إنّ من شبه المؤكد لديّ، أن هذه الخطوة "الوقف الشامل لإطلاق النار"، بهدف التوجه نحو تفاوض يفضي إلى سلم.. بحاجة إلى نزع ألغام في جوفها، وإلى وعي يحول دون زرع ألغام جديدة في مسارها. وأنها تحتاج إلى تحسين وتطوير، من شأنهما أن يوسعا إطارها، ويفتحا الأنفس والعقول لها، ويجعلاها تتسع أكثر، وتترسخ أعمق.. وأنها أفضل من خطوات في هذا الاتجاه سبقتها. ولذا فإن حظها سيكون أفضل من حظ سابقاتها، اللائي آل أمرهنّ إلى الفشل، فرفعن درجة الإحباط.

[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/aliaklahersan.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]علي عقلة عرسان[/author]

وقف شامل لإطلاق النار في سوريا، دخل حيِّز التنفيذ في الساعات الأولى من يوم الجمعة الـ٣٠ من ديسمبر ٢٠١٦، بضمانة روسية ـ تركية؛ ووافقت عليه سوريا، وأعلنت أنها تلتزم به، كما وافقت على الالتزام به سبع فصائل مسلحة، وقَّع ممثلوها عليه، وهي تضم ستين ألف مسلح "٦٠٠٠٠".. ووافقت عليه إيران أيضًا.. ورحبت به بعض الدول العربية، والولايات المتحدة الأميركية، والأمم المتحدة. إنه اتفاق هش، تم خرقه.. نعم، لكنّه مثقل بالأمل، وينتظره الشعب، ويراد له أن يصمد، وأن يمهِّد لمفاوضات بين الحكومة والمعارضة المسلحة، في الثامن من شباط/فبراير ٢٠١٧ كما دعا دي مستورا، استنادًا لمرجعية جنيف، والقرارات الدولية ذات الصلة.. على أن تسبق ذلك اجتماعات بين أطراف معنية، من بينها أطراف مفوضة من طرفي الصراع، في آستانا عاصمة كازاخستان، تبدأ في يناير ٢٠١٧ تتناقش، وتبحث، وتعزز الجهود، من أجل الوصول إلى اتفاق دائم.. ولا يشمل اتفاق وقف إطلاق النار، مناطق سيطرة "داعش"، وفتح الشام "النصرة"، ولا عناصرهما.
التفاؤل هذه المرة أكبر من أية مرة أخرى، أُعلن فيها عن اتفاق لوقف إطلاق النار، "وقف الأعمال العدائية"، سواء أكان ذلك في مناطق محددة "حلب مثلا" أو في غيرها، ولأيام معدودة. لكن بعض الألغام التي فجرت الإعلانات السابقة، ما زالت موجودة.. فالتداخل قائم في المسلحين في بعض المناطق، والمواقف، وقد تحدث تحولات فصائيلية تزيد الأوضاع صعوبة، حين يكون القتال مستمرًّا في مناطق، وضد عناصر.. ليست مناطق سيطرة "داعش" و"النصرة" فقط، بل كل من لا يلتحق بالاتفاق، حيث أعلن الضامنُ الروسي أن كل من لا يوافق على الاتفاق ويلتحق به، سيُعتَبَر إرهابيًّا إرهابيًّا، ومن ثم يستمر استهدافه بهذه الصّفة، فالحرب ضد كل من صُنِّف إرهابيًّا مستمرة، حسب الاتفاق.
