”أين كانت عصموية الحكمة واستشرافية الرؤية المتمكنة من الذات والحق والأرض لتخفف من المآسي إن لم تكن قادرة على الحد منها ووقفها بالوعي الثوري والمسؤولية الوطنية والأخلاقية بناء على الحدس.؟! وأين كان هذا الحدس الخلاق وما موقفه وموقف جهابذته من المصير المؤلم الذي آل إليه أمر سوريا وشعبها؟!”
ـــــــــــــــــــــــ
يطلع علينا هذه الأيام فصيل فيه زعماء للأيديولوجيا الثورجية وأتباع لهم، ومعظمهم من ذوي المواقف والأحكام المسبقة على الآخرين الذين من غير لونهم وتبعيتهم .. يطلعون علينا بما يسمونه "الحدس الأخلاقي" الثوري المحمول على أجنحة عصموية مشدودة العنان غياً وتيهاً إلى أقصى السماوات وبأشد ما يكون التعصب والعناد وتوالد الأحقاد، ويتكلمون عن "حدس أخلاقي؟" قادهم إليه جهابذتهم جماعات ووحدانا، وخلاصته الحكم بأن الحرب المدمرة التي شنتها إسرائيل ضد لبنان ومقاومته عام 2006 رداً على اختطاف جنديين إسرائيليين، واستطاعت فيها المقاومة اللبنانية الصمود وتحقيق ما يقرب من توازن الرعب مع العدو الصهيوني .. كانت حرباً من أجل أن تصل إيران إلى البحر الأبيض المتوسط، وأن المقاومة ضد إسرائيل ليست وطنية وليست لأهداف قومية تحريرية وإنما هي أداة لأغراض سياسية.؟! وكأن علاقة إيران بشيعة لبنان، الذين يسكنون في مدن وبلدات وقرى لبنانية يقع الكثير منها على شاطئ المتوسط من صيدا إلى رأس الناقورة، كأن علاقتهم لم تكن وطيدة بإيران منذ مئات السنين على أسس مذهبية " شيعية" وتستطيع إيران من خلالهم أن تصل إلى المتوسط .. وكأن المقاومة اللبنانية هي وحدها التي أنزلت الشيعة ونصيرتهم إيران على شاطئ المتوسط، وأن ذلك الحضور يعود فقط لتلك الحرب أو إلى ما يتصل بعلاقة إيران بجنوب لبنان ذي الشواطئ المتوسطية..؟! ويقول لنا أصحاب الحدس وأتباعهم هذا الكلام بصيغة توحي بأن المقاومة في لبنان التي بدأت جنوبية ـ شيعية على الخصوص في مطلع الثمانينات من القرن العشرين وبدعم من إيران، لم تكن ضد الاحتلال الصهيوني الذي لاحق المقاومة الفلسطينية في لبنان حتى احتل بيروت وارتكب فيها أبشع مذبحة ضد الفلسطينيين المدنيين العزل، بنكهة طائفية بغيضة هي مذبحة صبرا وشاتيلا، ورحل منظمة التحرير ومقاتليها إلى تونس، وبقي بعد ذلك العدو محتلاً لجنوب لبنان كله، ومتحالفاً مع جيش لحد الذي حارب جزءاً من الشعب اللبناني "المقاومة اللبنانية بكل أطيافها" مع الكيان الصهيوني، حتى هزمتهم المقاومة اللبنانية وداعموها، وحررت الجنوب عدا مزارع شبعا والقرى السبعة المغتصبة سابقاً في حرب عام 2000؟! ويقول لنا أصحاب "الحدس الأخلاقي" هذا الكلام أيضاً وكأن الكثير من اللبنانيين، من جنوب لبنان إلى بيروت والبقاع ومناطق من الشمال، لم يتعرضوا للتنكيل والتشريد الإسرائيليين ولم يقضوا في معسكرات الاعتقال الصهيونية "سلسلة أنصار، ومعتقل الخيام وغيرها" سنوات وسنوات من الشقاء عدا عن المعتقلين اللبنانيين في السجون داخل الأرض المحتلة؟!.. ونحن في سوريا نعرف ونعرف، لأننا من تلقى اللبنانيين بالأحضان، إخوة أعزاء لنا، عاشوا محنة وامتحاناً قاسيين بسبب العدوان والاحتلال الصهيونيين، حيث الكيان الصهيوني وحلفاؤه يستهدفوننا جميعاً في بلاد الشام كلها انطلاقاً من جنوبها الغربي "أي فلسطين"؟!
