ـ الأسلحة تتنوع وفق الاستراتيجيات.. والدور المزدوج يطفو على الأوضاع الحالية
ـ الشرق الأوسط يعيش مرحلة استنساخ سمات الجيل السادس والتحول للجيل السابع

مقدمة:
التغيرات التي شهدها العالم خلال المائة عام الأخيرة كانت شاهدة على أكبر تطور نوعي في أجيال الحروب والذي بدأ منذ الحرب العالمية الأولى في وضع نهاية لحروب الجيل الأول والتحول للجيل الثاني، ثم الثالث الذي صاحب الحرب العالمية الثانية، ثم الرابع والخامس الذي استلهم مصطلح "الطابور الخامس" وتحول لفكرة من أجيال الحروب اختلفت حسب طبيعة الشعوب المستهدفة – العدو – ثم وصل المطاف إلى حروب الجيل السادس التي يعيشها العالم الآن، واللافت للنظر أن المنطقة العربية كانت ولا تزال مسرحًا تتعاقب عليه أجيال الحروب سواء بطريق مباشر أو غير مباشر.

[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/uploads/2016/04/ayman-hussien.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]أيمن حسين
مراسل الوطن[/author]

تصنيف الحروب:
توارت فكرة الاحتلال العسكرى المسلح المدجج بالجيوش خلف فكرة الاحتلال الناعم الذي يستهدف تدمير العدو بأقل الإمكانيات وأكبر الخسائر، وبالتالي ظهرت فكرة تعدد أجيال الحروب التي اختلفت أسلحتها عن الحرب التقليدية، حيث تتباين الأسلحة حسب الاستراتيجية المطبقة، وطبيعة المنطقة، وطبائع الشعوب المستهدفة، فحتى قرابة ثلاثة عقود من الماضي كانت أجيال الحروب أربعة، لكن المتغيرات العالمية أضافت لها جيل خامس وآخر سادس وفي طور التحول إلى جيل سابع.
بدأت أجيال الحروب الحديثة في التشكل بعد صُلح ويستفاليا 1648، ورافق ذلك احتكار الدولة وحدها للحرب كأداة لتنفيذ سياستها ومد نفوذها، وشهدت طرق شن الحروب تغيرا جذريا عما كانت عليه في الأزمنة القديمة، وشمل التغير المشاركين في الحروب والعتاد والتكتيكات المتبعة إلا أن طبيعة الحرب لم تتغير.
لكن العديد من الدراسات خلال ثمانينيات القرن العشرين اهتمت بتقديم رؤية عن تغير شكل الحروب وعن مستقبلها، وبرز اسم "جون بويد" كأول من يحدد تلك التغيرات وكيفية تطور الحروب، ومثلت أفكاره أساسًا لكثير من النقاشات الحالية التي تُركز على مستقبل الحروب في الدوائر الأكاديمية والعسكرية، تلاه المؤرخ "مارتين كريفيلد" في كتاب "التحول في الحرب" والذى قال فيه إن التفاعلات المتداخلة والتغيرات الحادثة في العالم الحديث أوجدت حالة من التغير في الكيفية التي تُشَن بها الحروب.
وتبقى الرؤية الأهم حول مستقبل الحروب تلك التي طرحها "ويليام ليند" ومجموعة من الضباط العسكريين عام 1989 في مقالة "الوجه المتغير للحرب: نحو الجيل الرابع"، وأوضح ورفاقه أن حروب الجيل الرابع لا يجب ان تعتمد على المركزية بشكل واضح وصريح، وأن التقدم التكنولوجي وخفوت الحدود الثقافية والنقلات الدقيقة في المجتمع أثروا جذرياً على الحروب، وبالتالى قسموها إلى أربعة أجيال.
الجيل الأول:
يُطلق لقب الجيل الأول على صراعات الفترة الممتدة ما بين 1648 وحتى 1860، حيث تم اتباع تكتيكات الصف والعامود “line and columns tactics”، وأسست حروب هذا الجيل للثقافة النظامية للمؤسسات العسكرية، نتيجةً للفكر التنظيمي داخل أرض المعركة، والذي تبعه ترسيخ مجموعة من التقاليد العسكرية كـالأزياء الموحدة والتحية والترتيب القيادي؛ لكن المشاكل سرعان ما بدأت في الظهور إثر انهيار النظام السائد لأرض المعركة إضافة إلى التقدم الحادث في الماكينة العسكرية كـالأسلحة الآلية والبنادق المميكنة منذ منتصف القرن 19، وبالتالي أصبحت التكتيكات القديمة - الصف والعامود - مجرد أفكار انتحارية غير قابلة للتطبيق.
