هناك أثار فنية تضعنا منذ الوهلة الأولى وجه لوجه أمام خطاب فكري بطرح جمالي، بحيث لا مجال هنا لمواصلة العيش بين الظواهر المعتادة والتي تكون في أغلبها وهميّة رغم شدة غرقها في الواقعية، نحو أخرى متخيّلة وأقرب إلى ما نعيشه وما يجتاحنا ولا نراه. نعم ذلك المخفي الذي نحسه ولا ندركه.
صحيح ممكن أن لا يكون هذا الخطاب الجمالي المتخيّل سوى تصورات ذاتية داخلية ولكننا في المقابل بحاجة ماسة إلى هذه التصورات والعوالم المبنية وفق خيال الفنان ورؤاه الخاصة، على الأقل لنهجر تلك الأخرى التي تقدم لنا الحقيقة الواقعية والتي هي في الحقيقة ليست سوى حجابا ينسدل بيننا وبين الطبيعة وبين أجسادنا ووجداننا ذاته. لأنها ببساطة لا تترك لنا المجال لندرك من الأشياء ما لا نراه وما نحن بحاجة لرؤيته. فالفنان لا يجب أن يرى الطبيعة والأجسام من حوله و حتى جسده ودواخله كما هي بل كما تتطلب مصلحته الحيوية وفق مختلف الحالات النفسية التي تقرها الذات، وكذلك كما يدركها هو من منظوره وفلسفته وفكره. وتصبح بمقتضاها قابلة للتحوّل والدخول إلى حقل التشكيل الذي تتصارع من خلاله الكثير من القوى، إنه صراع البقاء صراع ما بقي من الأجسام والأجساد بعد تنقيتها.
ثامر الماجري فنان تشكيلي تونسي شاب إختار أن يخوض حربا جمالية ضد المكتسب والمتداول والمتوارث وسلاحه في ذلك إضافة إلى مكتسباته العلمية والتقنية الأجسام والأجساد المتجردة من حقيقتها الواقعية المسلمة نحو أخرى متخيلة مبدعة. تجرّد بلغ على سطح محامله درجاته القصوى، ربما المتأمل للوهلة الأولى يقرّ بأنه بصدد تشويهها ولكن هو ربما للمتأمل والمتفحص الجيد بصدد تقديمها لنا جميعها في أقصى درجات نقاوتها الأصلية وفي أدق خلجات حياتها الداخلية.
يبني الفنان ثامر الماجري غالبية لوحاته بالإعتماد على مجموعة مختلفة من الخطوط المختلفة السمك والاتجاهات واللون والخامات كما بتقنيات مختلفة كالرسم والكولاج والتصوير...هذه الخطوط الرفيعة حينا والثخينة أحيانا أخرى تكوّن مجموع أشكاله المتمثلة غالبا في أجساد بشرية وحيوانية بمختلف أجزائها (أيادي، أرجل كما الجماجم والأعضاء التناسلية...)، الأحذية، الملابس، الأسلحة، المطرقة، الأشكال الهندسية البسيطة والمركبة، المقص، السكين، الأرقام، الأجهزة الالكترونية، النظارات، الخطوط المتقطعة، وبعض الملصقات التي تحتوي كتابات كما صور شخصيات معينة (هتلر) أحواض الغسيل...الخ.
في عملية البناء تتنوع الفنون والتقنيات وبتنوعها تتنوع المؤهلات الفنية للفنان الذي يعي جيدا العلاقة التي تربط أشكاله بألوانه وخاماته وملصقاته فهو يغيّب اللّون لصالح الشكّل والعكس الشكّل لصالح اللّون كلما إقتضت الحاجة، فلا نرى اللون يطغى على كل المساحة بل يتبادل الأدوار مع الكولاج والرسم من خلال الإبقاء على تقنية الأحبار وقلم الرصاص في كثير من الأحيان.
