ليس بخاف على ذي لب أهمية حقوق الإنسان، المادية منها والمعنوية، فالله اصطفاه من دون سائر المخلوقات، وفضله على كثير ممن خلق تفضيلا {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً }الإسراء70 وسخر له الكائنات ما في البر والبحر معا {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ }لقمان20 بل خلقه في أحسن هيئة وعلى أجمل منظر {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ }التين4 أسجد له الملائكة الكرام، تشريفا له وتفضيلا إن سلك المحجة البيضاء.
ــــــ
عُني العمانيون بجوانب حقوق الإنسان تنظيرا وتطبيقا، فالتنظير من خلال ما ألفوه من كتب على مختلف العصور، وأما التطبيق فمن خلال تعاقب الدول التي نشأت منذ عهد الإمام الجلندى بن مسعود عام 132هـ ثم دولة اليعاربة ثم الدولة البوسعيدية وما بين هذه الدول ممن تولى نظام الحكم في عمان.
التعمق في الحديث عن حقوق الإنسان جاء في وقت يعتدي فيه الإنسان على أخيه الإنسان، يستبيح دمه وماله وعرضه، ولا يوفر لحمه بقول وعمل.
إن المشاهد التي تعرضها الشاشات يوميا لتستصرخ العقلاء من هذه الأمة ومن سائر الأمم إلى التحاكم إلى وصايا الشريعة الإسلامية التي شددت أيما تشديد جراء انتهاك حقوق الإنسان، ومن المؤسف أن ينتهك المسلم حق أخيه المسلم، في الحياة، يتمثل ذلك في إزهاق روحه، كما يتعدى على ماله بالسلب والنهب والحرق والتدمير، تحت ذرائع شتى، ودعاوى ما أنزل الله بها من سلطان، يشهر سيف التكفير في وجه أخيه، لمجرد اختلاف في الرأي، وتباين في التفكير.
ويتعدى ذلك إلى استباحة دماء غير المسلمين الذين لا ناقة لهم ولاجمل في السياسة ومآسي المسلمين، فيتم الاعتداء عليهم لا لشيء إلا لأنهم على غير الإسلام.
إن أوضاع بعض المسلمين في مناطق مختلفة من العالم لا تسر بسبب ما يلاقيه المسلمون من ويلات العدوان على حق الحياة وسائر الحقوق من تشريد وطرد وإبعاد وتهجير.
لقد أنشأ العالم المنظمات الإقليمية والدولية التي تعتني بحقوق الإنسان وترصد تلك الانتهاكات، وهي تتوسع للأسف يوما بعد يوم.
إن تضامن الدول كافة والمنظمات الدولية والإقليمية والشعوب مما يساهم في ترسيخ الحقوق.

الحقوق العامة:
لم تغفل كتب التراث العماني من تعداد الحقوق العامة التي ينبغي أن تسود بين الناس، ولعلنا نختار ما ورد منها عند العلامة سلمة بن مسلم العوتبي ( ق5هـ) فقد أورد بعضا من هذه الحقوق العامة: ( ... أن يغفر ذنبه، ويرحم عبرته، ويقيل عثرته، ويستر عورته، ويرضى صحبته، ويحفظ خلته، ويعوده في مرضته، ويحضر موتته، ويشهد جنازته، ويجيب دعوته، ويقبل هديته، ويكافئ صلته، ويشكر نعمته، ويحسن نصرته، ويقضي حاجته، ويشفع مسألته، ويشمت عطسه، ويرد سلامه، ويرشد ضالته، ويطيب له كلامه، ويبدي إنعامه، ويتولاه، ولا يعاديه، وينصره ظالما أو مظلوما، ويحب له من الخير ما يحب لنفسه، ويكره له من الشر ما يكرهه لنفسه)
فمن حقوق المسلم أن يبش في وجهه إذا لقيه، وليس كما يقع من بعض الذين ينتسبون إلى التدين، يلقون الناس بوجوه مكفهرة عابسة، يتجنبون إلقاء السلام، وإذا سلم عليهم أحد لم يردوا عليه، وإذا عطس لا يشمتونه، وهذا مما يشوه الإسلام، ويرسم صورة قاتمة عن الإسلام وأهله.
إن الجفاء وعدم الابتسامة في وجوه الخلق، وتجنب البشاشة تحت ذرائع شتى منها ما يسمى بالابتداع أو التقصير في الدين هو مما ينفر عن الدين الإسلامي الحنيف، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يُرو عنه جفاء في الطبع، ولا غلظة في القول، ولا عبوسا مع الناس أيا كانوا مسلمين أو غير مسلمين، وصدق الله تعالى إذ يقول {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ }آل عمران159.
إن سوء الخلق وغلظة الطبع مما يتنافى مع أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ }فصلت34.
إن سوء الخلق يتنافى مع حقوق الناس العامة، ويصادم قول النبي صلى الله عليه وسلم ( وخالق الناس بخلق حسن) ومن عجائب الأمور أن يزعم شخص أنه على الاستقامة في الدين، وهو مائل عنها إلى غيرها، بسوء المسلك، وقبح التصرف.
قال تعالى {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ }آل عمران159
قال العلامة خميس بن سعيد الشقصي، وهو يتحدث عن بعض الحقوق ( ومن لعن رجلا أو قبحه أو دعاه بلقبه وهو يكرهه أو قال له: يا ساحر أو يا غادر أو يا خائن أو يا حمار أو يا كلب أو يا سارق أو يا منافق ... ففي كل هذا التعزير)
قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }الحجرات11
حق الحيــــاة:
إن هذا الحق هو مما تم التأكيد عليه في كتاب الله تعالى، فلا يجوز إزهاق الأرواح، ولا قتل الأنفس البريئة بغض النظر عن اللون والجنس والعرق والدين والفكر، قال الله تعالى {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ }المائدة32 بل حرم الإسلام الوأد، الذي كان معروفا عند بعض قبائل العرب بالنسبة للبنات {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ }التكوير9.
