[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/suodalharthy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]سعود بن علي الحارثي[/author]
” .. وقع في يدي قبل عدة أشهر كتابا متميزا ومثيرا سعت مؤلفته (أنجيلا سايني) عبر صفحاته التي تقارب الثلاثمئة إلى اكتشاف (أمة العباقرة) وهو الاسم الذي أطلقته على كتابها القيم والمشوق . زارت انجيلا واطلعت على عشرات المختبرات ومراكز الأبحاث، والمؤسسات الأكاديمية، ومعاهد التدريب المتخصصة، الجامعات ومراكز أبحاث الفضاء وتكنولوجيا المعلومات وبرامج الحاسوب والأحياء الجزيئية والأبحاث الطبية وعلوم الجينوم والدراسات الحيوية المتكاملة ... ”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إرادة الشعوب وتطلعاتها في تحقيق غايات التقدم وضمان بلوغ نهضة شاملة في مختلف المجالات والقطاعات، دائما ما تنطلق من العمل والنجاح في تطوير وإصلاح قطاع التعليم ورعاية الموهوبين وتحفيز المبدعين والتنافس الشريف على تحقيق اسهامات مهمة في مجالات البحث وبراءات الاختراع وإجراء التجارب والابتكار والاختراع والتصنيع في مختلف المجالات العلمية، الطب والوراثة وتكنولوجيا المعلومات وبرامج الحاسوب والأحياء الجزيئية والفضاء ... بغية اللحاق بالركب الحضاري الذي بات مطلبا وتطلعا وطموحا تنشده الكثير من شعوب ودول وحكومات العالم، وقد أمضى بعضها شوطا مهما في هذه الحقول وباتت رقما يصعب تجاهله ومنها بالطبع (العلوم الهندية) التي فرضت (هيمنتها على العالم) وفقا للقراءات والمشاهدات الواسعة. وقد وقع في يدي قبل عدة أشهر كتابا متميزا ومثيرا سعت مؤلفته (أنجيلا سايني) عبر صفحاته التي تقارب الثلاثمئة إلى اكتشاف (أمة العباقرة) وهو الاسم الذي أطلقته على كتابها القيم والمشوق . زارت انجيلا واطلعت على عشرات المختبرات ومراكز الأبحاث، والمؤسسات الأكاديمية، ومعاهد التدريب المتخصصة، الجامعات ومراكز أبحاث الفضاء وتكنولوجيا المعلومات وبرامج الحاسوب والأحياء الجزيئية والأبحاث الطبية وعلوم الجينوم والدراسات الحيوية المتكاملة ... والتقت بعشرات العلماء والخبراء والمهندسين والأكاديميين والمسئولين والطلبة الموهوبين أو (العباقرة) كما أسمتهم في مختلف المجالات والحقول التي تم استعراضها، وشاركت في مؤتمرات ولقاءات وحوارات وفعاليات علمية في أنحاء مناطق الهند وولاياتها العديدة، وضمنت خلاصات ونتائج انطباعاتها ومشاهداتها وقراءاتها الدقيقة في هذا الكتاب الجميل الذي قدم الهند للقارئ ليس اقتصارا على تفسير وشرح أسباب ودوافع ومحفزات ثورتها العلمية (القادمة) بل تعدى ذلك إلى الحياة العامة، التنوع الذي تتميز به والمظهر السائد في شموليته من حيث أنها بلد العجائب والديانات واللغات والأساطير والتاريخ الغني بالتشابكات والتباينات والتجاذبات، وأحداثه الغزيرة التي لاتزال تؤثر على الحاضر وتعدد ممالكه وبطولات شخصياته التي تتجاوز المعقول والمقبول في سياق العقل الإنساني، والذي لا يزال رغم الثورة العلمية والنهضة الاقتصادية اللافتتين وماضي الهند الحضاري أسيرا للفقر والجهل غارقا في الفساد السياسي والمالي، وهو التحدي الأكبر الذي يقف أمام النهضة الهندية أو يحد من حركتها، ونجحت الكاتبة في ربط الماضي بالحاضر في انطلاقتها لرسم مستقبل الهند. وتحدث أي - الكتاب - عن مئات العلماء والخبراء والعباقرة والمفكرين الذين يعودون إلى وطنهم من مختلف الدول الأوروبية وأميركا ليسهموا في نهضته العلمية والاقتصادية، لتختتم الكاتبة قراءتها لهذا العرض الشامل عن (أمة العباقرة) بالتأكيد على أنه ليس من السهل أن يقدم الباحث والكاتب رؤيته عن نهضة الهند وعبقرية أبنائه أمام لوحة الفسيفساء العجيبة من التناقضات. طبع الكتاب ونشر ضمن سلسلة (عالم المعرفة) التي يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بدولة الكويت وترجمه إلى العربية الأستاذ طارق راشد عليان وذلك بالعدد (422). الكتاب إلى جانب غزارة معلوماته وأسلوبه الشيق يقدم رؤية متكاملة لأمة تمتلك حضارة عريقة وتاريخا علميا ضاربا في القدم.
