في الوقت الذي تمضي فيه آلة الخراب والدمار وتواصل أدوات الإجرام والإرهاب ارتكاب جرائم الحرب في دول ما سمي بـ "الربيع العربي" مدعومةً بالمال والسلاح وبالسياسة والدبلوماسية من قبل قوى التآمر المستترة بأقنعة "الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان"، يمضي معشر المتآمرين في متابعة حصاد مؤامراتهم في البلدان العربية التي فتتوها ودمروها وغرسوا فيها نباتات إرهابهم السامة، خشية حصول أي بوادر أو تبلور عوامل قد تدفع شعوب الدول المقسمة والمدمرة وقياداتها إلى تصحيح المسار ومراجعة الذات ونبذ الخصام وإعادة روح الأخوة والمحبة والوحدة.
لقد كانت لافتة الجولة الخاطفة لجون كيري وزير الخارجية الأميركي إلى جنوب السودان الدولة المنفصلة ولقاؤه برئيس حكومة الانفصال سلفا كير على خلفية الصراع الدائر بين حكومة الانفصال وبين رياك مشار نائب كير المقال، حيث دعا كيري طرفي النزاع إلى تفعيل الاتفاق الذي وقعه الطرفان خلال الجولة الأولى من مفاوضات السلام بوساطة إفريقية في الثالث والعشرين من يناير الماضي والذي يقضي بوقف العدائيات بين الجانبين وإطلاق سراح المعتقلين.
وفي خلفيات الجولة "الكيرية" الخاطفة إلى جنوب السودان، نجد أنها جاءت مباشرة عقب التصريحات التي أدلى بها الرئيس السوداني عمر البشير والتي كشف فيها عن تلقيه اعتذارات من قوى دولية عملت من أجل فصل الجنوب بغية تدمير الشمال، مطالبةً إياه بإعادة النظر في انفصال الجنوب والعمل على إعادة الوحدة بين السودان ودولة جنوب السودان المنفصلة. لكن البشير لم يحدد الدول المعتذرة، إلا أنه أضاف إن أمر الوحدة حتى ولو تم قبوله يتطلب استفتاء أهل السودان ليقرروا فيه. وقد كرر أمس الأول جون كيري دعوة طرفي الصراع في جنوب السودان، موجهًا إليهما تحذيرًا شديد اللهجة خلال مؤتمر صحفي في لواندا من مواجهة "عواقب وخيمة" " أقولها بوضوح، إذا رفض هذا الطرف أو ذاك الوفاء بتعهداته، فلن تكون هناك عقوبات فحسب وإنما عواقب وخيمة أيضًا".
وبالنظر إلى تصريحي كل من الرئيس البشير والوزير كيري، فإن لكل منهما دوافعه التي أراد أن ينطلق منها، فالأول ـ رغم الشكوك المهالة على حقيقة ما كشفه ـ أراد إرسال رسائل عدة منها أن انفصال جنوب السودان لم يكن بسبب ممارسات الشمال ـ كما يتهمه الكثير بذلك ـ وإنما لأسباب ذاتية وقبلية ونزعات عرقية ورغبات في تحقيق مصالح فئوية وملذات شخصية للجنوبيين، بدليل أن ما يجري من صراعات دموية قبلية أدت إلى نزوح عشرات الآلاف الجنوبيين إلى الشمال بحثًا عن الأمن والاستقرار، وسقوط مئات الضحايا، وتعرض آلاف آخرين لمخاطر الجوع والفقر والحرمان والأمراض، ولذلك فإن التمرد الذي أعلنه الجنوبيون طوال العقود الماضية ضد الوطن الأم يقف خلفه الجنوبيون أنفسهم ويتحملون مسؤوليته بصورة أكبر. ويبدو أيضًا أن البشير أراد من خلال تصريحه أن يستر حالة الخذلان المسيطرة على عموم الشماليين، لا سيما بعدما رأوا أن انفصال الجنوب كانت انعكاساته السلبية أكبر بكثير من إيجابياته ولم يقترب من مستوى الطموح والمأمول تحققه من الانفصال. واللافت هنا في تصريح البشير أنه قال إن هناك قوى خارجية سعت إلى فصل الجنوب لتدمير الشمال، في حين أن الانفصال كان ضمن اتفاق نيفاشا للسلام الذي وقعه الشمال مع ممثل الجنوب الراحل جون قرنق. وكما أن هذا التصريح لا يتعارض مع رغبة جنوبيين في عودة الوحدة لما يرونه الآن من صراعات قبلية دموية، فإنه أيضا لا ينفي إمكانية عودة التوتر بين الخرطوم وجوبا.