بلغ من عناية الإسلام بهذا الحق أن توعد منتهكه بقوله تعالى {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً }النساء93
قال العلامة أبو الحسن البسيوي ( ق4هـ) سأل عما انتحل الخوارج من الهجرة، واستحلوا قتل أهل القبلة من غير حدث، وسبائهم وتسميتهم بالشرك؟
أجاب البسيوي: ( القائل بذلك من الخوارج ضال عن سواء السبيل، فأما الهجرة، فالاتفاق من السلف أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد الفتح قال: ( لا هجرة بعد الفتح) أو قال ( بعد اليوم) وقد كان بعد ذلك يدخلون في دين الله أفواجا، ويرجعون إلى بلادهم، ويُسمون مسلمين، ولهم الولاية والمودة، وعليهم النصر.
وقد كان يقبل الإسلام ممن يأتيه، وممن خرج إليه فأسلم أو صالح أو أعطى جزية من أهل ذمة قبل منه، وأقره في بلاده وعلى دينه، فذلك ما يبطل قولهم في الهجرة بعد الفتح... وأما تسميتهم ( أي تسمية الخوارج مخالفيهم) بالشرك فذلك خطأ عظيم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها) فهذا ما يبطل قولهم في الهجرة، وفي تحليل أموال أهل القبلة... لأن الله حرم قتل الأنفس التي حرمها، وأوجب النار لقاتل المؤمن متعمدا)
وواضح من النص السابق للعلامة أبي الحسن البسيوي أن حق الحياة لا يجوز الاعتداء عليه بغير مبرر شرعي، وأن هذا الحق مكفول في الشريعة الإسلامية بالنسبة للمسلم وغير المسلم.
وورد في كتاب جامع أبي الحسن البسيوي عن دماء أهل القبلة ما يحل وما يحرم؟ فكان الجواب: ( لا يحل من دماء أهل القبلة شيء بعد إقرارهم بالإسلام... وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ( إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم) وقد حرم الله قتل النفس التي حرمها إلا بالحق {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً }الإسراء33 ( فدماء المسلمين والمعاهدين وأهل الذمة ومن دخل بأمان حرام إلا من أحدث حدثا أُخذ به، وحكم عليه بحكمه)
وورد في كتاب المصنف للعلامة محمد بن إبراهيم الكندي (ق6هـ) ( لا محاباة في الحقوق، ولا نأخذ أحدا في شبهة، ولا ميلولة في هوى، ولا نخيف آمنا، ولا نقطع سبيلا، ولا ننبه نائما أقر بالعدل من مرقده، ولا نقطع رحما، ولا ننقض عهدا، ولا نهايج الناس إلا بعد البغي والامتناع، ولا نعرض الناس بالقتل من غير دعوة، ولا نغتنم العثرة، ولا نأخذ بظن، ولا تهمة، ولا نبيت الناس في منازلهم، ولا نقتل موليا، ولا يجبر الناس على القتال)
ولعل هذه الوثيقة أبلغ من المواثيق الدولية الصادرة عن منظمات حقوق الإنسان، بل بلغ من الحفاظ على حقوق الإنسان الاعتناء بأمنه النفسي المعنوي، وليس فقط الاهتمام بأمنه الحسي بعدم جواز تصفيته جسديا، فقد ورد في الحديث الصحيح قول النبي صلى الله عليه وسلم ( من روع مسلما روعه الله يوم القيامة) فالأمن النفسي من الحقوق التي ينبغي حفظها وحمايتها، فكيف إن كان الاعتداء على جسده، فتم إزهاق روحه أو التسبب في جرحه.
إن حق عدم الاعتداء ليس فقط محصورا على الموافق في الدين، بل يشمل حق عدم الاعتداء على المخالف في الدين ما لم يبغ أو يعتد، قال الله تعالى {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }الممتحنة8 وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ( من قتل معاهدا لم يجد ريح الجنة، وإن ريحها يوجد من مسيرة خمسمئة عام ) . حق الإنسانية أن تنعم بالأمن والسلام إلا أن يكون لصد عدوان، فذلك كفلته الشرائع السماوية، وأقرته حقا المنظمات الدولية.
الكنائس لا تهدم ، والراهب لا يقتل ما لم يكن داعية حرب أو كان محرضا أو داعما أو مشاركا، والعهدة العمرية خير شاهد، فقد دخل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب القدس الشريف، فلم يكن منه أمر إبادة ساكنيها من النصارى، بل سلموا مفاتيحها للخليفة الراشد، بل أبى الخليفة العادل الصلاة في الكنيسة، مخافة أن يأتي من بعده قوم مسلمون، فيزعمون انتفاء الكنيسة وحلول المسجد بدلا عنها، لأن أمير المؤمنين صلى بها، ولذلك بقيت كنيستا المهد والقيامة إلى يومنا هذا.
لم تعرف في قاموسهم محاكم التفتيش ولا حرب الإبادة، ولا سياسة الأرض المحروقة، بل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ }البقرة208 فما عرف العالم فاتحا أرحم من المسلمين .
