[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/suodalharthy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]سعود بن علي الحارثي[/author]
” .. لو استعرضنا ما تختزنه الذاكرة وتحتويه الكتب والدراسات عن (المضيرب) وصفا وعرضا لمعالمها وتاريخها ومكانتها السياحية لتطلب الأمر منا عشرات المقالات. ولكن نكتفي بهذا القدر تناسبا مع حجم المقال وغرض هذه السلسلة. فهنا وعندما أقف في مركز سوق (المضيرب) القديم
( أحد أعرق الأسواق ذي الطابع التاريخي الذي كان يقصده التجار قديماً من جميع ولايات المنطقة)، أتأمل في عبقرية أولئك الآباء ”
ـــــــــــــــــــــ
الخامس عشر : (المضيرب) ولاية القابل
لن يكون لي عذر إن لم أضمن بلدة (المضيرب) في هذه السلسلة التي تواصلت على مدى خمسة عشر مقالا، فهي أولا قريتي العزيزة على نفسي والتي ولدت وعشت طفولتي بين ربوعها، ولأنها واحدة من أهم المواقع السياحية في عمان, طفت بين أزقتها ودروبها واستطلعت معالمها وآثارها التاريخية وجلت بين بساتينها وسواقي فلجها المتدفق بمياهه العذبة يروي النخيل والأشجار ويسقي البشر والطير والحيوان، وتعرفت على كل ملمح يعبر عن مكانتها المتميزة ضمن الخارطة السياحية العمانية, وقرأت وتعلمت في مجالسها ومساجدها المنتشرة في فضائها الواسع, وجالست علماءها وأدباءها وشخصياتها الفذة وأخذت عنهم وعرفت فيهم وفي تعاملاتهم وأسلوب حياتهم العلم والأدب والقيم والنبل وليتني استثمرت الوقت والجهد والعمر وخرجت منهم بحصيلة أكبر تفيدني في هذه الحياة, وكثيرا ما شعرت بالحسرة والغصة والألم عندما أرى وأتتبع العديد من المنازل والآثار والحارات والمحلات التجارية القديمة وهي تندثر وتتهدم وتتلاشى فلا يحرك أحد ساكنا, حكومة كانت أو مجتمعا محليا رغم ما تعنيه تلك المعالم من قيمة تاريخية وسياحية وجمالية... ولأن شعراء ورحالة ومؤرخين وشخصيات مهمة تحدثوا عنها وتغنوا بمعالمها وامتدحوا مجالس العلم والأدب فيها واستعرضوا الكثير من شخصياتها وإسهاماتهم في خدمة العلم وإثراء المكتبة, نقتطف أبياتا ونصوصا مختصرة للوقوف عليها إثراء لمادة المقال وتأكيدا على أهمية هذه البلدة العلمية والتاريخية والسياحية :
هذا العقيق على الطريق * فقفا به عند العريق
بلدي المضيرب إنها * مقصود قلبي والطريق
بلدي المضيرب حبها * بين الجوانح كالحريق
قف بالمضيرب وقفة المشتاق * واستجل حسن بدائع الخلاق
وإن تلتفت نحو المضيرب تشهدن * هنالك أعلاما حكت أنجما زهرا
تنبه سميري لهذا الخبر * نسيم المضيرب هبت سحر
وقد أطلق عليها السيد سعود بن عزان اسم (مسقط الصغرى) تشبيها لها بالعاصمة مسقط, لكثرة المتعلمين فيها.
ويصف الكاتب (أندريه ستيفن)أهمية وقيمة تراثها المعماري في كتابه(عمان برها وبحرها تراث وتاريخ) قائلا:( وتحمل كل من ابراء والمضيرب ذات السبعة أبراج وهما المركزان الرئيسيان بالشرقية دلائل ثراء معماري) وتضمان(مساكن فاخرة ومهيبة ومحصنة...).
