تنام بلادنا على تاريخ يكتنز التراث والثقافة والحضارة يمثل مبعث فخر واعتزاز لكل عماني، فالتراث هو ضمير الأمة الحي الذي يعيش لآلاف السنين بعد رحيل الجيل الذي ترك هذا التراث. وتراثنا نحن العمانيين حافل بكل ما نفخر به من إنجازات وابتكارات، حتى تلك الأشياء العتيقة التي نمر عليها مر الكرام إنما هي جزء من شهادة التاريخ عن جيل من أجيال العمانيين الذين عاشوا قبلنا على هذه الأرض الطيبة.
ويتكئ تراثنا العريق على تاريخ ضارب في القدم تدل عليه اليوم الشواهد التاريخية، فلا يكاد يوجد حجر وطأته أرجل العمانيين في اتجاهات الأرض الأربع إلا ويؤرخ منجزات وتراثًا تبين بوضوح أن الإنسان العماني لم يكن منغلقًا على نفسه، بل كان منفتحًا وقويًّا ومغامرًا، فأثر في الحضارات المجاورة وتأثر بها.
ويتوافر التاريخ العماني على مفردات ورموز وبطولات، حيث يذكر للبحرية العمانية صولات وجولات إلا أنها لم تكن في سبيل الحرب والفتوحات، بل كانت لربط جسور المودة والتقارب مع كافة الشعوب شرقًا وغربًا شمالًا وجنوبًا، فقد جابت السفن العمانية البحار من الصين إلى الولايات المتحدة مرورًا بمعظم الموانئ المعروفة في مختلف القارات ومنذ القرن الثامن الميلادي عرف العمانيون خطوط الملاحة البحرية وساعدوا في الكشوفات الجغرافية الشهيرة في العصور الوسطى.
هذا التاريخ والتراث البحري العريق الذي أشع بنوره على العالم عاد يتجدد في عصرنا الحاضر بفضل وعي وحصافة حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ وإيمانه بأهمية إقامة علاقات قوية ومتينة مع مختلف بلدان وشعوب العالم المعاصر، ومن ثم أعاد للرحلات البحرية العمانية الجماعية والفردية، ولأدوار العمانيين بهاءها وألقها التاريخي؛ فاليوم نقف عند محطة جديدة يعاد عبرها تسليط الضوء على هذا التاريخ والحضارة العمانيين، وذلك من خلال المؤتمر الدولي الخامس "علاقات عُمان بدول القرن الإفريقي" والمعرض المصاحب له، والذي افتتح أعماله أمس فخامة الرئيس عثمان غزالي رئيس جمهورية القمر المتحدة بالعاصمة القمرية موروني والذي يأتي تنظيمه بناء على التوجيهات السامية لجلالة السلطان المعظم ـ أيده الله ـ بمشاركة عدد من المسؤولين من الجانبين العماني والقمري وعدد من الباحثين والمهتمين والمختصين في مجال الثقافة والإعلام، ونخبة من الأساتذة والباحثين يمثلون11 دولة هي السلطنة وجمهورية القمر وأميركا وبلجكيا وروسيا وبريطانيا والجزائر وكينيا ومصر وتنزانيا واليمن.
السرد التاريخي لأوراق العمل خلال جلسات المؤتمر جاء ليقدم قراءة غزيرة بالمعاني والدلالات والرمزية للدور العماني في القرن الإفريقي وفي جمهورية جزر القمر المتحدة، ولتبرز السمات الشخصية للعماني في علاقاته مع الآخرين بما يحمله من تسامح وتآلف ومودة وتآخٍ، حيث سجل توالي الحكم العماني في جزر القمر دورته الطبيعية المفعمة بوجوه العدالة والتسامح والسعي إلى استعمال الثروة الخاصة في وجوه الخير والبر، ما أكسب الأسر العمانية الحاكمة سمعة طيبة واحترامًا عظيمًا لدى الناس، بالإضافة إلى الدور الكبير في تحصين المدن في وجه الاستعمار والذود عن سكانها، وتوفير مظاهر الأمن والسلم لهم.
لقد كانت جمهورية جزر القمر المتحدة موطئًا لحركة عبور واتصال وتواصل وامتداد من عُمان إلى زنجبار مما جعلها شاهدًا على التراث الزاهر والإنجاز الحضاري العماني الممتد عبر المراحل التاريخية المختلفة، حيث تعزز الحضور العماني في إفريقيا والتواصل مع سكانها مع ظهور الإسلام، ما أعطى لهذه العلاقات مزيدًا من الزخم والمكانة في ترسيخ جذور التواصل ومشاعر الألفة والمحبة والتسامح، فتوسعت دائرة اهتمام العمانيين بإخوانهم في الساحل الشرقي الإفريقي، عاكسة الصورة الحقيقية لطبيعة الشخصية العمانية من حيث المواقف النبيلة والمبادئ السامية الرفيعة لحسن التعامل وثوابت المواقف ومد يد المحبة والسلام ونشر الطمأنينة والأمان. ويكفي فخرًا ودلالة ما قاله فخامة الرئيس عثمان غزالي في كلمته في افتتاح المؤتمر، لتعطي الحقيقة كينونتها في متون التاريخ خاصة وأنها تأتي من شخصية إفريقية في قامة فخامته، مؤكدًا "نحن ورثة لثقافة شعبين يملكان تاريخًا غنيًّا مشتركًا منحوتًا في أحجار القصور والقلاع وعلى أسوار المدن التي ترجع إلى القرون الوسطى، وننتمي إلى موقعين جغرافيين متباعدين لكنهما على مفترق طرق الحضارات والتبادل التجاري بين إفريقيا والشرق والغرب؛ لذا لدينا الحق نحن كقمريين وعمانيين في استكشاف ودراسة المنجز الثقافي والحضاري في الماضي وصولًا إلى الحاضر".