إنّ هناك عوامل، قد تؤثر سلبًا على الالتزام بوقف إطلاق النار الشامل هذا، وهي تتصل بالولايات المتحدة الأميركية تحديدًا وبالدرجة الأولى. لقد رحبت الإدارة الأميركية بالاتفاق، لكنها كانت، كما هي حال الأمم المتحدة، معزولة عنه، ولم تشارك به.. في الوقت الذي هي، على الأرض الساخنة، ليست معزولة عن الحرب، ولا عن التأثير في الأحداث الجارية في سوريا، ولا عن فئات تنخرط فيها.. إذ إن لها مناطق نفوذ، وقواعد، وحلفاء، وقوة عسكرية، ومشاركة فعلية في القتال على الأرض.. وقد اتخذت مؤخَّرًا قرارات تصب في تيار تصعيدها، منها تزويد المعارضة بأسلحة من ضمنها مضادات للطيران، الأمر الذي اعتبرته روسيا تهديدًا لقواتها ومصالحها في سوريا، وأنه موجهًا ضدها. وللولايات المتحدة أيضًا علاقات قوية جدًّا مع أطراف سورية وعربية، ذات مشاريع، وأهداف، ومواقف، ولها شروط معلنة، وتملك قوة تأثير على عناصر مسلحة تقاتل في سوريا.. ومن بينها أطراف انفصالية، تستظل بالولايات المتحدة الأميركية التي تتعاطف مع تطلعاتها، وتلك الأطراف تخوض حارب حليفها الأميركي، وتعلن عن مشاريع "فيدرالية"، تقسم سوريا لاحقًا، وهذا ما لا تقره الدولة، ولا الكثير من المعارضات المسلحة.. وهو ما يرفضه الشعب السوري جملة وتفصيلًا. وإذا نظرنا إلى هذا كله، في ضوء التدهور المستمر، الذي أوصل العلاقات بين واشنطن وموسكو، إلى الحضيض.. لا سيما بعد طرد أوباما لـ٣٥ دبلوماسيًّا روسيًّا، وإغلاقه لمجمعين روسيين، في نيويورك وماريلاند، قال "إن الروس يستخدمانهما في أغراض مرتبطة بالمخابرات".. وذلك على خلفية اتهام روسيا بالتدخل في الانتخابات الأميركية الأخيرة، لصالح ترامب.. والإعلان عن أن إدارة أوباما ستتخذ عقوبات جديدة أخرى ضد روسيا، منها عقوبات غير معلنة، كما قال الرئيس أوباما.. وبالمقابل، أعلنت موسكو، عن استعداد الرئيس بوتين للرد على ذلك بعقوبات ضد واشنطن، سيكون لها وقعها الشديد.. في ضوء هذا، وبما أن الحال على هذا المنوال.. فإننا يجب ألا نستبعد عرقلة أميركية محتملة لاتفاق وقف إطلاق النار الشامل في سوريا، الذي سيكون الضامن له روسيا الاتحادية، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، على الرغم من الترحيب. فاللعبة السياسية بينهما الآن، وقبل أن يصل ترامب إلى البيت الأبيض، تتطور بسرعة، وتحمل في طياتها نُذرًا سيئة، وتنطوي على تصفية حسابات، وعلى جعل الإدارة القادمة تواجه ما يمكن أن يكون أوضاعًا تحول دون إطلاق يدها في تنفيذ وعود، ونوايا وسياسات، وعد ترامب بها، ويرى أميركيون كثيرون أنها لا تخدم مصالح بلادهم، ولا تراعي تحالفاتهم، وتخرج على "المبادئ الثابتة للأميركيين".. ومن المعروف أن الساحة السورية، التي تتقابل فيها الدولتان العظميان، بصورة مباشرة أو عبر وكلاء، تشكل حَلَبَة لكل منهما، ليوجه لكمات للآخر.
