[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedbinsaidalftisy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]محمد بن سعيد الفطيسي[/author]
”ان العديد من الشباب العربي اليوم يعيش ما يمكن ان نطلق عليه بالإحساس بالغربة الوطنية وفقدان الدفء الوطني, يعيش فترة صعبة من تراجع منسوب الهوية الوطنية, وبالتالي تراجع قيم الولاء والانتماء للوطن, لدرجة أننا نستطيع ان نؤكد بأن هناك العديد من الشباب العربي سينقلب ان طال به الأمد دون معالجة لأوضاعه ومتطلباته الاجتماعية والثقافية والاقتصادية على أوطانه نفسها,”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بحسب الفهم المتداول يعلم الجميع ان الغربة الوطنية هي العيش خارج إطار الدفء الوطني, ولكن هل يمكن ان يعيش شبابنا غربة ثقافية وسياسية داخل أوطانهم, وهل لتلك الغربة الداخلية انعكاسات سلبية لا تقل مأساوية عن الغربة الخارجية على تفكير وهوية وثقافة الشباب؟ وهل لسياسات الأنظمة وتوجهاتها السياسية والاقتصادية الداخلية والخارجية تأثير سلبي على الهوية الوطنية وثقافة الولاء والانتماء للوطن؟
والحقيقة ان الأنظمة السياسية تمارس دورا جوهريا في تحديد نمط وشكل ومضمون الهوية الوطنية للشباب العربي, خاصة فيما يتعلق بالمواطنة بوصفها ثابتا جوهريا تتشكل على أساسه الدولة, ويستقر من خلاله الوطن, والهوية هنا: تتضمن الولاء والانتماء, والذي يعني ارتباط الفرد بالأرض والشعور بكونها جزءا من مجموعة أوسع ـ الأسرة والقبيلة والجنسية والقومية ـ ينتمي إليها ويحس بالاطمئنان والفخر والرضا المتبادل بينه وبينها, والولاء الذي يرتبط بالانتماء هو صفة أصيلة للهوية الوطنية, حيث ان الولاء يرتبط بالانتماء وهو علاقة بين وطن وفرد يعلن ولاءه للنظام السياسي - الذي يفترض ان يمثل ذلك الوطن أفضل تمثيل في الداخل والخارج.
وبالرجوع إلى حال شبابنا العربي اليوم ـ ولا نعمم بالطبع ـ فإنه لا يختلف اثنان على الحالة المزرية والمحزنة التي يعيشها العديد منهم داخل أوطانهم, حالة من الفوضى الأخلاقية والضياع الفكري والتخبط الثقافي في التفكير والتصرفات والسلوكيات, مع مزيج من الغضب والحقد والكراهية والعداء والتمرد على الأنظمة السياسية التي يرون من وجهة نظرهم أنها لم تلب متطلباتهم وحاجياتهم وحقوقهم الإنسانية والوطنية, مما انعكس سلبا وبشكل خطير جدا على هويتهم الوطنية وولائهم للوطن الذي يفترض ان يدير ثرواته وخيراته النظام السياسي الحاكم بشكل عادل يضمن توزيع الحقوق بالعدل والمساواة بينهم.
وليس اصدق دليل على ذلك من الواقع المأساوي الذي يعيشه الوطن العربي, ذلك الواقع الذي طالما عمل على ترسيخ عدم الثقة بين الأنظمة السياسية والشباب العربي, فسادت بينهم مفاهيم توصف المستقبل العربي بالرجعية والتخبط وعدم الوضوح, وتوصف تلك الأنظمة بالفساد والعمالة والارتزاق, وهو ما شوه الهوية الوطنية في أنظار تلك الشريحة, التي ترى في أوطانها صورة تلك الأنظمة لا أكثر ولا اقل, وهو ما خلق لدى العديد منهم نوعا من الفصام الوطني, الذي دفعهم في نهاية المطاف الى الإحساس بالغربة المكانية وفقدان الدفء الوطني والشعور بالانتماء والولاء للوطن.