الجيل الثانى:
ظهر الجيل الثاني على يد الجيش الفرنسي أثناء وبعد الحرب العالمية الأولى، وشهدت تلك الفترة استخدام القوة النارية الشاملة متمثلة في نيران المدفعية غير المباشرة، وأصبح الهدف هو استنزاف العدو، وتلخصت العقيدة القتالية الجديدة في أن أسبقية القصف تكون بالمدفعية ثم يحتل المشاة الأرض، في ظل تنسيق بين نيران المدفعية المركزية في أرض المعركة وتمركز المدرعات وقوات المشاة، وتم الحفاظ على ثقافة النظام العسكري والتراتبية التي يفرضها، وازداد التركيز على القواعد العسكرية والإجراءات والتعليمات، كما ظهرت الأولوية لطاعة الأوامر عن الارتجال.
الجيل الثالث:
نشأ الجيل الثالث كنتيجة مباشرة للحرب العالمية الأولى، حيث قام الجيش الألماني بتكوين ما يعرف بالحرب الخاطفة أو حرب المناورات، وبنيت العقيدة القتالية على أساس السرعة وعنصر المفاجأة والتشويش الذهني والمادي للعدو، وتحول الهدف للجيوش أثناء المعركة إلى اختراق خطوط العدو والوصول لمؤخرته وإحاطته بهدف التقدم من الخلف إلى الأمام، وبالتالي انتهت فكرة الحرب كسباق دفع بين طرفين.
تغير التكتيك القتالي والثقافة العسكرية، وتحول جوهر العمل العسكري إلى التركيز على الوضع القتالي وحالة العدو والنتائج المرجوة، وليس على الإجراءات المصمتة، وعاد الاهتمام بعنصر المبادرة ليصبح من أهم القواعد المتحكمة في حروب الجيل الثالث، ولتترك مساحة من الحرية في الوصول للنتائج المراد تحقيقها بشتى الطرق المتاحة.
أفرزت حروب الجيل الثالث العديد من الأفكار العسكرية مثل مبدأ اللامركزية، ومبدأ الارتجال، والمبادرة، ومثلت تغيرا جذريا في فن الحرب لم تشهده المؤسسات العسكرية منذ صُلح ويستفليا، ألا وهو انتهاء احتكار الدولة للعمليات العسكرية.
الجيل الرابع:
يطلق على الجيل الرابع من الحروب "الحرب اللا متماثلة" أو جيل تسخير إرادات الغير لتنفيذ مخططات العدو، وهو الصراع الذي يتميز بعدم المركزية بين أسس أو عناصر الأطراف المتحاربة من قِبل دول أخرى، وهي لا تستهدف تحطيم القدرات العسكرية وإنما إفشال الدول من الداخل عن طريق نشر الفتن والقلاقل وزعزعة الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي وإثارة الاقتتال الداخلي.
تقنيات الجيل الرابع من الحروب تستهدف النظام الذهني عن طريق خلق أنظمة ذهنية داخلية متناحرة على جميع المستويات، تأخذ هذه الأنظمة الذهنية المتناحرة طابع حرب الجماعات الدينية أو حرب الجماعات المالية والاقتصادية، كما من الممكن أن تأخذ طابع حرب الجماعات العلمية المسوقة للتكنولوجيا، هذه الجماعات المتناحرة تخترق الفراغات الهائلة للتقنيات الحديثة وتحدث خسائر فادحة في الدول والمجتمعات.
ولعل استخدام الطائرات (بدون طيار) في مراقبة أجواء الدول وتطويرها وتزويدها بتقنيات تتراوح من أجهزة الرصد والتجسس إلى أجهزة قادرة على الهجوم والاغتيالات بعد تزويدها بالصواريخ، كما نرى ذلك جليا في نطاق دول عربية، وكما استخدمته إسرائيل ضد قادة فلسطينيين مثل الشيخ أحمد ياسين، هو الوجه الظاهر الأبرز للتحول التدريجي في هيكلة الحرب العسكرية. أما الوجوه الأخرى فهي فرق التحرك السريع، ثم فرق المهمات الخاصة التي تنفذ عمليات تمتد من الخطف والاغتيال والتدمير إلى إثارة الفتن والقلاقل تمهيدا لتحولات سياسية.