منطق عجيب يتلفع "بالحدس الأخلاقي" وبطهرانية البراءة، ويتلطى في ظلال العقل، ويرى أنه يستشرف.. بينما لا يفعل سوى أن يقلب الأمور رأساً على عقب، ويجعل التلفيق الصهيوني حقائق مبثوثة بلغة عربية على لسان عرب يزعمون أنهم الثورة والأخلاق والإنسانية والعدل والمعرفة وما إلى ذلك من محاسن العقل والبشر؟! وغاية ما يثير العجب والغضب، وما هو أبعد من ذلك بكثير، المعرفة والتجربة والمتابعة المزمنة التي يملكها الكثيرون من السوريين عن حقيقة أولئك وتحولاتهم الصاعقة من موقف وصف إلى موقف وصف، وتنقلهم من معسكر إلى آخر، ونقلهم "البندقية من كتف إلى كتف حسب الاصطلاحات الثورية"، حسب حسابات الربح، وكذلك المعرفة المؤكدة عن الصلة الواهية بين أولئك والموضوعية والعلمية والأخلاق والحكمة على الخصوص؟! وما هو أو هي من ذلك كله المعرفة المكشوفة للجميع عن مدى صلتهم بالوطني والمواطنة والعروبة والإسلام بشكل عام، وعن مفاهيمهم لذلك كله، وهم الذين يتهمون العرب المتعلقين بقوميتهم بالشوفينيين، أخذاً منهم بأممية كلفت العالم ما كلفته من دماء ودمار وانكفأت غير مأسوف عليها، ويرون في العرب الذين يتمسكون بحق الأمة في فلسطين "صهاينة عنصريين" يريدون تحرير فلسطين من الصهاينة الأممين، لأن نظرتهم لحل قضية فلسطين كانت تنحصر في وقت من الأوقات بانتصار "راكاح" الحزب الشيوعي الإسرائيلي ووصوله للحكم في إسرائيل، لأن ذلك سينهي القضية من جذورها على أساس غلبة الأممية على الوطنية والقومية..؟! ولم يكن موقفهم من حرية الاعتقاد والتفكير والتعبير بأفضل من مواقهم المتطرفة الأخرى، إذ كانوا يتهمون المؤمنين المتعلقين بدينهم من "مسلمين ومسيحيين" بالظلاميين والرجعيين والمتخلفين و.. و.. استناداً منهم إلى إلحاد يتباهى في بلاد الإسلام وعلى المؤمنين بدين والمخالفين برأي ورؤية، ويتعالى على من اختاروا الإيمان بفهم ووسطية وأخلاق فلم يقولوا بتكفير من لا يختاره من الملحدين أو غيرهم، ولم يطلق عليهم إلا ما أطلقوه هم على أنفسهم ابتداء من "الدين أفيون الشعوب" إلى عودة مشتتة إلى الأديان والمذاهب والقوميات الضيقة الأفق؟!
ومن غرائب أولئك وعجائب أمورهم أنهم لا يتعاملون مع الذاكرة ولا يفترضون أن غيرهم يتعامل معها فهم لا يرجعون إلى ماضيهم الخاص والعام الغاص بالتناقضات والمثالب وبما سببوه من مصائب للآخرين أفراداً وجماعات، ولا إلى ما ألحقوه من تشويه وتزييف في الوقائع والتواريخ ومواقع التفكير والإبداع ومراتب الأشخاص، ولا إلى ممارساتهم التي تزري بالحق والعدل والحرية والديمقراطية وبالإنسان ذاته، ومع ذلك تتذرع به لتبلغ ما تريد باسمه وعلى ظهره وحسابه.. ولا تأبه بالنقد الذاتي البناء بل تقول بأن الحقيقة هي ما فيه مصالحها هي، وهي فقط، وأن العصمة متوفرة بالعلم والعقل و" الحدس الأخلاقي؟" الذي يملكون، وترى في من ليس منها ولا من أتباعها عدواً.. إلى آخر تلك الصفات والمواصفات.