وتضمن كتاب (المضيرب وابراء, أنموذجين للمدينة العمانية التقليدية) والذي يأتي ترجمة لبحوث ودراسات نشرتها (مجلة الدراسات العمانية باللغة الانجليزية...) الكثير من الصور والعناوين الهامة عن تاريخ المضيرب وعمارتها الفريدة وهندسة ومكونات بنائها المتميز.
ولو استعرضنا ما تختزنه الذاكرة وتحتويه الكتب والدراسات عن (المضيرب) وصفا وعرضا لمعالمها وتاريخها ومكانتها السياحية لتطلب الأمر منا عشرات المقالات. ولكن نكتفي بهذا القدر تناسبا مع حجم المقال وغرض هذه السلسلة. فهنا وعندما أقف في مركز سوق (المضيرب) القديم
( أحد أعرق الأسواق ذي الطابع التاريخي الذي كان يقصده التجار قديماً من جميع ولايات المنطقة)، أتأمل في عبقرية أولئك الآباء الذين أقاموا مدنا وقرى تتناثر في ربوع الوطن بهذا الجمال حسنا ودقة وخبرة لا تخطئها العين في التخطيط، وجودة ومتانة وقوة في البناء، وإبداعا يبهر المتأمل في هندسة المكان تتمثل في توزيع كل جزء من مخططه لغرض من الأغراض التي يحتاجها الساكن والمستفيد لحياته في الماضي، وبما يتناسب ويتفق مع طبيعته أي المكان من حيث استوائه من عدمه ونوعية الأرض رخوة كانت أم صلبة حجرية أو رملية مرتفعة أو منخفضة .. ومدى صلاحية التربة للزراعة والأوفر مياه فيها، والنظر في المواقع الدفاعية المناسبة وتخصيصها كتحصينات تضم القلاع والحصون والأبراج والأسوار الحمائية، وقياس حرارة الطقس وبرودته وحركة الرياح والاستفادة منها في إقامة الأحياء السكنية وتحديد مواقع مداخلها ونوافذها لاستقبال الهواء الصالح والتهوية المناسبة، ودراسة مسارات الفلج لضمان انسيابيته وحمايته من الفيضان أو الاعتداء الخارجي، وتحديد المواقع المناسبة للسوق والسبلة والمسجد ... كل مكون من تلكم المكونات تم اختيار وانتقاء مكان بنائه وتخطيطه بعناية وإتقان ودراسة كل عنصر من العناصر المرتبطة به بدقة... عندما أقف في مركز سوق (المضيرب) الذي تحيط بساحته الواسعة محلاته التجارية المقوسة على شكل صف طويل تتكون من جزئين داخلي وخارجي فيما تتناثر أخرى على مداخل وزوايا وجوانب الأزقة التي تصل السوق بالبيوت التي يرتفع بعضها إلى طوابق ثلاثة والمساجد والقلاع والمجالس والبساتين القريبة منه والتي تشكل في مجملها لوحة جمالية تعكس نمط العمارة الفريد، حيث تطل الشرفات المزدانة بالعقود الجميلة المعلقة على أعمدة الجص الممزوج بالحجارة والموسومة بنقوش وزخارف وكتابات عربية أنيقة تمتد إلى الأسقف بخط عربي رسمته أنامل أتقنت فنيات الخط، فيأتي الشعر القديم في مقدمتها في تعبير واضح يعكس نشاط الحركة العلمية والأدبية والفنية المزدهرة كحال كثير من المدن والقرى العمانية حيث تؤدي المساجد والمجالس والمدارس القديمة إلى جانب أدوارها الاجتماعية والدينية دورا تعليميا تتعدد مستوياته وتشهد نقاشات وحوارات لا تتوقف في مختلف المجالات والحقول فقهية وأدبية ولغوية وسياسية وطلبا متصاعداللعلم وبحثا عن المعلومة وازدحاماً على أبواب شيوخ العلم . عندما أقف في مركز سوق (المضيرب) القديم حيث تمتد ساقية الفلج وهي تشق ساحة السوق في أعماق بعيدة تحتاج معها الفتحات (الفرضة) لعدد من السلالم قبل أن يصل الشخص إلى المياه ما يدل على أن جهودا وإمكانات كبيرة بذلت وعقولا بارعة وظفت في التخطيط وتحديد المسار والشق والبناء والربط لضمان أن يؤدي هذا الشريان المائي دوره في ضخ الحياة إلى كل جزء من أجزاء ومكونات جسد هذه القرية ويقدم خدماته إلى