حينما يصبح الشعر مجرد عبارات غنائية بسيطة وصورا شعرية مكررة ومستهلكة ومواضيع هدفها الإستجداء المادي المبطّن بالمدح المسرف، يسقط حينها الشعر في هاوية الضعف والركاكة والجمود. فالشعر ليس فردا نستطيع توجيهه كيفما أردنا بل هو ماردٌ عظيم يتحرك ببطء ساحبا خلفه ذاكرته الثقيلة بالأبيات الشعرية الخالدة. وليس من السهل ترويض هذا المارد وخداعه بتصفيق الجمهور أو مجاملة المداهنين.
إن هذا المارد هو من يتلّبس روح الشاعر في لحظات إلهام سحرية لا يعرف الهدوء والسكينة حتى ينفث انفاسه الاهثة في روح جديدة، في قصيدة لا تعبّر عن حالة حزن ومعاناة بل تخلق حالة حزن متجددة ودائمة، يتأثر بها المتلقي حتى يكاد يتقمّص حالتها ويعيد خلق انفجاراتها الشعورية في مخيلته المبدعة. يقول الشاعر الامير بدر بن عبدالمحسن:
ما اتفه الشعر كانه هالحكي اللي نقول
لا تعدى الكلام ولا تعدى الغزل
إذا ما هو الشعر إن لم يكن الكلام الذي نتخاطب ونتحاور به أو الغزل الذي نعبّر به عن اعجابنا؟ بالتأكيد هو أكبر من ذلك، فهو البركان الذي يحرق أرض الشاعر ليزيدها خصبا وحياة، هو المرآة التي حينما تنظر إليها ترَ بدقة نصفك الآخر، النصف الذي تبحث عنه في عيون الناس وفي تصرفاتك الغريبة وفي تفسير أحلامك المخيفة ، إنه بالضبط (أشعة) روحك التي تظهر مقدار جموحك وطموحك وانكساراتك ونكباتك ؛ لذا فإن الشعر أكبر من الحوار وأعمق من الوصف والغزل. يقول الشاعر سعد الحريص :
ابركض في المطر وابتل
وإذا ارعبك المطر ليله
أنا ارعبني الجفاف سنين

إن الشاعر الحقيقي لا يكتفي بإعادة ترتيب وتركيب صوا شعرية متداولة أو مستخدمة من قبل بل يحاول في كل قصيدة خلق صورا شعرية جديدة وهذا يحتاج إلى مكابدة ومجاهدة نفسية وصفاء ذهني ووعي يجنح إلى الفلسفة ويطمح إلى الخلود ويجمح إلى جوهرالإنسان. إن الشاعر الحقيقي هو الذي لا يستسهل الكتابة ولا يجعلها جسر عبور لقافلة أحلامه المادية الدنيوية الدنيئة، فلابد أن يكون جريئا وليس متهورا، خياليا وليس ساذجا، نرجسيا وليس متكبرا، ولابد أن يستغل دفقاته الشعورية في إختصار حالته النفسية والفكرية وذلك في جمل بسيطة مكثّفة ومركّزة، يقول الشاعر علي السبعان :
عادي إمــــــاراتي/ سعــــــــــودي أو بدون
أهم شي تعرف وش إنته بدونه
يعني الوطن وش هو: سعف نخل .. وحصون؟
في ذمتي وش كثر من يجهلونه
لنكتب بعمق وغموض ولكن بوعيٍ تحرسه الموهبة وتنمّيه الممارسة والقراءة، لنبتعد عن السطحية القاتلة والسرد الممل والوصف الخارجي، ولنقترب من جوهر الشعر حيث الخيال يلوّن فراشات صورنا الشعرية الجميلة وحيث الرمز يتنفس من أفكارنا وحيث العاطفة تنبض في أوردة مفرداتنا الحية، النظرة، المتجددة.
وختاما تقبلوا مني هذه الهدية وهي للشاعر أحمد الشحي:
لأن الفقر أكبر من حدود المرجله والاسم
ما يملك (يسوع) الخبز وأمّه مريم العذرا

لأنك يا رغيف أصبحت رمزٍ من رموز الحلم
نامت لاجلك عيونٍ تشوف... وتكتب... وتقرا

إذا ما جاد لي حظي وأنا كلي شباب وعزم
وش نفع المطر لا صارت أوراق العمر صفرا؟!

حمد الخروصي
twitter: @hamed_alkharusi