أما ما يتعلق بتصريحات وزير الخارجية الأميركي الذي طار على عجل إلى إفريقيا وتحديدًا إلى جنوب السودان وتحذيره لسلفا كير ورياك مشار، فإن تحول جنوب السودان إلى دولة فاشلة تسيطر عليها حركات التمرد ومظاهر العنف والقتل والتهجير وضياع الثروات وتربص الفقر والجهل والجوع بسكانها، أو رغبة الجنوبيين في الوحدة مع الشماليين أو إجبار تلك المظاهر المسلحة والمظاهر الإنسانية على خيار العودة إلى الوحدة، فإن كل ذلك يعني ضربة مدمرة وقاتلة لنواة مشروع صهيو ـ أميركي يهدف إلى تقسيم دول المنطقة وخاصة الكبرى منها، وهزيمة سياسية مدوية لأصحاب المشروع ووكلائهم وعملائهم، ويقطع بالتالي الطريق عليهم عن مواصلة عملية الفصل والتقسيم والتفتيت، سواء في السودان حيث يتجه المقسمون والمفتتون نحو فصل إقليم دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق، أو في دول المنطقة الأخرى، حيث تسير النزعات الانفصالية المدعومة من أصحاب المشروع بصورة ملحوظة في ليبيا والعراق واليمن ويراد لها في مصر وسوريا وهلم جرا.
ومعروف عن جنوب السودان أنها دولة محصورة غير قادرة على الاتصال بالعالم الخارجي إلا عبر الشمال الذي يمثل رئتها ومنفذًا لبيع ثرواتها النفطية والطبيعية الأخرى، أو عبر بعض الدول الإفريقية الأخرى التي ستواجه هي الأخرى مشاكل كانت في غنى عنها. بيد أن أصحاب مشروع تقسيم السودان ودول المنطقة وتفتيتها لا يهمهم العنصر البشري داخل جنوب السودان بقدر ما يهمهم أن يكون هذا العنصر أداة ووسيلة لتحقيق المشاريع الاستعمارية التدميرية، حيث يرى كيان الاحتلال الصهيوني في إفريقيا عمقًا استراتيجيًّا له، في الوقت الذي تمثل فيه أيضا عمقًا استراتيجيًّا للدول العربية، وبالتالي التغلغل في القارة السمراء يشكل أولوية لإشغال العرب ومحاصرتهم وضرب وحدتهم، وتشتيت انتباههم عن ما يرتكبه المحتل الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني، لا سيما وأن الوضع العربي الآن في ظل ما يسمى "الربيع العربي" يعيش أسوأ حالات تضعضعه وانهزامه، وهز عوامل الاستقرار في الدول العربية مطلوب في المرحلة الراهنة لتمرير مخطط تغيير المنطقة بحلول عام 2013م كما بشر به كولن باول وزير الخارجية الأميركي الأسبق الذي قال بُعيْد غزو العراق: إن هناك بعدًا جديدًا في أجندة الرئيس جورج بوش فيما يخص منطقة الشرق الأوسط، وإن هذا البعد يتعلق بتغيير المنطقة بحلول 2013م.
ولهذا، فإن أصحاب المشروع الصهيو ـ أميركي لن يتوقفوا عن متابعة جنوب السودان ومنع أي فرصة لإمكانية عودة الوحدة مع الشمال، فالوحدة بين السودانين خط أحمر صهيو ـ أميركي. وفي تقديري إذا ما حاولت الخرطوم ترتيب الأوضاع والتمهيد لعودة الوحدة فمن الوارد أن تعود إلى الواجهة لغة التهديد الغربي للرئيس السوداني عمر البشير بالمحكمة الجنائية الدولية، والطلب من دول تسليمه ومنع طائرته عن التحليق في مجالها الجوي، وتوتير الأوضاع داخل السودان وضخ المزيد من الدعم لحركات التمرد والانفصال في دارفور وكردفان وغيرهما، وتأجيج المشاعر المؤيدة والمعارضة لطلاب الجامعات.
يبقى التأكيد على أن فصل جنوب السودان وانعكاساته باتساع المشاكل السياسية والاقتصادية وتأجج الصراعات الإتنية والسياسية في الجنوب والشمال، يمثل درسًا للأقاليم التي يجري تحريضها على الانفصال وأهمية أخذ العبرة والعظة.