وقد روي عن الإمام جابر بن زيد قوله:( كبيرتان كبيرتان إلى النار الدم والمال) أي أن قتل الناس والاعتداء على حق الحياة هو مؤدي إلى النار، لقوله تعالى {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً }النساء93
وكان جابر بن زيد يحاور الخوارج، لعله يقنعهم بالإقلاع عن التشدد، ومما ورد في ذلك قوله لهم عند استحلالهم أموال وذراري أهل القبلة: (أليس قد حرم الله دماء المسلمين بدين ؟ فيقولون نعم، فيقول لهم وحرم الله البراءة منهم بدين ؟ فيقولون نعم، فيقول هل أحل ما بعد هذا بدين ؟ فيسكتون)( ). وقد عرف عن الربيع بن حبيب قوله في الخوارج:( دعوهم حتى يتجاوزوا القول إلى الفعل، فإن بقوا على قولهم فخطؤهم محمول عليهم) ( ). فإذا ما تاب المكفر برجوعه عن تكفير الناس، فإنهم يشترطون عليه أن يذهب إلى القوم الذين أضلهم بدعوته التكفيرية، ويبين لهم خطأ ما دعاهم إليه.
ومن الأمثلة على ذلك أن هلال بن عطية الخرساني(ت134هـ) على مذهب الصفرية، ثم ترك ذلك المذهب، واعتنق مذهب الإباضية، فلما أراد الانضواء تحت راية الإمام في عمان الجلندى بن مسعود اشترطوا عليه أن يرجع إلى من دعاهم إلى مذهب الخوارج، ويبين لهم ضلال تلك المبادئ التكفيرية، فلما فعل جعله الإمام الجلندى بن مسعود قائداً لجيوشه.
إن مصادرة حق الحياة بغير حق هو جرم لا ترتضيه الشريعة الإسلامية الغراء.
قال الله تعالى {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ }المائدة32
لم يزل فقهاء أهل عمان يؤكدون على أن حقوق الناس مصانة، الدماء ( حق الحياة) والأعراض والأموال، قال العلامة أبو الحسن البسيوي (ق4هـ) : ( والمسلمون لا يعترضون الناس، ولا يقتلونهم بغير حق، ولا يلعنونهم، ولا يبرأون منهم وهم يقرون بالحكم، ويرضون به، ولا يقاتلون قوما حتى يدعوهم إلى الإسلام، ولا يأخذون بشبهة، ولا ميلولة في هوى، ولا حد في شبهة، ولا يخيفون آمنا، ولا يقطعون رحما، ولا ينقضون عهدا، ولا يقاتلون الناس إلا بعد البغي والامتناع، ولا يعترضون الناس بالقتل من غير دعوة، ولا يغتنمون العثرة، ولا يأخذون بظن، ولا بشبهة، ولا يتجسسون العورة، ولا يبيتون الناس في منازلهم، ولا ينبهون نائما، ولا يقتلون موليا، ولا يجبرون الناس على قتال، ولا نسير سيرة نعتذر عنها، ولا ندين بالشك والارتياب، ولا نغنم مال أهل القبلة، ولا نسبي عيالهم، ولا نهدم أموالهم، ولا نقطع نخلهم، ولا نخرب عامرا، ولا نقطع مثمرا، ولا نرد التوبة على أهلها، ولا ندخل البيوت بغير إذن أهلها، ولا نخيف الناس بعد الأمان، ولا نضرب الناس على التهم والظنون، ولا نلقى الناس بوجوه كدرة، ولا بنيات مختلفة، ولا بقلوب فاسدة، ولا يقذف بعضنا بعضا بالمكفرات... ولا نجبي صافية ولا جزية حتى نكون حكاما، ونمنع من جنبنا من الظلم والعدوان، ونملك بلانا وأمصارنا، وبرنا وبحرنا، ولا نسأل الناس من أموالهم، ونحن الحكام عليهم، ... ولا نجبي جباية من لم يجر فيه حكمنا، ولا نتبع مدبرا نقتله ممن لم يقتل لنا قتيلا، ولا ينصب لنا حربا، فهذه آراؤنا، وهذه سيرتنا التي مضى عليها العلماء ثابتة من أئمتنا وأسلافنا)
واضح من النص السابق أن هذه الحقوق لا مساس بها، وأن الناس فيها سواسية بغض النظر عن اللون والعرق والقومية والفكر والدين بشرط أن لا ينقض أحد عهدا، ولا يتجاوز حدا، ولا يخفى أن البسيوي أكد أنه إذا ما وقع قتال فإنه لا بد من مراعاة الحقوق أيضا، فلا مبالغة في سفك الدم بعد التمكن من الخصم، ولا إتباع لمدبر ما لم يتوقع منه معاودة قتال أو اللجوء إلى معقل ينطلق منه ليتخذه مرصدا ضد المسلمين، ولا إجهاز على جريح مثخن، بل الإحسان إليه أولى.
كما ورد في النص أن لا هدم للدور بلا داع، لأن المقصود ردع المعتدي لا التشفي والاستئصال، وأنه لا عقر ولا قطع لنخل ولا حرق لثمار، لأن ذلك أشبه بممارسة سياسة الأرض المحروقة، بل ورد في النص أنه ليس لولي الأمر جباية الزكوات وهو عاجز عن حماية الأمة، وبسط الأمن فيها.