الجميع دون استثناء، ففي كل محطة من محطاته ومرحلة من مراحل جريانه مهمة يؤديها تختلف عن الأخرى بدء من السقاية للغرض الانساني، مرورا بالاستخدام البشري للوضوء والاغتسال وغيره وانتهاء بري البساتين والمزروعات المختلفة، وللفلج أعرافه ونظامه في التملك وبيع الحصص وتوزيعها والاستئجار، وهنا تكمن مهمة المرشد السياحي المدرب والمهيأ والخبير في شرح كل تلك التفاصيل التاريخية والنظم والأعراف وتقديم المعلومات الدقيقة للسائح ... عندما أقف في مركز سوق (المضيرب) القديم أستذكر ذلك النشاط التجاري المتعدد الصور والأوجه، والمنتجات الزراعية والحيوانية والحرفية والصناعات التقليدية المحلية بشتى أنواعها التي يستقبلها السوق وتضخها البساتين والقرى ومناطق البادية ممثلة في الحرفيين والمزارعين ومربي الماشية والصناع إلى السوق، وحركة البيع والشراء المتواصلة وانتقال النشاط من غرض إلى آخر وفق مدد زمنية معروفة، ولكل نشاط تجاري آلياته وأساليبه وقوانينه ونظمه وأعرافه، وكل طرف من الأطراف الفاعلة تدرك مسئولياتها وواجباتها والحقوق التي لها وعليها، مجتمع محلي متكامل يؤدي كل فرد وشريحة ومجموعة دورها كما يجب، لم يكن يعتمد العماني على الآخر في أعماله ومشاريعه وقضاء حاجاته والقيام بأعباء معيشته . عندماأقف في مركزسوق ( المضيرب) القديم يراودني ذات السؤال ولا يفارقني أبدا، هل باستطاعة أبناء اليوم وأحفاد أولئك المؤسسين أن لو اجتمعوا في هذه البقعة وهي أرض جرداء قاحلة أن يؤسسوا قرية من العدم بهذا الجمال وبهذا الإبداع والتخطيط المحكم كما قام بذلك الآباء مع تطور الوسائل والأدوات وحداثة المعدات والأجهزة والآلة العصرية؟ وكنت أتساءل كذلك أثناء متابعتي لعشرات السياح من دول أوروبية وهم يتوزعون في مداخل المكان ومخارجه يلتقطون عشرات الصور ويدونون في مذكراتهم الكثير من الملاحظات ويتناقشون حول طبيعة المكان وثراءه المعماري ويتحسسون بأناملهم النقوش والجدران والأبواب الخشبية ويهزون رؤوسهم إعجابا بالإبداع والجماليات. أين الجهات المختصة من كل ذلك ؟ ولماذا لا تبادر بالتنسيق مع رجال الأعمال والشركات السياحية والمجتمع المحلي لقيام شراكة حقيقية ومبادرات تسهم في استثمار المكان وتعزيز قيمته السياحية وترميم حاراته وبيوته ومعالمه وساحاته وقصوره ومجالسه القديمة وتحويله إلى موقع نموذجي يحكي حياة الماضي كما هي عليه ؟ وإقامة المقاهي الحديثة وتخصيص واحد من تلكم البيوت القديمة وتحويله إلى منتجع سياحي وتنظيم فعاليات ثقافية ...الخ ؟ ألن يؤدي ذلك إلى ازدحام المكان بالسياح وتنشيط السياحة وتحريك هذا القطاع الحيوي الهام؟. هنا يطل تاريخ عريق صنعته أجيال تعاقبت في بنائه مرحلة إثر أخرى، يضيف اللاحقون إلى ما تركه السابقون، مهرة , صناع, علماء, أدباء, بناة أمجاد, معلمون ... تركوا بصماتهم وخلفوا لمن بعدهم إرثا غنيا هو مزيج من عمارة تتناثر في قمم الجبال المحيطة بساحة السوق ما تزال على حالها وفية لمن شيدها شامخة شموخ الجبال التي تحتضنها لم تحن يوما هامتها للزمن ولا لعوامل الطبيعة وظروف الحياة وصراعات البشر، ولم تتخل عن وظيفتها التي وقفت خلف تشييدها، قلاع وحصون ومساجد وبيوت، فنون تتوزع بين أدب وشعر وفقه وطب وفلك ومخطوطات ووثائق في مجالات شتى ... مؤسسات وباحثون ومهتمون ومبادرون ودور نشر يبذلون جهودا مقدرة في تحقيقها ونشرها تباعا لكي تضيف إلى المكتبة العمانية ما يعبر عن ذلك التاريخ المجيد .
