هكذا ، دائما ، هو نص محفوظ الفارسي ، متمرّدٌ ، شامخ ، مصابٌ بالنرجسية ، حد التخمة ، لكنها نرجسيّة فعّالة ، بنّاءه ، أو بالأحرى ، هي نرجسيّة شاعر لا يلتفت للوراء ، ولا يساوم على قصيدته وإبداعه

ما ذبح هذا الوريد إلا صلاتك يا وطن
أتعبتني أبدأ وأتعبتني أقرأ
علمني ويني هالسماء قفرا

يقف شاعرنا هنا ، في نصه : حمام قلوب(1) ، بمواجهة الوطن موقف الند للند ، ويعاتبه عتابا حارا ، حيال سلبيته ، وتجاهله ، لمن أفنى العمر متبتلا في محرابه ، يرتل من أجله الأوراد ، ويلهج بالصلوات ، حتى نحل الجسم ، وأوشك على الهلاك ، وبح الوريد ..
صليت كثيرا من أجلك ، وتهجدت كثيرا ، وتعبت ، حد المعاناة وأنا أعُلّم ( صوتي ) ، الذي أصبح لا يشبهه صوت ، كيف يحسن غناءك ، ويعزف على مزمار مناجاتك ، عزفا شجيا ، نقيا ، شهيا
ومع هذا فسماؤك قفر ، جرداء قاحلة ، لا ماء فيها ، ولا شجر ، ضاعت بوصلتي ( علمني ويني ) في اتساعها اللا متناهي ، حد الضجر ، والعطش ، والضياع .
هذا العتاب الذي يصبه الشاعر حمما ، ينسحب بشكل ضمني على أناس هذا الوطن ، عندما لا يقدرون الإبداع ، والمبدع على السواء ، ولا ينحازون للمختلف ، والمغاير ، بل ينساقون كالقطيع خلف السائد المكرور ، والعادي ، والمعلب ، والجاهز ، وهذا أحد مدلولات ( السماء قفراء ) ، حيث لا سحاب ، ولا ماء .

لا صوت يشبهني إذا مريت
ولا عين تقراني على طوبك
وش فيني في ثوبك
أتعلق خيوط الفجر وأتعطر ذنوبك

وها أنا صوت لا يشبهني صوت في تفردي ومغايرتي ، عصي على القراءة ، والتأويل ، ككتابة مسمارية ، في ظل عدم وجود قارئ مغامر ، يهوى الإيغال بعيدا في أدغال المعاني والدلالات .
ومع ذلك ، رغم كل هذا النكران والجحود ، رغم كل هذا التهميش ، لا أدري لماذا أجدني متعلق بثوبك دائما ، كطفلٍ ، يخشى أن تنفلت يديه ، فيفقد أمَه ، ويضيع في الخضم ، والزحام .

وان صار مرة وغبت عنك ولا مريت
يا كثر ما أقرأ
ويا كثر ما شاغبت فالريح تاريخك
ويا قل ماقومك ويا قل ماطيحك

هيييييييه ، يا وطن ، فأنا لا أجيد لغة الغياب ، والجفاء ، وسيظل هذا الوريد نايا يتعاطاك ، بحرقة ، حبا أبديا ، وإن حصل ونال الغياب من هذا الـ (جلجامش ) المسكون بهاجس الفناء ، والباحث عن نبتة الخلود ، في بحر متلاطم تكثر فيه الحيات ، حتما ، سأظل أقرأك كثيرا ، برغم الريح والعواصف وعدم صفاء الأفق

حبيبتي هالأرض وعيونها عيوني
ما تشبهك صورة إلا ولا .. ( صورة )
من قال لك نورة ؟!
حشا ورب البيت انتي ما هي بنورة
انتي صلاة عيون
وانتي حمام قلوب
ما تشبهك صورة
ما عاش فيك انسان إلا وثوبه عز
من ساسه ال ر اسه

يعود الشاعر ، بعد أن فرّغ شحنة غضبه ، وحمولة الوجع ، التي تثقله ، وتؤرقه ليل نهار ، بعد أن استعاد توازنه السيكولوجي ، يعود ليعزف أغنيته الخالدة ، بتموجاتٍ عذبةٍ ، جياشةٍ ، عبرَ مزمارٍ ، لا يخطئه قلب ، يعود لمزاولةِ صلاتهِ ، وتهجّداتهِ ، وتراتيلهِ ، وأناشيدهِ ، وهو لما ينقطع عنها أساسا ، مستعذبا ألمَه ، وجُروحَه ، ومَواجعَه ، غير عابئ بالصخرةِ التي يرزح ، تحت حملها ظهره ، بدأب سيزفي (2) ، وإرادة صلبة لا تلين ( حبيبتي هالأرض / عيونها عيوني / انتي صلاة عيون / وانتي حمام قلوب ) .
ونجده ، بعد أن أضفى الفرادة لذاته الشاعرة في مقطع سابق (لا صوت يشبهني / لا عين تقراني ) ، يضفيها إلى أرضه / وطنه (ما تشبهك صورة / انتي ما هي بنورة ) ، بل ويستخدم أسلوب الاستفهام الاستنكاري ، لتأكيد اختلاف الوطن وفرادته (من قال لك نورة ؟! ) .

