب انشغاله إلى حد كبير في الخلافات والصراعات السياسية الداخلية؛ يبدو أن العراقيين قد حكم عليهم أن يكونوا مجرد ارقام في عتاد البحث عن وعد بالخلاص، تلك قصة العراقيين، فهم اعداد من القتلى الذين يتكاثرون يوما بعد آخر، في تناسل العنف العجيب، وهم نسب مئوية في حالات الفقر والتهجير والهجرة، ورغم ذلك لم يكف اغلبهم عن التصفيق، أو اتباع خطوات القائد المبجل، أو الرئيس المفدى، وهو يقودهم نحو كل زاوية يتربص بها الحتف والفناء.
محمد نجيب السعد
باحث أكاديمي عراقي
[email protected]