وانهيار القطبية العالمية الثنائية مطلع التسعينات وهيمنة الولايات المتحدة على العالم جعلها تسعى إلى التخلص تدريجيا من الاعتماد السابق على تمركز القواعد العسكرية الضخمة بمعداتها وآلياتها في البلدان المحتلة، مع إبقاء عدد محدد منها كمراكز سيطرة ورصد بعيدة المدى بالتركيز على الأجهزة الالكترونية المتطورة والمدارة عن بعد، ويتلاءم هذا التطور مع توقيع اتفاقيات أمنية واستراتيجية مع الحكومات الحليفة أو الخاضعة، لتحقيق المفهوم الذي كتب عنه منظر الامن القومي الاستراتيجي اليميني مارك هلز قبل عشر سنوات، بعد عام من تفجيرات 11 سبتمبر قائلاً "سواء داخل أو خارج أميركا سننتهي بالوضع التالي: أبناؤهم ضد تقنيتنا".
تطورت مفاهيم الجيل الرابع في التسعينيات فى ضوء ما نلمسه من توجهات دولية تتغاضى عن المخططات والهجمات الإرهابية فى دول الشرق الأوسط وغيرها، بقصد إنهاك القوى الأمنية، وتفتيت مؤسسات الدولة وإيقاعها أمنيا واقتصاديا وتفكيك وحدتها الترابية ونسيجها الشعبى، فهذه التنظيمات الإرهابية مدربة وتملك إمكانيات لوجيستية وخلايا خفية من المتطرفين والمرتزقة تنشط لضرب مصالح الدول.
ولعل أبرز نجاحات هذه الجيل تفتيت حلف وارسو بقوة الشارع المدني، حيث تساقطت دوله واحدة بعد أخرى أمام أعين الأخ الأكبر "الاتحاد السوفيتي" وانفرط عقد القوة العظمى بقوة شعوب بولندا والمجر ” ورومانيا وتشيكوسلوفاكيا وبلغاريا وألمانيا الشرقية وأصبح الاتحاد السوفيتي وحيدا أمام عدوه التقليدي "حلف الأطلسي"، ثم انفرطت جمهوريات الاتحاد السوفيتى الخمس عشر ولم يتبقى منها سوى "الاتحاد الروسي"، وهى المعركة التي لم يخسر فيها الطرف الأول جنديا واحدا ولم يحرك دبابة أو طائرة.
الجيل الخامس:
ينبثق مفهوم "الجيل الخامس" من مصطلح الحرب المفتوحة، دون قيود أخلاقية، بين دولة وعصابات مقاتلة؛ وتستخدم فيها القوة المسلحة وغير المسلحة، لإخضاع الخصوم، كما توصف بأنها "حرب هجينة" أو "حرب الأشباح" إذ قد يكون العدو فاعلا، لكنه غير منظور أو محدد، من خلال الإرهاب الإلكترونى، وتوظف تكتيكات "الأشباح" بالعمل على تجنيد كيانات متعددة، مهمتها الزج بالشعوب نفسها وتهييجها، لتكون لاعبا أساسيا، يتم تحريكه ضمن أهداف تلك الحرب، عبر عناصر مخابراتية وقوى معارضة ومنظمات حقوقية ومدنية، وكم عشوائي مركب من ذويي الأغراض والنوايا السيئة.
ومن مظاهر هذا الجيل سعي الأفراد والمجموعات المليشياوية أو الإرهابية للوصول إلى المعرفة المتطورة والتكنولوجيا الحديثة، واستخدامها كوسائل هجومية في معارك غير متماثلة؛ لتحقيق المصالح الفردية والجماعية، بشن هجمات إلكترونية أو تقليدية تعطل المؤسسات الحكومية والبنى التحتية، وإثارة الخوف العام، عبر وسائل شديدة الخفاء، فائقة التخطيط والمفاجأة، بما فيها قرصنة الكمبيوتر، وزعزعة ثقة الحكومات والشركات على نطاق عالمي، واستخدام برامج وشبكات المعلومات للتواصل والتنظيم والاستعلام والحشد وتوجيه الجهود وإدارة الجموع، وبث الإشاعات والأخبار المغلوطة.