وللأسف الشديد، فقد انعكس الواقع السياسي للدول العربية سلبا وبشكل مباشر على التكوين النفسي والثقافي للشباب العربي, حيث تشير العديد من الإحصائيات والدراسات الموثقة, ان نسبة تتجاوز الـ 70% من الشباب العربي محبط من إمكانية تغيير الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في ظل الأنظمة السياسية الراهنة, وان أكثر من 25% تعيش حالة من الانفصام عن الواقع العربي, وتعيش حالة من عدم الاكتراث واللا مبالاة بذلك الواقع وقضاياه, وباقي النسبة تتذبذب بين الأمل واليأس والخوف والحقد والتمني, وهو ما يدل على أعلى درجات الاغتراب السياسي والثقافي للشباب العربي. في وطنه.
ويكفي هنا ان نشير إلى ما حدث في بعض الدول العربية التي أهملت الاهتمام بهويتها الوطنية على حساب متطلبات الانفتاح وسوق العمل وترسيخ مكانة أنظمتها السياسية, فقد أصبح شبابها اليوم يعيش حالة من الضياع والتخبط وفقدان الهوية الوطنية, وتراجعت لديهم مشاعر الولاء والانتماء للوطن والأرض أمام طوفان التحولات السياسية والمتطلبات الاقتصادية والمعيشية اليومية وتجاذبات التيارات الثقافية والانفتاح الكبير الذي تشهده دول المنطقة على العالم الخارجي في ظل العولمة العابرة للقارات.
هذا بخلاف تراجع دور اللغة العربية ومستويات التعليم والمناهج الدراسية التي تلعب دورا كبيرا في تشكيل الهوية الوطنية من خلال بناء وإعداد الإنسان وتكوين شخصيته المتكاملة بأبعادها المختلفة الروحية والسلوكية والجسمية والاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية, وشخصية المجتمع والأمة وفق ثقافة وتقاليد وقيم وثوابت الأمة خاصة في هذه المرحلة ـ ونقصد ـ مرحلة العولمة والتحولات الكبيرة, مرحلة الانفتاح الواسع على مجتمعات العالم وبالأخص الغربية, كما يشير إلى ذلك الأستاذ محمد الباهلي في كتابه التعليم والهوية الوطنية.
إذا فنحن اليوم نعايش نتيجة كل ما سبق ذكره تحول غير ايجابي في تركيبة النفسية للشباب العربي, تحول في اتجاه خطير للغاية, يمكن ان يترتب عليه لو أهمل أكثر من ذلك إلى القضاء على هوية الأمة ككل, فالشباب هم روح الأمة وقلبها النابض ورئتها التي تتنفس بها الهواء النقي, فإذا فسد الشباب وتردى, تراجعت الأمة ككل بفساد الهواء الذي تتنفسه تلك الرئة, وبالتالي كميته النقية إلى الشرايين ومنه إلى الدماغ , والنتيجة معروفة بالطبع , ـ واقصد ـ الموت البطيء لذلك الجسد.
نعم .... ان العديد من الشباب العربي اليوم يعيش ما يمكن ان نطلق عليه بالإحساس بالغربة الوطنية وفقدان الدفء الوطني, يعيش فترة صعبة من تراجع منسوب الهوية الوطنية, وبالتالي تراجع قيم الولاء والانتماء للوطن, لدرجة أننا نستطيع ان نؤكد ان هناك العديد من الشباب العربي سينقلب ان طال به الأمد دون معالجة لأوضاعه ومتطلباته الاجتماعية والثقافية والاقتصادية على أوطانه نفسها, وسيندفع وراء تيارات وثقافات هجينة مستوردة لا تؤمن بالثوابت من القيم والمعتقدات والأخلاق.