حرمة التعدي على أموال الناس ولو كانوا بغاة
إن كتب التراث العماني تضم كما كبيرا من الوصايا التي تشدد على ضرورة عدم انتهاك الأموال ولو كانت أموال بغاة، لأن مال الباغي ولو كان سلاحا لا يغنم، وإنما مرده إلى ورثة الباغي إن هلك، ومن ذلك:
رفض الإمام الجلندى بن مسعود تسليم ميراث شيبان للخليفة العباسي
وتتلخص القصة أن شيبان الصفري قدم عمان، هاربا من جيش السفاح العباسي، الذي يقوده خازم بن خزيمة، فلما وصل يطلب قتل شيبان، وجد أن الإمام الجلندى بن مسعود ( ت134هـ) قد أبى نزول شيبان أرض عمان، وهو يدين بتكفير من خالفه، ولكن شيبان أبى الرحيل، فوقع القتال، وقتل العمانيون شيبان، وخلف شيئا من المال، فقال خازم قد كنت أطلب شيبان ولكن كفيتمونا أمره، ثم إني أطلب ما تركه شيبان، إلا أن الإمام الجلندى أبى تلبية طلب خازم، ذلك أن العمانيين لم يقاتلوا شيبان على أنه خارج عن الإسلام، بل هو باغ، ومال الباغي لا يحل، بل يؤول لورثته، لكن شيبان أصر أيما إصرار على طلبه، استشار الجلندى علماء زمانه ـ وهو منهم ـ ومنهم هلال بن عطية الخراساني وشبيب بن عطية العماني وخلف بن زياد البحراني، ويبدو أنهم خافوا على دولتهم الناشئة من الانهيار على يد جيش السفاح، فأشاروا إلى الإمام بأن يسلم ما تركه شيبان إلى خازم، وما يرضيه من المال، على أن يضمن العمانيون ويدفعوا قيمة ما تركه شيبان من بيت المال، فوافق الجلندى بن مسعود
قال العلامة نور الدين السالمي:
ومال أهل البغي لا يحل وإن يكن قوم له استحلوا
خوارج ضلت فصارت مارقة من دينها صفرية أزارقة
فعرضوا للناس بالسيف كما قد استحلوا المال منهم مغنما
وأمة المختار فارقتهم وضللتهم وفسقتهم
ثم بين السالمي أن الصحابة لم يستحلوا غنائم مسلم، فقال:
ولم يكن غنم بيوم الجمل ويوم صفين وسبي من علي
كذاك يوم الدار أيضا لم يكن سبي ولا غنم فكيف يقبلن
فعلهم الحجة فيما فعلوا ونقلهم له فيما قد نقلوا
الإمام سعيد بن عبد الله الرحيلي يحذر من انتهاك أموال الباغي
ولي أمر عمان بعد اختياره من أهل الحل والعقد عام 320هـ، وقال العلامة أبو المؤثر في شأنه: لا أعلم أحدا من أئمة المسلمين أفضل من سعيد بن عبد الله الرحيلي إلا أن يكون الإمام الجلندى بن مسعود تعرضت عمان في عهده لغزو من قبل يوسف بن وجيه، فقاتله العمانيون قتال من بغى عليهم، بلا غنم مال، ولا سبي ذرية، ووقع أن قطعة صغيرة مما تعلق بباب من الأبواب الخاصة بالجيش الغازي تعرضت للأخذ، فعاقب الإمام سعيد بن عبدالله الرحيلي من قام بذلك من أصحابه، ثم كتب ليوسف بن وجيه رسالة، جاء فيها: ( من الإمام سعيد بن عبد الله ومن قبله من المسلمين إلى يوسف بن وجيه وإن في شأننا وشأنك لعجب، لحلقة حديد في رز ( قفل) باب اتهم بها رجل من الرعية عندنا أنه قلعها من معسكر أصحابك بنزوى، فحبسنا الذي اتهم بها، لأنا نستحل حبس أهل التهم على قدر استحقاقهم في حكم المسلمين، وقلنا للناس جهرا على رؤوس الملأ: إن أموال أهل القبلة علينا حرام كحرمة أموالنا على بعضنا بعض، وحجرنا على الناس التعرض لأشيائكم، ما دق منها وجل، حتى قال من لا علم له بأصول دين المسلمين: إنكم الآن حفظة للجند على أموالهم، ومن ذلك أن الحبوب التي جمعت من الأمصار التي استولينا عليها، وجرى عليها حكمنا، لما علم الناس منا أنا لا نستحل شيئا، ولا نقار أحدا على معصية الله كائنا ما كان من الناس، منعهم ذلك من التعرض لأشيائكم كلها، التي كانت في جوارنا من بلداننا، ولولا خوف العقوبة منا لانتهب ذلك بأيسر مؤونة، ولم يكن ذلك تقربا إليك، ولا ابتغاء وسيلة منا إليك، ولكنا اتبعنا في ذلك كتاب الله وآثار أسلافنا)
إن هذا النص حري بطلاب الشهادات والدراسات العليا أن ينقبوا فيه، ليستخرجوا منه القواعد والأصول الشرعية في كيفية تعامل المسلمين مع بعضهم، وفي كيفية تعامل المسلم الموفي مع المسلم الباغي.
إن هذا النص لو قدر له العناية لبان من خلاله فن التعامل خلال السلم والحرب مع الحبيب والبغيض مع القريب والبعيد، فأموال الناس كافة مصانة، ولا يجوز من الباغي إلا قتاله فإن قُتل فإنه لا سبيل إلى ما خلفه وتركه ولو كان سلاحا خفيفا.
إن هذا النص مادة دسمة للحقوقيين والقانونيين والشرعيين ليستخرجوا منها تلك المواثيق المتعلقة بحقوق الإنسان.
ما أحوجنا إلى هذه الحقوق ونحن نرى ونسمع فتاوى استحلال الدماء، وغُنم أموال الناس، وانتهاك أعراضهم بعد سفك دمائهم.