المشكلة في الكثيرين ممن هم على هذه الشاكلة هو الفصام الآني المتواتر بين ما يكونون عليه وما يصبحون عليه بعد كل تحول وتلون وتعثر.. ودائماً يكون الحق إلى جانبهم، والنضال بأنواعه من خصائصهم، ويكون الآخر إما مداناً أو متهماً أو ملاحقاً بهواجسهم العدوانية وربما بـ "حدسهم الأخلاقي" من النوع الثقيل. وربما جاز لمن يبكي دماً وتنزف جراحه قيحاً ويتعكز على بقية عمر ويعاني بقسوة هنا وهناك من السوريين على الخصوص، أن يسأل أو يتساءل: أين كان هذا "الحدس الأخلاقي" والرؤية الاستشرافية المجللة بالغمام والمسؤولية العالية المهابة و.. أين كان كل ذلك مما جرى لمدن مثل حلب وحمص ودرعا، ولبلدات وقرى على مد النظر في سوريا كلها، ولمصالح شعب ووطن"! ولم كان غائباً أو مغيباً إلى الحد الذي جعل كل الأطراف تغرق في الدم والجرم والإثم وتستغرق في ذلك كله.. لِمَ يحضر أو يستحضَر شيء من ذلك ولم تنجلِ عنه الآفاق وينبجس من الأحداس الرؤية ومن عيون زرقاء اليمامة العصرية، ويلبس لبوس المسؤولية التاريخية ويضع الآخر في الزاوية الضيقة ويمنعه من التمادي بنزع فتيل الاستفزاز واللجوء إلى الحلول التي تحقق المطالب وتمنع القتل والدمار؟! أين كانت عصموية الحكمة واستشرافية الرؤية المتمكنة من الذات والحق والأرض لتخفف من المآسي إن لم تكن قادرة على الحد منها ووقفها بالوعي الثوري والمسؤولية الوطنية والأخلاقية بناء على الحدس.؟! وأين كان هذا الحدس الخلاق وما موقفه وموقف جهابذته من المصير المؤلم الذي آل إليه أمر سوريا وشعبها؟! حيث كان المفترَض بالحدس الأخلاقي والمسؤولية بأطيافها وألوانها وأبعادها أن يجنب الشعب والبلد بعض المحنة، إن لم يكن ذلك بالحكمة والعقل المسؤول فبعدم التورط حتى النخاع باستعداء الأجنبي علي البلد والشعب لقاء مال وأمن ووعد بسيطرة، أو بعدم الاستفزاز غير المدروس الذي أطلق وحوشاً من عقالها واستنفر غرائز لم يكن في صالح أحد استنفارها؟! وأين كان كل ذلك الحدس بأنواعه من قبل " أنبيائه وأتباعه وأشياعه" من الممارسات التي يدينها الجميع ولا تدخل في أي باب من أبواب المعقول والمقبول، ومن الاقتتال بين الأطراف التي يجمعها في المعلن العداء للنظام والرغبة في ولادة سوريا جديدة يختلفون على كل تفاضيل جديدها وجدتها؟! ألم يكن ذلك من المحتمَلات ومما يستنتجه العقل بناء على معطيات ومقدمات تؤدي إلى نتائج وتاريخ ينطق إذا فُتحت صفحاته.. مع وجود الولايات المتحدة الأميركية والصهاينة ومن تحالف معهما من القاصي والداني، مع وجودها وإسرائيل على خط "التغيير" اللتين أعلنتا التغيير وأبطنتا تدمير سوريا وجيشها وقوها ومؤسساتها والمقاومة بكل أشكالها وأطيافها وألوانها ضد الاحتلال والعنصرية الصهيونية و"الإمبريالية" التي كانت بنظر " الحدسيين" أعداء أعداء البشرية؟! وتدمير