هناك الكثير من المصطلحات التي بات يسهل ترديدها ببغائيًّا وتتسلل إلى لغتنا الإعلامية وتسهم بقصد ومن دونه في تزييف الوعي والمس بالثوابت وتأتي على حساب قضايانا وحقوقنا وحتى هويتنا ووجودنا، ومنها "شرعنة" المستعمرات الصهيونية، ومن ذا الذي يشرعنها بقوانينه ويقرها في "كنيست" عائد له؟! من هو سوى كيان استعماري طارئ ومفتقد أصلًا لكل ما يمت للشرعية بصلة؟!

‏[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/abdellatifmhna.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]عبداللطيف مهنا[/author]

في خطوة تأتي تمهيدًا لضمها مع سواها للمحتل من فلسطين العام 1948، صوَّت "الكنيست" الصهيوني في قراءة أولى لصالح قانون يقضي بـ"شرعنة المستوطنات" الصهيونية المسماة بـ"العشوائية" في الضفة الغربية..."الشرعنة" و"المستوطنات" هنا توصيف لوسائل إعلام عربية وفلسطينية، وكذا "العشوائية"، وهذه تعني البؤر التهويدية الهامشية التي أنشأها المستعمرون بأنفسهم، وليست وليدةً للقرارات التهويدية الرسمية لحكومة الاحتلال وباعتبار أن الأخيرة "شرعية"! والقانون يدعى "قانون التسوية"، ويطلق عليه البعض "تبييض المستوطنات"، ويشمل ما يربو على الخمسين مستعمرةً، إلى جانب جواز وضع اليد على مطلق أرض تعد "أملاكًا فلسطينية خاصة"، أو ما يعني تلقائيًّا توسعة المستعمرات القائمة ما شاءت توسعًا بابتلاع وضم ما يحلو لها مما يجاورها من أراضٍ، وإعطاء المستعمرين الحق في انتقاء أي بقعة أخرى في أي مكان يختارونه من أرض لم تهوَّد بعد وإقامة مستعمرة جديدة لهم فيها، وبمجرد شروع واحد منهم في إقامة ولو مجرَّد كوخ مؤقت عليها.
أولًا، ومن حيث المبدأ، إن مثل هذه الخطوة هي ليست بغير المتوقعة، بل المنتظرة، في ظل واقعين يسهلانها على الصهاينة ويشجعانهم على اتخاذها هما، عربي مفجع وأوسلوي مشين، أضف إليهما دولي مقيت...ثم إنها من لزوميات سياق شامل وجلي لكل من يدرك ألف باء طبيعة هكذا عدو استعماري استيطاني إجلائي إحلالي لا قيامة له إلا بنفي الآخر الذي هو صاحب الأرض والحلول مكانه، ومن ثم يعي جوهر هذه السياسات التهويدية المتبعة والمستندة إلى ذات الاستراتيجية الصهيونية الأساس، والتي لم تتبدل أو تتغيَّر منذ أن بدأ الصراع العربي الصهيوني في فلسطين وإلى أن يحسم، أي المنطلقة من عتيق الزعم الصهيوني: "أرض بلا شعب لشعب بلا وطن"!
وثانيا، هي ليست مستوطنات، وإنما مستعمرات، ومن فيها هم ليسوا مستوطنين، وإنما مستعمرون، كما هم ليسوا جيرانًا كما يتطوع فينعتهم رئيس سلطة الحكم الذاتي الإداري المحدود المنتهية ولايته تحت الاحتلال، مبررًا إرساله فرق إطفاء سلطته لنجدتهم عندما شبت الحرائق في مستعمراتهم بنخوته الإنسانية وحق جيرتهم عليه، وإنما هم أعداء وقتلة ومغتصبون استعماريون، من أبجديات حق الشعب الذين اغتصبوا أرضه وشردوا غالبيته أن يقاومهم بكل ما ملكت يديه من وسائل المقاومة وعلى رأسها الكفاح المسلح حتى طردهم منها وتحريرها منهم.