ما أحوج الأمة إلى دراسة ذلك النص ونحن نشهد كثيرا من موجات التكفير والقتل وسفك الدماء بناء على اختلاف فكري ومذهبي داخل الدائرة الإسلامية.
لم يزل الإمام سعيد بن عبد الله الرحيلي يخط ببنانه دررا من عهده ورسالته إلى يوسف بن وجيه الغازي أرض عمان، يبين له فيها عزمه على قتاله ودفع بغيه، ولكن يؤكد له أن ماله وعرضه لا اعتداء عليه، وأن من يغنم ماله إذا تمكن منه فهو مخالف للشرع الشريف، وأن الإمام آخذه بفعله ( وحاربناك محاربة المسلمين لأهل البغي، حتى تفيء لأمر الله، لا نهاية لذلك عندنا، أو تفنى أرواحنا أو روحك على إحياء الحق، وإماتة الباطل إن شاء الله، ولا نستحل منك مالا، ولا ننسف لك دارا، ولا نعقر لك نخلا، ولا نعضد لك شجرا، ولا نستحل منك حراما، ولا نجهز على جريح، ولا نقتل موليا، ولا نقتل مستأمنا، ولا نغنم ماله، ولا ندع أحدا يتعدى عليه بنفس ولا مال، فإن فعل ذلك أحد بأحد أخذنا له الحق إذا صح معنا، ومن كان في يده مال فهو أولى بما في يده، لأنا لا نزيل مالا إلا بحجة)
إن مما ابتليت به الأمة الإسلامية اليوم بل والإنسانية استحلال الدماء والأموال، وقد روى الإمام الربيع في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من اقتطع حق مسلم حرم الله عليه الجنة، وأوجب له النار، قالوا له ولو كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟ قال: ولو كان قضيبا من أراك)
لقد حفلت كتب الفقه بمجموعة من القصص حول حفظ حقوق الناس في السلم والحرب، ومن ذلك أن الإمام طالب الحق عبد الله بن يحيى الكندي عام 128هـ تمكن من اليمن فاستخلصها من ولاة بني أمية، فوجد الخزائن مملوءة بالأموال المأخوذة عن أهل اليمن، فحبس ولاة بني أمية عمر بن القاسم الثقفي وإبراهيم بن جبلة، وقال لهما: حبستكما خوفا عليكما من العامة، فإن شئتما فأقيما أو ارحلا، فاختارا الرحيل، وزودهما براحلة وماء، فهو لم ينصب أعواد المشانق، ولم تنسه نشوة النصر والغلبة الحقوق الشرعية، بل التزم سياسة العفو عند المقدرة.
إن ما يراه المسلم اليوم من مشاهد مروعة عند التمكن من الخصم والاعتداء على الأسرى هو مما تقشعر له الأبدان، ويشوه صورة الإسلام.
أقبل الإمام طالب الحق عبد الله بن يحيى الكندي على الخزائن وما فيها من أموال مأخوذة قهرا من سكان اليمن بواسطة ولاة بني أمية، فمنع أصحابه أن يأخذوا منها شيئا، بل وزع تلك الأموال بين أهالي اليمن، وصف العلامة نور الدين السالمي ذلك بقوله:
وطالب الحق بصنعا حكما
بجعلها في أهلها واحتشما
لم يأخذن عند مضيق يومه
شيئا لنفسه ولا لقومه
تعففا منهم ومن كمثلهم
أكرم بهم من عصبة أكرم بهم
كانوا يموتون على ما أبصروا
من الهدى ما بدلوا وغيروا
إن حقوق الناس مكفولة في السلم والحرب سواء أكان المحارب باغيا أو كان غير مسلم أو مرتد، وقد استخرج الدكتور محمود هرموش من كتب الفقه الإباضي قاعدة ذهبية وهي: الكفر لا يبطل الحقوق، وأورد اختلاف فقهاء الإباضية فيمن ارتد عن الإسلام هل تسقط حقوقه عند الناس أو باقية عليه، فأبو معاوية عزان بن الصقر يرى بقاء الحقوق ولو ارتد، قال أبو معاوية عزان بن الصغر: ( حقه باق عليهم، وحقوقهم لا تزول بكفره) بينما يرى أبو المؤثر الصلت بن خميس الخروصي أنه بردته ليس له تلك الحقوق، بل يسقط ما له من حقوق عند الناس بردته ( وإن رجع إلى الإسلام عادت الحقوق إليه كما كانت)
قال الدكتور محمود هرموش بعد أن أورد الرأيين المختلفين في مسألة سقوط حقوق المرتد ( وأما الديون الحالة أو المؤجلة فهذه لا تسقط باختلاف الدين، ولا باختلاف الدار)
ج) الإمام أبو الخطاب المعافري يمنع أصحابه من الاعتداء على الأموال
أقام أبو الإمام أبو الخطاب عبد الأعلى المعافري الدولة في طرابلس الغرب ( ليبيا) عام 140هـ ، وخلال تلك الفترة استغاثت به امرأة من القيروان، فقاد جيشا لنصرتها، ولم يغفل أن ينبه جيشه إلى التخلص من حقوق العباد بأدائها، فقال أنا ضامن لمن مات في غزوتنا هذه الجنة إلا من كانت معه إحدى ثلاث خصال: قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق أو من كان على فراش حرام أو كانت في يده أرض غصب، وله منها مخرج
واضح أن أبا الخطاب يشدد أيما تشديد على حقوق منها حق الحياة، فلا اعتداء على الأنفس، كما يشدد على حق حفظ الأعراض، وكذلك حق حفظ أموال الغير، وعدم جواز التعدي عليها.