ليس بغريب على دولة كالهند أن تمتطي صهوة المجد العلمي من جديد، ففي العام (1881) وفي قرية باخشالي، في إحدى مقاطعات الهند الشمالية التي كانت تخضع للحكم البريطاني، مضى أحد الفلاحين من سكان القرية ينقب حول بعض الأطلال الحجرية في أحد الحقول، فقاده حظه إلى احراز اكتشاف أثري مهم، كان (عبارة عن بعض الأوراق الممزقة من لحاء شجرة البتيولا وكان الاكتشاف كتابا في الرياضيات عرف فيما بعد ب (مخطوطة باخشالي) ويعتقد المؤرخون أنها ترجع إلى العام (700 بعد الميلاد ما يجعلها من أوائل النصوص العلمية المكتشفة في آسيا)، وقد كان الهنود في الزمن الذي كتبت فيه هذه المخطوطة (يستخدمون العلامات العشرية والجذور التربيعية والجبر)، وذلك قبل أن يسمع عنها الغرب بعدة قرون. ويعتقد وفقا لما ذكرته الكاتبة أن (علماء الفلك الهنود كانوا أول من أجرى الحسابات الدالة على أن الأرض تدور حول محورها لينتج عن دوراتها تعاقب الليل والنهار)، فليس مستغربا اليوم أن تنهض الهند من سباتها الذي استمر لعدة عقود من الزمن عانت خلالها الأمرين من الاستعمار البريطاني، وأن تتحرر تدريجيا من قيود الجهل والتخلف والفقر، فتوظف امكانياتها الجبارة لتحقيق نهضة علمية واقتصادية تعيد للهند مكانتها المتقدمة . كيف تستطيع المجتمعات والأمم والدول إذن أن تنهض من سباتها وأن تتجاوز كل التحديات والصعوبات وتحقق المستحيلات؟، بالأخص في بلدان ذات عدد سكاني هائل وبنية تحتية متهالكة وتعاني من الأمية والفقر والإيمان العميق بالخرافات وممارسة التقاليد الخاطئة ... هذا السؤال تشكل في مخيلتي وأنا أتابع قراءتي لهذا الكتاب القيم، الذي يتضمن اجابات متكئة على أرقام وبيانات ومؤشرات ومشاهدات لا يملك القارئ أن يتجاهلها بأي شكل من الأشكال، ففي (ستينيات القرن العشرين، كان ضربا من المستحيل أن تتمكن الهند حتى من بناء صاروخ فضائي، فضلا عن ذلك التنبؤ الخيالي بالصعود للقمر، فقد كانت مساحات شاسعة من الدولة تعيش فقرا مدقعا، وكان ثلثا البالغين فيها أميين، وكان الساسة الهنديون - ومعهم قادة الدول الأجنبية التي كانت الهند تعتمد عليها في الحصول على المساعدات الغذائية - يرون أن مسألة السفر إلى الفضاء ترف لا داعي له)، فما الذي تغير إذن ؟ لتفسير ذلك التحول الكبير ألقت الكاتبة (أنجيلا سايني) في الصفحات الأولى من كتابها الضوء على الجهد الكبير الذي أطلق شعاعه الزعيم الهندي جواهر لال نهرو قبل أكثر من نصف قرن كحلم في (تحويل الهند إلى أمة عقلانية علمية مملوءة بالخبراء العباقرة)، فكان ذلك الاشعاع بمثابة البذرة التي مهدت الطريق للنهضة العلمية الهندية التي تحقق أهدافها اليوم تدريجيا على يد عشرات الألاف من العلماء والمفكرين والباحثين والمهندسين والعباقرة الهنود، فمسار العلم طويل وشاق قبل أن تتحقق نتائجه في قيام نهضة علمية شاملة تشرق شمسها على الأمة، لقد كان نهرو على قناعة تامة بأن (العلم هو المفتاح الذي سيدير عجلة الحظ لمصلحة الهند) وكان على إيمان عميق بأن من (حق الهند أن تكون لها حركة التنوير الخاصة بها، تماما مثل أوروبا، لتقضي على هذا الوباء من الخرافات وتستبدله بالمنطق والفكر السليم). في عام 1960 أعلن نهرو في خطاب شهير، أن ( العلم وحده هو القادر على حل مشاكل الجوع والفقر، ونقص الصرف الصحي والأمية، ومشاكل الخرافات والعادات والتقاليد الخاطئة ... إن المستقبل للعلم ولمن يتخذون العلم صاحبا)، وتحقيقا لهذه الغاية فقد نص الدستور الهندي في إحدى مواده على أنه (يجب على كل مواطن هندي أن يشارك في تنمية الفكر العلمي)، وحرص نهرو على (إبقاء العلماء أمثال سرابهاي مقربين من الحكومة واستغلهم في بناء أول مختبر لأبحاث الفيزياء في الدولة، ومحطات الطاقة النووية وسدود الطاقة الكهرومائية ومصانع الحديد والصلب، بالإضافة إلى أنه وضع حجر الأساس لعشرات الجامعات الجديدة وكليات الهندسة لتدريب جحافل الخريجين الذين سيتحولون إلى مواطنين لطالما تمناهم مواطنين يستخدمون العقل والمنطق ويعشقون العلم ). وهنا يتمثل دور القيادات السياسية والزعامات الوطنية في تغيير مستقبل وواقع شعوبها واعتبارها المحرك الأساسي للنهضة العلمية التي تشهدها الهند. في مقدمة كتابها أفصحت الكاتبة عن غاية مشروعها المتمثل في اكتشاف (ما إذا كان بمقدور هذه الأمة أن تصبح قوة علمية عظمى تتنافس مع بقية دول العالم. أم أن الأمر مجرد ضجيج بلا طحين)؟ من مركز فيكرام سرابهاي لأبحاث الفضاء وهو (أضخم صرح علمي شيدته الحكومة لإجراء أبحاث عن طبقة الغلاف الجوي وما فوقها) إلى مكان ليس ببعيد عنه تجد الكاتبة (الكيميائيين الهنود ينتجون عقاقير تنقذ حياة البشر وتباع في أوروبا) فيما زملاء لهم في موقع آخر (يصلحون برمجيات الحاسوب للأميركيين) والأكثر إثارة للدهشة أن الأدمغة الهندية التي هاجرت إلى الغرب منذ السبعينيات مرورا بالعقود التي تلتها تعود مجددا مصحوبة بالأجيال الشابة لتحمل مسئولية خدمة بلادها و(الشركات متعددة الجنسيات التي عملوا فيها بالولايات المتحدة قد تبعتهم إلى هنا). أمام هذه المشاهد للمحفزات أو الجرعات الأولية التي تكتشفها الكاتبة تباعا وتقدمها لقرائها لم تكن الحصافة تنقصها للتعليق على ذلك النشاط العلمي المحموم والانتاج البحثي المتنوع بعبارات تمزج بين عدد من المتناقضات عن الواقع المعاش، التحديات والتطلعات، الممارسات الموروثة والروح الهندية الجديدة التي لا تنقصها الإرادة لاستعادة الأمجاد العلمية (إن هذا المكان المعزول، الذي يرزح تحت وطأة الفقر، ويعتمد على زراعة الشاي والقطن، قد بدأ يستعيد تراثه العلمي الذي ضاع منه منذ آلاف السنين). في كل زيارة ولقاء وسؤال موجه إلى عالم ومشاركة في فعالية وحضور لمحفل علمي كانت الكاتبة تكتشف المفاجآت وتقدم الاجابات عن (أمة العباقرة) ففي مركز (بهابها) للبحوث الذرية يعمل (5آلاف عالم ومهندس)، حيث (بقايا وفتات الطعام تتحول إلى غاز للطبخ باستخدام ميكروبات تتغذى على المادة)، وحققت ولاية كيرلا نسبة (مائة في المائة في محو الأمية وانتشار التعليم)، وتضمنت مجلة فورتشن قائمة بأسماء (500 شركة أميركية أنشأت مراكز لها في الهند). هذه النماذج والتجارب العلمية الناجحة التي تشهدها شعوب العالم والعوامل والدوافع والمحفزات العديدة تظل فرصة سانحة لنا في السلطنة لاستثمارها والاستفادة منها في قيادة نهضة علمية واقتصادية شاملة، فلا تنقصنا الموارد ولا الكفاءات متى ما توفرت الارادة.

[email protected]