المتطلعين إلى المقامة واستقلال القرار وإحقاق الحقوق وتحرير الأرض المحتلة والآخذين بذلك والمتطلعين إليه، وتدمير كل القوى الإسلامية وغير الإسلامية التي تعارض النفوذ الأميركي والاحتلال الصهيوني وفرض تبعية سوريا للغرب، وتقديم كل ما يطلبه الصهيوني عدو الأمة والإنسانية، من مطالب"! الم ير من يفترَض فيه أن يرى، ولا نقول أن يحدس ويتنبأ، أن أميركا ذات التاريخ الإجرامي في كل العالم، وأميركا التي " تحارب الإرهاب وتستثمر فيه" تريد أن تتخلص مما لا تريده منه، ومن أنظمة وتنظيمات وقوى وسياسات وخيارات بضرب أولئك: " دولاً وأنظمة وتنظيمات ومنظمات وفصائل وجيوشاً وتكتلات.. إلخ" بعضها ببعض، وزجها في الصراع حتى الإفناء، بتمويل عربي، ونخوة يعربية، ـ وحمية إسلامية، واقتناء لليسارية، وتطبيل عربي ذي أهازيج وأفراح.؟!
لقد آن لنا جميعا، نحن السوريين على الخصوص، والعرب والمسلمين بصورة عامة، أن نواجه أنفسنا بالحقائق وألا نهرب من المسؤولية وألا نركض إلى الأمام لنتملص من إثم أو لنلقي عن ظهورنا المسؤولية أو لكي نبقى على سطح الحدث مستعدين للطفو دوماً حتى فوق مستنقعات الدم .. فنسمع ما يقوله لنا أولئك " لآخرون" وما يقولونه حتى لمن هم من جلدهم وبعض لحمهم ودمهم، بصوت يفضحه الضجيج ويشيع فيه الادعاء ويتموج على أمواج النفاق:" ألم نقل لكم.. نحن غير ما أنتم.. نحن نرى ونحن لم نكن ونحن كنا.. و.. "، ثم يهرب من يهرب إلى الأمام بعجرفة الهارب من جرائمه وخطاياه وأخطائه.. لقد آن لنا أن نواجه أنفسنا بالحقائق وبالنقد الذاتي القاسي وبالموضوعية التي تشهر الحق بأي ثمن على الذات والآخر .. وألا نسمح لذلك النوع من الانتهازيين والمدعين، تجار النضال، ومفكري المصادفات، وأعلام الادعاء والخداع، وأنبياء "الحدس الأخلاقي" الكاذب الذي يتماهى مع الجهل المتعالي والنفاق الاجتماعي والسياسي ومع الحمل الكاذب من كل نوع .. وعدم السماح للمجرم أياً كان بأن يفلت من العقاب.
وفي هذا المجال لا يجوز اتهام أحد من دون دليل وبينات، ولا تجوز تبرئة أحد من دون محاكمة عادلة.. كما لا يجوز أن يبقى بلد وشعب وفكر وأدب وثقافة ونضال وقضايا كثيرة.. عرضة لمن يمتهنون التزييف والفساد والإفساد والتزوير ويشوهون الوقائع "بشطارات ومهارات وادعاءات"، ويرفعون الصوت بالباطل مدعومين بقوة الباطل أو بفساد يبطل قوة الحق والعدل والقانون .. ولا يجوز بأي حال من الأحوال أن يترك رأي عام نهب الضلال ومن هم أقدر على التضليل والادعاء والخداع، ولا أن يبقى تاريخ بلد ودم شهداء ومعاناة شعب وكل ما حدث في سوريا ولشعبها دون مساءلة ودون محاسبة، ولا أن يبقى أحد فوق القانون أو فوق المساءلة بفعل أية قوة أو أحابيل تزري بالعدالة وتبقي الجراح في جسم الشعب تنغل دوداً وتدفع إلى مزيد من الجراح، حيث الجراح تؤدي إلى جراح.