دخل أبو الخطاب المدينة متغلبا على محاربيه ولكنه أوصى أصحابه ألا يفسدوا زرعا، وصادف أن بعث والد ولده بعد انجلاء المعركة وانتصار أبي الخطاب المعافري إلى مزرعته قائلا لولده: اذهب وانظر إن كان قد بقي في مزرعتنا شيء، فخرج الغلام إلى المزرعة، فوجدها كأن شيئا لم يكن، الثمار والزرع كما كان قبل دخول جيش أبي الخطاب، فتعجب الناس من عدل أبي الخطاب، وحفظه الحقوق في السلم والحرب معا، فالحرب ظرف استثنائي ولكن لا يعني ذلك انتهاك الحقوق والاعتداء على القيم الإنسانية.
خرج الناس بعد انجلاء المعركة، وتفقدوا القتلى، فوجدوهم بثيابهم وأمتعتهم كأن لم يكن شيئا أي كأنهم رقود، فسمي ذلك المكان إلى اليوم رقادة.
وجد الإمام أبو الخطاب قتيلا واحدا مسلوبا، فنادى مناد من عسكره من أخذ منكم من القتلى شيئا فليرده، فلما آيس أبو الخطاب منهم أمر أن يركبوا خيولهم، ويجروا بها، فإذ بالمسلوب يقع من فرس أحد الجند، فيعزره الإمام على ذلك.
إن أبا الخطاب المعافري لم يغنم أموال موحد، ولم يجز لأصحابه أخذ خيط أو مخيط منها، لأن الحقوق يجب أن تسود حال الحرب والسلم، وحال الرضا والغضب معا.
نهى المعافري عن إتباع المدبر والإجهاز على الجرحى، فقال رجل من عسكر أبي الخطاب نأكل من أموالهم كفعلهم بأموالنا؟ فرد عليه أبو الخطاب : إن فعلنا كما فعلوا فحقيق على الله أن يرفضنا، ويدخلنا معهم جنهم فنكون كما قال الله تعالى { كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَـؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَـكِن لاَّ تَعْلَمُونَ }الأعراف38 ثم لجأ ذلك الرجل الذي عزره المعافري إلى أبي جعفر المنصور، وأجلب على أبي الخطاب بخيله ورجله، وحرض أبا جعفر المنصور لغزو أبي الخطاب
حقوق العمل والعمال والسجناء
العمال هم الطبقة الكادحة في المجتمع، ولكن كثيرا من الناس لا يلتفتون إلى هؤلاء العمال وحجم البناء والعمارة التي يقومون بها، مع تناسيهم قول النبي صلى الله عليه وسلم ( اعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه) تناول الفقهاء الحديث عن حقوق العمل والعمال، ومما ورد عن الإمام غسان بن عبد الله اليحمدي ( ت207هـ) الذي انتخبه العمانيون ولي أمر لعمان، وهو معدود من أفضل أئمتهم عدلا واستقامة أنه قال: عدلنا في الرعية إلا في عبيد الباطنة، ذلك أن الإمام ذكر العدل ووجوب سيادته بين الرعية، فذكر ما اعتاد عليه أهل منطقة الباطنة من استعمال عبيدهم للعمل بالليل، للضرورة الداعية إلى ذلك، مع منح أولئك مقابل عمل الليل راحة بالنهار بعد الاتفاق بين الطرفين، وقد رخص بعض الفقهاء في ذلك، بينما رأى الإمام غسان بن عبد الله التشديد في ذلك .
إن كثيرا من المؤسسات والشركات خلال تنفيذ أعمال شاقة كإنشاء شبكة طرق معقدة أو القيام ببناء مشاريع تنموية ضخمة تتفق مع العمال إن أقبل صيف حار على أن يعمل العمال فترة أطول بالليل ثم تمنح العمال فترة راحة أطول بالنهار، وهذا من باب الحرص على العمال، وليس من باب التعدي على حقوقهم.
أما عن حقوق المساجين ، فقد أورد الشقصي فقرات عن مواصفات وأماكن الحبس كالحبس في بئر أو فضاء ثم أكد أنه لم يرد في ذلك نص، بل هو مجرد اجتهاد ونظر، وهذا يعني اختلاف مواضع السجن باختلاف الأحوال والظروف والعصور، ليكون الحبس ملائما لحقوق المساجين، خاليا مما فيه امتهان للكرامة أو يسبب أذى لبدن السجين، قال العلامة الشقصي ( والذي يوجبه النظر مني أن يكون الحبس فيه مكان للخلاء، وموضع للصلاة خصوصا إذا كان في الحبس أكثر من واحد، لأنه ليس من العدل إظهار العورات عند أحد من الناس غير الزوجين... أو علة تحتاج إلى نظر طبيب عند الاضطرار إلى ذلك، فينبغي أن يكون السجن على هذا السبيل، ولا ضرر ولا ضرار في الإسلام)
شددت كتب التراث العمانية على وجوب توفر الحقوق للسجناء، ومن هذه الحقوق وجوب أن يكون السجان أمينا ثقة مع ضرورة كتابة تاريخ الحبس، ومعرفة ذنب المحبوس والجناية التي فعلها( لئلا يغيب عليه حكمه) وأشار الشقصي إلى أن الوالي إن لم يجد ثقة عدلا يقوم على أمر السجون والمساجين فلا أقل من أن يجعل عليهم مأمونا، لا يفعل شيئا غير ما أُمر به، ولا يتعدى قول الوالي فيما يأمره به، وفيما ينهاه عنه.