وقد نشرت جريدة الخليج الإماراتية تقريرا بعنوان(المضيرب تاريخ عماني يمتد ثلاثة قرون) مما أورده التقرير : (تجمع بين ارجائها(50) موقعاً اثريا لكل منها خصوصية معينة، ويعود عمرها إلى أكثر من ثلاثة قرون، ما جعل منها محط انظار السائحين، سواء من داخل السلطنة أم خارجها أم عابري الطريق بين مسقط وصور، كما ألهمت مبانيها وأبراجها الكثير من الفنانين الذين تصادفهم بين تلالها يرسمون لوحاتهم الزيتية او يلتقطون الصور الفوتوغرافية، ويكاد لا يخلو معرض للصور أو الرسومات من بعضها عن هذه المدينة العريقة التي تعد مركزاً سياحياً في محافظة شمال الشرقية ...) , وأشار التقرير كذلك إلى أن ب" المضيرب" (سور متصل بالجبال المحيطة بها، وقد تهدم جانب من سورها المحكوم بأربع بوابات تسمى (دراويز) باللغة المحلية مفردها (دروازة) وهي: دروازة كشام، ودروازة قرضوب، ودروازة الغيوث، ودروازة كنيشة. ومن أهم المعالم الأثرية في الولاية كما أشار التقريرالإعلامي(الحصن الشمالي عند قمة الجبل بالجهة الشرقية، وبيت"سعيد بن محمد" المبنى من الجص من طابقين ينقسم إلى عدة أروقة، و"بيت البرج" وهو مجلس كبير أعاد بناءه المشايخ أولاد حميد، حيث يلتقي سكان المدينة صباح العيد لتبادل التهاني، و"قلعة الخناجرة" التي تتوسط الحي القديم، وتعد من أضخم القلاع في المنطقة، و"البيت العود" الذي يتوسط الساحة الرئيسية من طابقين ويمر وسطه فلج الولاية، و"سبلة المحارمة" مجلس ضخم عالي السقف يتميز بنقوشه الرائعة.وبيت الجبل وحوش مالك وبيت سعيد بن علي الدغيشي وبيت المسارير وبيت سالم بن عمير المعمري"، وجميعها آثار يوغل تاريخها في القدم محملاً بالقصص والحكايات التي مرت على ساكنيها ..) وعرج التقرير على المساجد فأشار إلى أنها (أقرب إلى المعاهد العلمية، فقد تخرج منها العديد من العلماء والمشاهير والمؤلفين والأدباء، ومن أبرزها " الحساب والعريق والقرحة وأبو الركع ودبيك وعمر ومحيسن).وختم التقرير بالتأكيد على أن ( وزارة التراث القومي والثقافة قامت بضمها إلى برنامج " توثيق الحارات القديمة).

[email protected]