إن للعربية خصائص مميزة تنفرد في بعضها من بين اللغات كالتنوين والإدغام والقلب والإبدال والنصب على الاختصاص والتقديم والتأخير والتعبير عن الجمع بالمفرد والمفرد بالجمع ... إلى ما هنالك من الخصائص والصفات المماثلة ... وربما ذهب الظن بمن كان غريباً عن العربية أو عن مؤالفتها إلى أن هذه الظواهر تخالف الأصول أو تفتقر إلى التعليل والمنطق ، ولكنَّ في مثل هذا الظن جهلاً بدقائق العربية وقلة الإلمام بأسرارها وأساليبها ؛ لأن فصحاء العربية القدماء لم يصدروا عند إتباع تلك الطرائق في التعبير عن جهل أو سهو أو عبث وإلغاز ، بل عمدوا إليها في الضرورات الشعرية أحياناً ، وأظهروا بها براعتهم في التفنن والابتكار في أحيان أخرى ، صادرين في مسلكهم ذلك عن حسن تذوق وسلامة سليقة أو ملكة ، لا عن تكلّف متعمّد. من أمثلة ذلك مخاطبتهم للجمع بصيغة الإفراد ، كقولهم للجماعة: ضَيْف و عَدُوّ ، ومن ذلك قول الله تعالى في سورة الحجر الآية الثامنة والستون : "هَؤُلاءِ ضَيْفي" ، أو كقوله تعالى في سورة الشعراء الآية السابعة والسبعون: " فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ العَالَمِينَ " . ومن مثل ذلك أيضاً قول أبي الطيب المتنبي:

عَلِـيـلُ الـجِسْـمِ مُمْتَنِعُ القِيَـامِ
شَـدِيدُ الـسُّكْرِ مِنْ غَيْـرِ المُـدَامِ
قَـلِيـل عَـائـدي سَقِـمٌ فُؤادي
كَـثيرٌ حَاسِـدي صَعْـبٌ مَرَامـي

والأصل أن يقول: قليل عواديّ ، كثير حسادي أو عوادي قليلون وحسادي كثيرون. ولعلّه أخذ بقوله تعالى:"ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً " في سورة غافر الآية السابعة والستون ، عوضاً من قوله: يخرجكم أطفالاً.
وعلى النقيض من ذلك الإتيان بلفظ الجمع والمراد به المفرد ، كقولهم للرجل العظيم : انظروا في أمري. ومن ذلك كلمة (المرسلون) في قوله تعالى في سورة النمل الآية الخامسة والثلاثون:" بِمَ يَرْجِعُ المُرْسَلُونَ " وهو واحد ، والدليل على أنه واحد قوله تعالى في الآية السابعة والثلاثين من السورة نفسها : " ارْجِعْ إليهم " ..
ومن خصائص العربية أيضاً ، اطلاق صفة الواحد على الجمع ، نحو قوله تعالى في سورة المائدة الآية السادسة: " وإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاْطَّهَّرُوا " ، وقوله تعالى في سورة التحريم الآية الرابعة: " والمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ". ومنه قول السموأل بن عادياء:

تُعَـيِّرُنا أَنَّـا قَلِيـلٌ عَدِيدُنَــا
فَقُلْـتُ لَهـا إِنَّ الكِـرامَ قَلِيـلُ
ومَا قَلَّ مَنْ كَانَتْ بَقَايـاهُ مِثْلَنَـا
شَبَـابٌ تَسَامَـى للعُلى وكُهُولُ
وَمَا ضَرَّنَـا أَنَّـا قَلِيـلٌ وجارُنَا
عَزِيـزٌ وجَـارُ الأَكْثَرِيـن ذَلِيلُ

فالألفاظ المفردة هنا ( ضيف ، عدو ، طفل ) ، والصفات المفردة ( جنب ، ظهير ، قليل ) مما يختصّ به المفرد ، ولكنها صلحت في الأساليب العربية في للجمع ، ثم استوت ـ على ذلك ـ محلّ قبول وسلامة في الأساليب الفصيحة ، لتمثل لوناً أو سراً من أسرار العربية التي عرفها القدماء.
وعلى النقيض من ذلك ذكروا صفة الجمع للواحد فقالوا: ثوبٌ أهْدام ، وهو الثوب الخَلَق (بفتح الخاء واللام) ، وجمعه أخلاق ، وعليه قول الشاعر:
جَـاءَ الشِّتـاءُ وقَمِيصـي أَخْـلاقْ شَـرَاذِمُ يَضحَـكُ مِنْـهُ التُّـوَّاقْ
وكان الوجه أن يقول: وقميصي خَلِق. ومثل ذلك قوله تعالى في سورة الإنسان الآية الثانية: "إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصيراً "، فكلمة أمشاج صفة جمع تعني أخلاطاً ، والأصل المقيس في العربية أن تكون صفة مفردة لنطفة ، أي مَشَج أو مَشِيج. وعلى هذا الأسلوب يقولون: أرض سَبْسَب للمفَازَة الواسعة ، كما يقولون لها: أرض سَبَاسِب مستخدمين صفة الإفراد والجمع على حد سواء. وقد تستعمل الكلمة المفردة للواحد والجمع والمؤنث مثل: هو صديق وهي صديق وهم صديق ، وفق ما رأيت مما عرفته العربية في أساليبها وخصائصها.

د.أحمد بن عبدالرحمن بالخير
استاذ الدراسات اللغوية بكلية العلوم التطبيقية بصلالة
[email protected]