وثالثًا، هناك الكثير من المصطلحات التي بات يسهل ترديدها ببغائيًّا وتتسلل إلى لغتنا الإعلامية وتسهم بقصد ومن دونه في تزييف الوعي والمس بالثوابت وتأتي على حساب قضايانا وحقوقنا وحتى هويتنا ووجودنا، ومنها "شرعنة" المستعمرات الصهيونية، ومن ذا الذي يشرعنها بقوانينه ويقرها في "كنيست" عائد له؟! من هو سوى كيان استعماري طارئ ومفتقد أصلًا لكل ما يمت للشرعية بصلة؟! ومن ذا الذي قال إن "هرتسيليا" أو "إيلات" مرورًا "بتل أبيب" شرعيات، أو يختلفن من حيث لا شرعية وجودهن عن "معاليه أدوميم" أو "أريئيل" أو "كريات أربع" أو ما ألحق بهن من "عشوائيات"؟!
ورابعًا، إنه، ونظرًا لانعدام التكافؤ في القوة بين المعتدي والمعتدى عليه واختلال موازينها وبما لا يقاس لصالح الأول، فليس المطلوب من الفلسطينيين ولا هو بمقدورهم تحرير فلسطين من غزاتها، لأن هذا هو من مهمة أمة بأسرها. أمة كانت فلسطين وستظل قضيتها، ليست المركزية فحسب، بل والوجودية أيضًا، وثبت لها على امتداد الصراع وسبر تداعياته، وسيثبت لها مستقبلًا أكثر، أنها المستهدفة وستظل ما لم تنجز هذه المهمة، وما الفلسطينيون إلا رأس حربتها والذين مهمتهم هي إدامة الاشتباك مع عدوها حتى يأتي يوم أن يتسنى لها إنجاز ما عليها.
قد يبدو مثل هذا الكلام للبعض، وهذه الأمة في الحالة الأحلك التي تكابدها والراهن الأسوأ الذي تمر فيه، شعرًا أو ضربًا من الهذيان، وقد يتهموننا بالعودة لما هم لا نحن يطلقون عليه زمن اللغة الخشبية... حسنًا، وبعيدًا عن إيماننا، رغم كل اسوداد راهن المرحلة التي نمر بها، بهذه الأمة، أضف إليه يقيننا الراسخ بدنو يوم قيامتها واستحقاق أخذها لمكانها ومكانتها التاريخيين اللائقين بعراقتها بين الأمم، نسأل:
وهل لهذه الأمة من قائمة دون مواجهة عدوها الجاثم في القلب منها كثكنة وقاعدة متقدمة وحليفة لكافة ألوان وأشكال أعدائها داخلًا وخارجًا، وعلى رأسهم جميعًا الغرب الإمبريالي وسيدته الولايات المتحدة الأميركية... الغرب المعادي وصاحب المشروع، بل المشاريع التاريخية المعادية، على مدى أقله القرون الأخيرة، وفي كل بلادنا من محيطها إلى خليجها؟!
ثم، وهل لها ما يوحِّدها أو ما تُجْمِع وتجتمع عليه سوى فلسطينها؟! أو هل ثمة بوصلة هادية لها سواها...هادية لوحدتها، لنهضتها، وأقله، لخلاصها من راهنها المتخم بالفتن وغوائل التمزُّق والتشرذم والتمذهب والتطيُّف، وكل بلاء هذه المرحلة الأردأ، هذه التي ضاعت فيها البوصلة فاختلط حابلها بنابلها وأفسحت حلكتها ودونيتها لكل من جرؤ على دس أصابعه العابثة في أمصارها ومصائرها؟!
...إن لهجر مثل هذه "اللغة الخشبية" أصلا لكل ما أوصل فلسطينيي التسوية إلى مستنقعهم الأوسلوي، والعودة لها فحسب هي سبيل خروجهم الوحيد من أوحاله... وأوصل الأمة إلى أتون ما هي تكابده من راهن دموي مرير وواقع مذل مشين، وليس ثمة من خلاص لها إلا بإعادة الصراع مرة أخرى إلى مربعه الأول، والمسلَّمات القومية إلى زمن كلمتها الأولى...