الجيل السادس:
يلتصق الجيل السادس بالسابع في الأهداف والتقنيات، فكلاهما يهدف إلى إنهاء وجود دولة أو كيان معين تماما، عبر حرب تدار عن بعد من خلال استخدام الأسلحة الذكية وشبكات الإنترنت أو حتى استخدام الطيور والحيوانات والأسماك كأدوات للتجسس، كما يكون هناك توظيف لكل الوسائل والقدرات من القصف الإعلامي والتكنولوجي والتجسس وحتى قوة النيران بما يخدم مصلحة الطرف الأول.
ويتميز الجيل السادس بالعمالة المزدوجة للمعدات العسكرية الموجهة من حيث إظهار محاربة الجماعات والتطرف والإرهاب، وفي نفس الوقت تقدم دعما لوجيستيا وعسكريا لها، فلا يتوقف استخدام التكنولوجيا المتقدمة كالأسلحة المتطورة، والصواريخ المضادة للدروع والطائرات عند الاستخدام التقليدي الظاهر مساندته للدول، بل تشكل مددا للأعمال الإرهابية والعمليات الانتحارية في نصب الكمائن، ومهاجمة المدنيين أو قوات الأمن، لاستنزافهم وتشتيتهم وإرغامهم علي الخضوع أو الانسحاب، بالإضافة إلى السلوكيات المروعة بأرض المعركة، مثل الذبح والحرق والسيارات المفخخة، إضافة إلى توظيف مخرجات الثورة التقنية والشبكة المعلوماتية فى تفجيرات نوعية عن بعد وغيرها من الهجمات المتفرقة على المسرح العالمي.
ويستخدم التزييف الاعلامي وسيل المواد الدعائية التي تشجع على فقد الثقة بالحكم وتوارى الشعور بالأمن على جميع المستويات، وبث نتائج كاذبة، عن انتصارات وهمية للإرهابيين على الأرض لبث المزيد من الارتباك وفقد ثقة الجمهور بالقيادة.
الخلاصة:
لم تكن المنطقة العربية بمنأى عن كل أجيال الحروب المتلاحقة، بل ومع مرور الزمن للأمام يزداد تركيز هذه الحروب على المنطقة أكثر من ذي قبل، ويبدو أن المنطقة العربية فى مجملها تعيش حالة الجيل السادس، بل وتتغلف أرضها بكل أجيال الحروب الماضية وسماتها المتواصلة مع الأجيال اللاحقة، فإذا كان كل جيل يمثل نقلة نوعية في أساليب شن الحرب، وتحولا واضحا في فن إدارتها، بمعنى أن أي قوى عسكرية أو أمنية تحارب بأساليب ووسائل جيل سابق لا تستطيع هزيمة قوة تستخدم فن الحرب بأساليب جيل جديد، فإن ما نعايشه من تداخل أجيال أو استراتيجيات الحروب، سواء أكانت حروب الجيل الرابع المعنية بإفشال الدولة وتدمير قواها وتفتيت مؤسساتها، أو الجيل الخامس المعنية بالتعامل مع تشكيلات عصابية وتنظيمات إرهابية، أو حروب الجيل السادس المعنية بكل ما يتم التحكم به تماما والسيطرة وإدارة الحرب عن بعد، كلها يستدعى تعاملا مسئولا ومحترفا لتحقيق الردع فى جميع الأحوال.
الشعوب قبل الحكومات عليها عامل كبير فى استيعاب الانجرار إلى مرحلة حرب متطورة من خلال إيجاد أزمة شرعية في مواجهة الدولة القومية، فأغلب دول واجهت ذلك فى السنوات الأخيرة، ومنها من سيواجه في المستقبل القريب شكل من أشكال هذه الحروب داخليا، والتي تسير وفق خطط وتصاميم واستراتيجيات وتكتيكات وآليات كاملة، تتداخل فيها أطراف خارجية في دور "الدول الداعمة" لتلعب دوراً مزدوجاً مثلما لعبته في بلدان أخرى بالمنطقة، لأن السنوات القادمة تشهد تحولا واستنساخا من سمات الجيل السادس إلى السابع وربما يتشكل جيل حرب يتخطى كل الحروب القذرة.