ولقد انتهج الشباب العربي عددا من المناهج والطرق المؤلمة للخروج من تلك الحالة من الاغتراب الوطني, فمثلت الهجرة أولى الطرق لذلك, مما افقد أوطاننا العربية العديد من العقول والأدمغة التي استفاد منها الغرب وكان أولى بأوطانها ان تستفيد منها ومن علمها, ومن ثم تحول الشباب إلى المواجهة المباشرة, والمواجهة هنا أتت متخذة شكلين, أولها : الانضمام إلى التنظيمات السياسية والاجتماعية والثقافية الشبابية الداخلية , وغيرها من التنظيمات التي يراد من ورائها تخريب الممتلكات وثروات الوطن, كردة فعل عكسية على نظرتها للوطن من خلال النظام السياسي الذي لا تشاهد فيه غير الظلم والقسوة , وهو ما دفعها إلى التمرد في نهاية المطاف على تلك الأنظمة.
أما الشكل الثاني فقد اتخذ حالة من العنف السياسي والعسكري المنظم, مدعوما من الخارج بالمال والأفكار المستوردة والخارجة عن تعاليم الدين الإسلامي, وليس اصدق على ذلك من التفجيرات والمواجهات المسلحة مع الأنظمة في العديد من الدول العربية.
وباختصار، فإن حالة الإحباط التي يعيشها الشباب العربي على الصعيد السياسي والاقتصادي نشطت حالة العنف لديهم, فتبلورت في العقل الجمعي بصفة عامة وفي عقل الشباب العربي على وجه الخصوص وباعتبارها أفضل السبل لنيل الحقوق وأفضل الطرق لحل الكثير من القضايا وتلبية العديد من المتطلبات المعيشية.
ونحن هنا نطلق جرس إنذار من خطر يحيق بدولنا العربية من الداخل, ونعني بذلك الخطر استمرار تجاهل الأنظمة السياسية لحالة الاختناق والاغتراب لدى شريحة الشباب العربي وتراجع دور الهوية الوطنية لدى الكثير منهم نتيجة ما تطرقنا لذكره من أسباب سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية, ونتيجة ضعف المؤسسات الاجتماعية والتعليمية والثقافية في عملية التنشئة, كما لا يمكننا تجاهل ضعف المنظومة الدينية بين الشباب العربي باعتبارها احد العوامل الأساسية التي ساهمت في خلق الواقع الاجتماعي والثقافي الذي يعيشه الشباب العربي اليوم في مختلف بلداننا العربية بلا استثناء.
اذا لا عزاء لنا اليوم سوى بالاهتمام بكل ما من شأنه ترسيخ الهوية الوطنية وقيم الولاء والانتماء بين الشباب العربي للأمة الإسلامية اولا, ولأوطانهم ثانيا, ولن يكون ذلك بالطبع الا انطلاقا من تربية دينية سليمة وصالحة, وأخرى وطنية تستند إلى فكر عربي يرتبط بثوابت وقيم الأصالة والتراث والقدوة الحسنة, ومناهج تعليمية يراعى في مضمونها حقوق الله والمجتمع والوطن, كما ومما لا مناص عنه ضرورة ان تنتبه أنظمتنا العربية إلى حقوق الشباب ومتطلباتهم السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية.
وبالطبع وكما وجهنا خطابنا للأنظمة السياسية الحاكمة بضرورة ان تتقي الله في أماناتها تجاه الوطن والمواطن, فإن الله سيسأل كل حاكم عن كل فرد من أفراد شعبه يوم القيامة, فماذا انتم قائلون يا حكام المسلمين يومئذ ؟!! فإننا نوجه النداء الآخر للشباب أنفسهم , تلك الشريحة التي تعتمد عليها الأمة الإسلامية ككل, وأوطانها على وجه الخصوص, فيا أيها الشباب المسلم: اتقوا الله في أوطانكم, فإنها أمانة الله في أعناقكم, وسيسألكم الله عز وجل عنها يوم القيامة, فهل ستجيبونه بأنكم قد دمرتم ثرواتها وخيراتها وممتلكاتها لأنكم حانقون على أنظمتها وحكامها ؟!!

محمد بن سعيد الفطيسي باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية رئيس تحرير مجلة السياسي – المعهد العربي للبحوث والدراسات الاستراتيجية [email protected] MSHD999