أما على مستوى التركيب فتحضر أجساده الهجينة المدمجة للجسد الإنساني والحيواني إما بشكل كامل أو بحضور بعض الأجزاء كالأيادي والأرجل وخاصة النصف السفلي والأعضاء التناسلية، كما تحظر الأشكال الهندسية خاصة المكعبات والخطوط المتقطعة المستطيلات...حيث يحظر المنطق الرياضي بقوّة في تقسيم فضاء العمل ثم يتم كسره مباشرة وبدون سابق إنذار لتنتشر عناصره المتنوعة والتي يصعب حصرها على كامل المساحة والتي يبحث لها تدريجيا عن علاقات جمالية وتشكيلية على سطح المحمل. بحيث لا يؤثر إنتشارها وكثافتها على توازن التركيبة وجماليتها. حيث يرى لكل ما ذكرنا سابقا من أجساد وأجسام حياتها الداخلية التي تكتشف له فيرسمها بأسلوب وقواعد رسم جديدة ومن ثمة لنا عبر أشكالها وألوانها الجديدة، حيث يبّلغنا حياتها شيئا فشيئا بتتبعنا مسار اللوحة ويجرّدنا من حقيقتها التي ألفناها، والتي وبحكم كثافاتها كانت تحجب عنا هذا المخفي الذي نكتشفه بتتبع هذه العلاقات التي تحكم مختلف مكونات اللوحة من خربشات وخطوط وملصقات ولطخات وأجساد وأجسام. يسحبنا من خلالها ثامر الماجري إلى مقومات فنه الذي سيمكننا من رؤية شيء مما رآه ويراه، هو يوحي لنا من خلال لوحاته بأشياء لا يمكن له التعبير عنها بأسلوب مختلف أو بكلمات. إنه يسحبنا نحو العمق تدريجيا نحو ما يختبئ خلف الحروب والسياسات والأحزان...خلف القوانين والقواعد سوى كانت الهندسية أو السياسية أو الطبيعية أو الاجتماعية والاقتصادية ...الخ.
عوالم الفنان هنا لا مكان فيها لما هو سائد كأنه عالم ينبعث من عبثية الوجود وتأرجح الأجساد بين إنسانيتها وحيوانيتها، وأعماقها وأحزانها...وكأنه بصدد إقصاء القوانين والأداب العامة والمتعارف عليها نحو الحقيقة المجردة للأشياء والإنسان والطبيعة هو يضعنا وجه لوجه معها، يعرّيها ويصفعنا بها.
إلتفات الفنان إلى خلف ما يدور حوله، إلى ما تحت الظاهر، وفوق المعتاد، حيث يدور كل شيء بالنسبة له حول الجسد وبدون نسب. الجسد الذي توسّط أو تحكّم في جلّ تركيباته، وهذه النظرية ليست ضيقة بل هي تشمل كل ما يحيط بهذا الجسد و ما إخترعه/ ما سجن نفسه فيه وبه، هذا الجسد الفاعل والمفعول به/الجلاد والضحية/الخادم والسيد.
هذا الجسد العاري في مواجهة الموت وفي إحتفائه الدائم به فالموت هنا لدى الماجري وكأنه هو معيار للحرية وبرهانه عليها، ولوحاته وكأنها الجحيم المنشود الذي يطيب فيه الموت، بمعنى يصبح للموت حقيقة غير التي تطاردنا ولنا هنا أن نستدعي ما كتبه الفوضوي الروسي فويناروفسكي الذي لقي مصرعه وهو يرمي قنبلة على الأميرال دوباسوف "سوف أصعد إلى المشنقة دون أن تنقبض عضلة واحدة من عضلات وجهي، ودون أن أتفوه ببنت شفة ...ولن يكون موتي عنفا يمارسه أحدهم بحقي بل المآل الطبيعي لحياتي كلها" فيصبح الموت هنا وكأنه المآل الطبيعي لكل ما إختبره خلال محاولته تغيير العالم.
وهذا يشبه ما يوجد على سطح أعمال الفنان من إحتفاء بعناصر الموت ...هذه العناصر التي تأخذ دلالات رمزية يبث من خلالها الفنان رسائله المشفرة التي تهدف إلى نقد الواقع وفضح المستور. من خلال هذه العناصر الموظفة بدهاء جمالي وفكري بالغين ينبت وسط هذه اللوحات مسرحا للضياع ليقول للعلن لقد إعوّج الخط العمودي، وتقطّعت أوصاله وبسبب إفتقاد نقاط إرتكاز التي يجب أنيجري الاستناد إليها تتحوّل خطوط العرض المنتهجة عادة إلى فضاء للتهريج، إمّحى كل ما عليها من تصوراتنا نحو ما لم يكن يعقل تصوره من قبل. فتناثرت بمقتضاه جثث الضحايا التي لن يجري التعرف إليها لأنها الآن في عالم المثل أين تزاوج الإنساني بالحيواني ونبتت الأيادي والأرجل في أماكن جديدة ليكون لها أدوار جديدة كما بقية الأجسام الأخرى التي تحتضن التكوين وتتفرع عنه وفق موجب القانون البنائي للفنان.