إن ذلك التشديد في شأن المشرفين على السجون والمساجين أرادوا به حفظ حقوق المساجين، مخافة تعدي القائمين عليها على المساجين بسوء المعاملة من تعنيف أو ضرب أو منع طعام أو شراب أو حرمان حقوق طبيعية كنوم وزيارة قريب أو صديق ولا شك أن التشديد على سلوكيات السجان وضرورة انتقائه واختبار مواصفاته ووجوب التأكد من أخلاقياته هو مما تؤكد عليه منظمات الحقوق الإقليمية والدولية.
إن نزاهة السجان مهمة جدا، خاصة إن تعذر العثور على سجانات للسجينات في الأزمنة الغابرة، فللنساء خصوصياتهن.
عرج الشقصي في حديثه عن حقوق المساجين إلى الحديث عمن أحدث في السجن من المحبوسين ثقبا كمحاولة منه للهرب، فقال إنه يعاقب، وأما تغريمه فيمكن أيضا إن تم التيقن أنه هو الذي أحدث ذلك الخلل في السجن.
ونص الشقصي أيضا على أنه ينبغي للحاكم أن يتعاهد أهل السجن بالمتابعة، ويرسل إليهم من ينظر في أحوالهم، لعلهم يحتاجون طعاما أو دواء، ولم يغفل الحديث عما يعتري السجين من مرض شديد، فقد قال إن الحاكم ينظر في ذلك، فيمكن أن يخرجه من السجن مع كفالة أحد له، يضمن عدم هروبه وهذا إن كان ذلك الحق لله
إن تلك الحقوق من علاج وغيره تتكفل به حاليا الدول، وتوجد بالسجون عيادات ومراكز صحية تنظر فيما يتعلق بصحة المساجين.
وتطرق الفقهاء إلى مسألة عدم وجود عائل لأقارب السجين، فبعض يرى أن يطلق سراحه بقدر التكسب بشرط عدم تمكنه من الهرب، وقيل يمكن للحاكم أن ينفق عليه وعلى عياله من بيت مال المسلمين.
لا شك أن الدولة حاليا تتكفل بتوفير احتياجات السجناء من غذاء ودواء وكساء، وأما من يعيلهم فإنهم أيضا تتولى أمرهم الدولة عن طريق المسح الاجتماعي الذي يتبين من خلاله عدد أفراد الأسرة والحالة الاجتماعية، ثم يتم تقدير مبلغ من المال من جهة وزارات تختص بالأعمال المتعلقة بالأمور الاجتماعية.
إن هذه الحقوق التي أكد عليها الفقهاء هي عين ما تطالب بتوفيره لجان حقوق الإنسان الإقليمية والدولية من حيث المكان الملائم كتوفر التهوية أو عدم ضيق المكان وتوفير مكان يقي حر الصيف وبرد الشتاء، فالسجين مهما كان جرمه له حقوق لا يجوز تعديها.
نص العلامة الشقصي على عدم جواز التعذيب بالجوع والعطش، وهو أمر تؤكده منظمات حقوق الإنسان الإقليمية والدولية، لأن تمكن الجوع والعطش الشديد من المتهم قد يجعله يقر على نفسه بشيء لم يرتكبه رغبة في شربة ماء أو لقمة غذاء، ويمكن أن يقاس على هذا منع التجويع والتعطيش سائر العقوبات التي فيها من انتهاكات حقوق الإنسان ما لا يطاق.
خلاصة القول في مسألة حقوق المساجين ما ورد عن الإمام الوارث بن كعب الخروصي ( ت292هـ) أنه قد استحق عدد من الناس السجن، فوضعهم في مكان لم يتصور أن يلحقهم فيه أذى، إلا أنه في يوم من الأيام حل بعمان سيل جارف، فارتفع منسوب المياه، فهددت سلامة السجناء، ولما عجز الناس عن إطلاق سراحهم، قال الإمام الوارث بن كعب الخروصي: رعيتي أمانتي، فتوجه إليهم لعل وعسى يتمكن من إنقاذهم ولكن سبق القضاء، فحملت الأودية الإمام الوارث بن كعب الخروصي ومعه المساجين، فلما توقفت السيول وجد الناس جثة الإمام على ضفة الوادي ، فدفن الإمام حيث وجد.
الحقوق المتبادلة بين الراعي والرعية
تطرق العلماء إلى الحديث عن الحقوق المتبادلة بين الراعي والرعية، يلزم الطرفان أن يلتزما بها، فعلى ولي الأمر العدل بين الرعية في جميع أحواله ومع جميع رعيته مسلمين وغير مسلمين، وأن يحرس بيضتهم، ويذود عنهم، ويدفع الخطر، وعليه أن يؤدي أمانته، وأن يكون متواضعا للرعية، وليس له أن يحتجب عنهم في وقت لا بد منه ( وأن يتعاهد رعيته، ولا يغفل عنهم ... فإن لم يفعل فهو مقصر... ويفتح لهم بابه، ويباشر أمرهم بنفسه، فإنه رجل منهم، غير أنه أثقل منهم حملا).
ورد من سيرة الإمام سلطان بن سيف اليعربي، الذي تم انتخابه عام 1050هـ ( ... كثرت الفقهاء، واعتمرت عمان في دولته، واستراحت الرعية، وزهرت البلاد بحسن السيرة، ورخصت الأسعار، وصلحت الأثمار، كان متواضعا لرعيته، ولم يكن محتجبا عنهم، وكان يخرج في الطرق بغير عسكر، ويجلس مع الناس، ويحدثهم ويسلم على الكبير والصغير ولم يزل قائما مشمرا ).