ابسألك من طاح من عينك الخضراء
ومن ما توضأ من ظما الصحراء
ومن مر بترابك ولا صلى عليك

تأتي ( أبسألك ) لتؤدي دورا استدراكيا ، وتنبيهيّا ، كذلك ، لـ تتوالى ، بعد أن فعلت ( أبسألك ) فعْلها ، في نفس المتلقي ، وهيّأته ، وحفزت مداركه لتلقي فعل السؤال ، تتوالى (من ) ، ثلاث مرات ، بصورة متلاحقة ( من طاح / من ما توضأ / من مر ) لتخلق إيقاعا تصاعديا ، صاخبا ، وحركيا ( فعل السقوط – الوضوء – المرور ) ليأخذنا الشاعر إلى قناعته التي وصل إليها ، والتي يوضحها الجدول أدناه (المرفق في الموضوع)

يريد الشاعر أن يقول لنا عبر سؤاله ضمنا أن الوطن ليس فردوسا محضا ، ولا هو جحيما خالصا في المقابل ، ولهذا عندما وجه سؤاله للوطن لم ينعته ( يا وطن ) كما في المستهل ، بل بعد استرسال ينعته بالارض ( حبيبتي هالأرض ) بما توحيه كلمة ( الأرض ) بمعاني الدنيوية ، وربما بالتأطيرية ، فهو يقصد أرضه ، وليس الكرة الأرضية برمتها ( ما تشبهك صورة ) ، الدنيوية بما تحمله من متضادات ومتناقضات فالوطن قد يكون فردوسا ، وقد يكون جحيما ، وقد يكون الاثنين معا ولكن لا نملك إلا أن نحبه ونصلي في محرابه ، وهنا ، ثمة ، تناص يلوح من غور بعيد ، واستدعاء موفق لبيت أبي فراس القائل ( بلادي وإن جارت علي عزيزة وأهلي وإن بخلو علي كرام ) ، وما التضاد إلا تكريسا لهذا المعطى ( الخضراء / الصحراء ) .

يا الفارعة من يوم ما ربي خلق طينه وقام
من ضلعك الأول إمام
خليني بعيونك أنام

من هنا يبقى للوطن مطلق الحب والولاء والفداء ، وتبقى الأرض فارعة في أعماقنا ، منذ الأزل (من يوم ما ربي خلق طينه وقام / من ضلعك الأول إمام ) ، وهي المقدسة دائما وأبدا ، ولذا فهو ، الشاعر ، يتوسلها في صلواته المتواصلة (خليني بعيونك أنام)

وإن ما صحيت ولا أضن بصحى بعد
قولي تعالوا يا بلد
ما فيني إلا هالولد
يشبهني من طولي إلى ظلي سمار
ابنٍ كريم
ونسلٍ من تراب عظيم

يعيدنا هذا السطر اللاحق ( وان ما صحيت ) إلى سطر سابق ( وان صار مره وغبت عنك ولا مريت ) حيث (إن ) الافتراضية في السطرين متبوعة بالفعل ( صحيت ، مريت ) المنفيين بـ ( ما )
بيد أنه في السطر اللاحق الذي نحن بصدده ثمة ترجيح بعدم الصحو الذي يعني الاستيقاظ ، بعد هذه النومة الفردوسية في عيون الارض / الوطن ( ولا أظن بصحى ) ، واذا ما قابلنا بين السطرين السابق واللاحق ( وان غبت عنك ولا مريت / وان ما صحيت ) ، نجد أن الشاعر في كليهما يشير الى الغياب ، ولا أدري ، وربي ، لماذا يرجحه غيابا لا عودة بعده !! ، ويتمنى من الأرض ، بل ويوصيها أن تحشد الناس ( قولي تعالوا يا بلد ) لتحدثهم عنه ، وتذكر لهم مناقبه ( هالولد / يشبهني / ابن كريم ) .
بس ...
وتأتي الاستعانة بـ ( بس ) الاستدراكية ليُتبعها الشاعر بالأسطر السبعة الأولى في المفتتح ، كتقليد متبع في القصيدة الشعبية العمودية ، الإتيان بالمفتتح كقفلة للنص ، وكمَخرَج ، وقد دَرَج محفوظ الفارسي على استخدامه بهذه الصورة في مجموعةٍ نصوص تفعيلة ، سابقة ولاحقة .

الهوامش :
(1) النص المنشور في جريدة الشبيبة تاريخ 17 مارس 2010 م .
(2) نسبة إلى سيزف في الأسطورة اليونانية.

حمود الحجري
[email protected]