يظهر لنا الفنان مؤثثا بارعا لهذا الخلاء اللامتناهي بما لم نألفه عن عناصر التكوين والبناء، فأثار الفنان ثامر الماجري خلو من كل كيفية حسيّة حيث تظهر قوّة أعماله في غموضها وإظهار ما لم يتخيل المتلقي إلتقائه في مساحة واحدة.
التقاء العناصر المخلتفة كما التقنيات والأساليب جعل من أشكاله وأحجامه وكائناته تبرز لنا في خفّة وثقل/صلابة وليونة/كثافة وشفافية/تمدد وإنكماش...هذا الكم الهائل من اللاتجانس بين الأشكال والتقنيات هو لا تجانس عملاق وهلامي يقبع خلف كل هراء يسكن حياتنا اليومية. ينبئ بعالم غريب لا يخلو من الصور التي تخلق بدورها موضوعات أصبحت موجودة بالتخيل وأخذت ماهيتها الخاصة.
هذه الكمية الكبيرة من التقنيات والشحنات الخطية واللونية والأشكال المخترعة هي بناء عالم جديد أتاح لثامر الماجري ما يبرر توجهه نحو بحث دائم ومستمر عن ممكنات الجسد، مكمن التناقضات وحافظ أسرار الوجود والخلود/الفناء والعدم/القوة والسيطرة/الضعف والهون/الأصالة والهجانة...وهذه الاستعمالات المتعددة لخصائص الجسد وأجزائه في قلب الأثر هي سبيل ليتمكن من النفاذ الحق له، وليبسط لنا ألفته مع الأجسام والأشياء الأخرى التي إستعارها لتؤثث فضائه التصويري الذي أصبح بمثابة الوهم الحقيقي، هذا الوهم الجميل القائم على توليد طبيعة جديدة وإحداثها في جسد أو جسم معين. وهذا التوليد الذي قام به الفنان لطبيعة الأجسام والأجساد في الواقع أفضى إلى أخرى جديدة ناتجة عن معرفة تامة بالجسم الذي يراد تغييره أو تحويله، فتلك المعالجة الخطية واللونية لمختلف عناصر تكوينه والصيغة التشريحية التي عولجت بها تنم عن ممارسة يومية ودراسة فاحصة ودقيقة لهذه الأجسام ومعرفة إمكانيتها وحدودها في محاولة لتغيير وجهتها وإضفاء طبيعة جديدة عليها.
هذا التحوّل في طبائعها ودلائلها رغم اختلاف أصولها جعلها تتحّد في الأثر وفق نسيج جمالي ومنطق فكري جديد، بحيث يقع إستغلال رمزية ومزية كل منها ليس لهدف الوقوف عن سبب إستحضار الفنان لهذه الكمية الكبيرة من الأجسام وإنما درجة قبولها وفق طبيعة جديدة لها من خلال إيجاد علاقات جمالية ورمزية وتشكيلية فيما بينها القضية هنا تتجاوز كونها قضية خلق هي بالأحرى قضية اكتشاف.
ثامر الماجري في اعماله وكأني به بصدد جذب قوى الجحيم ليخلصها من طبائعها التي في الواقع نحو أخر تخوض من خلاله معارك جمالية وحشية تظهر من خلال تعبيراتها كل سلبياتها وطمعها وجشعها من دون أقنعة وتظاهر ومكر. فوقفت كل تلك الجثث والأعضاء المبتورة والكائنات الهجينة حول الفنان لنظم الجمال الغرائبي حتى أننا نكاد نسمع أصواتها وضجيجها وهي تترك أماكنها لتلتف حول الفن، في ترتيب جديد لها كنتيجة لمحاولة الفنان الجريئة لخوض غمار تجربة إعادة صياغة جمالية العالم عن طريق بؤرته(الجسد) وكل ما يترتب عنه من صراعات.
لوحات ثامر الماجري إجابات ولو وقتية لأسئلة جثمت على تفكيره معتبرا إياها أسئلة الحاضر، معتمدا في ذلك على خياله وقدرته على إبداع وتشكيل صور الحدس الذي يلجم من خلاله صور الواقع ويحصرها ولما لا يعدمها كليا لصالح الإندفاع الجمالي.

دلال صماري
ناقدة وتشكيلية تونسية