نص الفقهاء على ضرورة المساواة بين الرعية فهي من الحقوق التي يجب مراعاتها، كما نصوا على ضرورة الشورى، ويستنتج مما ذكره العلامة خميس بن سعيد الشقصي في منهج الطالبين وبلاغ الراغبين أن نتائج الشورى تصير ملزمة، الأخذ بها واجب.
وتحدث الفقهاء عن ضرورة نشر الأمن بين الرعية، فإن عجز ولي الأمر عن إرساء الأمن والاستقرار بين أفراد الرعية، وعجز عن حماية أمته فإنه لا يحق له جباية الزكاة ولا جمع الصدقات من الأمة.
ولمزيد من ترسيخ حقوق الرعية فإنه على الراعي أن يتعهد العمال والولاة، يتفقد أحوالهم، وينظر في أمرهم، فإن وجدهم أحسنوا السيرة في الرعية أعانهم، وإن وجدهم على غير ذلك عزلهم، ويعين لرعيته الأمناء.
كتب الإمام ناصر بن مرشد اليعربي (ت1050هـ) إلى عامله على لوى وسائر بلدان الباطنة علي بن أحمد بن عثمان النزوي ( ... تعمل فيهم بكتاب الله المستبين، وتحي فيهم سنة النبي الأمين، وآثار الأئمة المهتدين، وسيرة القادة المخلصين... وأن توالي في الله، وأن تعادي فيه، ... وأن تخلط الشدة باللين، وأن تخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين، وأن تعرف لكل امرئ حقه وتوفيه إياه كاملا، وتؤتي ذي القربى حقه والمسكين وابن السبيل... فالله الله يا أبا الحسن في اقتراف الحسنات، وإنكار المنكرات بغير تجاوز منك إلى غير واجب أوجبه الله في الجد والتشمير وترك التهاون والتقصير، وأن تجتهد كل الجهد في إصلاح أهل ولايتك، وإصلاح أفلاجهم وعمارة مساجدهم، والصفح عن مسيئهم، والتجاوز عن سيآتهم ما وسعك من ذلك فالله الله يا أبا الحسن في التفحص في فقيرهم وضعيفهم من جميع أماكن ولايتك لتساويهم من مال الله ما وسعك من ذلك، ولا تدعهم يتعسفون إليك من السغب والعري واجعل لهم أعوانا من إخوانك ليتفحصوا عنهم فإن كثيرا من الفقراء يقصر عن المجيء إليك حياء أو ضعفا، فيقف عنك، وهو في ضرر عظيم من شدة فقره وفاقته... وقد جعلت لك أن تنفق على الشراة ... من مال المسلمين على قدر ما تراه عدلا... وجعلت لك إطعام الضيف النازل على قدر ما تراه عدلا من مال المسلمين، وجعلت لك حبس من يجب حبسه من أهل الأحداث والحقوق على ما تراه عدلا مما حفظته من آثار المسلمين، ولا تأتمن على ما ائتمنتك عليه من أمانتي التي أنا أمين الله فيها إلا من هو حقيق بذلك في دين المسلمين، وقد جعلت لك حماية البلاد والذب عنها عن الحريم والعباد، وألزمت جميع أهل القرى طاعتك، وحجرت عليهم معصيتك ما أطعت الله ورسوله فيهم وقمت بما شرطته عليك في عهدي، فإن خالفت إلى غير ما أمرتك به فأنا ومال المسلمين بريئان منك، وأنت المأخوذ به في نفسك ومالك، واعلم أنه لا أثرة عندي لظالم، ولا حيف عندي لمسلم، بل إرادتي إعزاز دين الله).
أكد الإمام ناصر بن مرشد اليعربي في وصيته وعهده لواليه بضرورة مراعاة حقوق الرعية، فإن انحرف فإنه سيأخذه بذلك دون محاباة أو مجاملة، ولن يقبل فيه شفاعة.
إن هذه الحقوق متبادلة لذلك لزم على الرعية أيضا أن تسمع للراعي وتطيع فيما ليس فيه مخالفة شرعي، ولا يصح خذلان ولي الأمر، بل وجبت نصرته، وحرم خذلانه، وإن دعا الرعية لقتال ودفع وجب عليها النفير معه.
ومن حق الراعي أيضا أن تشير إليه الرعية بلا غش أو تزيين لمنكر.
قال العلامة الشقصي: ( وينبغي للرعية أن يكرموه، ويحفظوه، ويطيعوه، ويتبعوه، ما أطاع الله ورسوله، ... فإن فعل هذا ( أي أطاع الله) ملكهم بالمحبة والميل إليه، والمناصحة له منهم، بصدق سرائرهم وعلانيتهم).
التوصيات والمقترحات
العمل على إعداد موسوعة علمية فقهية تُعنى بحقوق الإنسان من خلال مؤلفات أهل عمان.
ترسيخ مبدأ حقوق الإنسان مهما كان لونه وفكره وعرقه وقوميته ودينه من خلال المناهج الدراسية خلال المراحل الدراسية المختلفة.
تكثيف البرامج الإعلامية والتربوية عبر القنوات العامة والخاصة المرئية والمسموعة والمقرؤة لتعميق قيم حقوق الإنسان.
انتخاب عدد من الكوادر العمانية من موظفي وزارة الأوقاف والشؤون الدينية للتخصص في مجال حقوق الإنسان من خلال مؤلفات أهل عمان خلال ابتعاثهم للدراسات العليا.

د.إسماعيل بن صالح بن حمدان الأغبري - باحث عماني