إن وقف إطلاق النار الشامل، بوصفه مَدخلًا للمفاوضات التي يُراد لها أن تُستأنف، وتنجح، وتفضي إلى حلول سياسية.. وينظر إليه على أنه أساسي، وفي غاية الأهمية.. هو في حقيقة الأمر هش، وقد يكون مُهدَّدًا بصورة جدية.. ولا يحتمل الوضعُ، ولا الشعبُ السوري، نكسات من هذا النوع، تفضي إلى جولات دموية أخرى، وكوارث في مناطق أخرى من البلاد، بعد الذي شهده وتابعه وتحمّله في حلب، وفي غيرها من المدن، والبلدات، والقرى في سوريا. ولذا فإن آمالًا وتطلعات كثيرة وكبيرة معلقة على ثبات هذه الخطوة ونجاحها.. وهذا يستدعي من المعنيين بالمسألة السورية جميعًا، لا سيما أطراف الصراع من السوريين، أن يعززوا وقف إطلاق النار، ويعملوا على ثباته، ويجعلوا منه حافزًا إيجابيًّا لتعزيز الثقة، وحسن النوايا، دافعًا على تقديم مبادرات، والقيام بخطوات، وإجراءات، تتعلق بملفات وقضايا سورية ملحة، لا سيما ما يتعلق من ذلك بالجانب الإنساني، ومعاناة الناس، وما ينعكس إيجابيًّا في نفوسهم، ويجعلهم يساهمون في تعزيز هذا التوجه، وتحقيق ما يرمي إليه.. لكي تكون هناك نقلة نوعية لا بد منها، لتفاوض مسؤول مثمر، في مناخ حوار وتفاوض صحي سليم، يسفر عن سلام، وأمن، ووئام بين أبناء شعب واحد، في وطن موحَّد.. وعن وقف لمسارات الدم الذي عمَّ وطمَّ وورَّث ما لا يُحسَدُ أحد عليه، وما لا يطيقه أسوياء الناس، من كوارث ونِقَم.. ووضع حدٍّ للدمار الذي قضى على العمران، وخرَّب الكثير من الأوابد التاريخية، والتراث الحضاري.. وجعل الشعب الذي أهلكته الحرب، وبشِمَ من الدَّم، وخسر حتى نفسَه، وخُرِّبت بلد ودياره، وأُضعِفَت دولته، بما لا مزيد عليه.. جعله يرى النور بأمل، ويستنشق الهواء براحة، ويجد الماء أسَّ الحياة، ويحصل على متطلبات العيش الي لا بد منها، لكي يستأنف الحية، ويبني من جديد، وطنًا يتطلع إلى أن يكون آمنًا، مستقلًا، وسعيدًا.
من المؤكد أننا لا نستطيع أن نفرض على المعرقلين الدولين سلوكًا، ولا أن نمنعهم من ألا يعرقلوا هذا المسار أو ذاك.. فقد هبطنا إلى ما دون مرحلة الإنهاك من جهة، وليس بالمستطاع ردع الوحوش، ومن لهم روائح الضِّباع من جهة أخرى.. فهم الآن الأقوى، والأكثر مِراسًا فيما يتعلق بإفساد كل توجه، وإشعال كل حرب، وتنغيص كل حيٍّ.. حين يكون لهم مآرب في ذلك. إن هذا معروف، ومجرب، وقد أصابنا بما أصبنا به من أدواء، على رأسها داء الصهيونية الذي ما زال ينخر عظمنا. لكننا نستطيع أن نخفف من تأثيرهم الضار، وأن نبطل قدرًا كبيرًا من خططهم، ونرد بعض كيدهم.. إذا أقلعنا عن أن نكون تبعًا، وإمَّعات.. ولجمنا العملاء، ومن يستظلون بالأقوياء لكي يبقوا فوق رقاب الناس.. وإذا فهمنا الحرية ومارسناها في ضوء المسؤولية الأخلاقية، والوطنية، والإنسانية.. وإذا توافقنا على أن كرامة المواطن من كرامة الوطن، والعكس صحيح، وكنا أقرب إلى التفاهم والتعاون والأخذ بما يعزز مواطَنتنا، ووطَننا. إن تفاهمنا الآن مطلوب أكثر من أي دعوة لأي أمر، ومن خلاله، وبه، نبدأ مسارات بنّاءة أخرى، لا يمكن أن نسلكها متضادين، متقاتلين، موالين لغير الله، والوطن، والحقيقة، والحرية والعدالة. إن الشعور بالمسؤولية، بكل مفاهيمها وأنواعها ودرجاتها، يوصلنا إلى درجة من التفاهم والاتفاق يتوقف معها القت والدمار وإشقاء الشعب، ويتوافر أمن يمكِّن المرء من أن يدخلَ بيته، ويأوي تحت سقفه بسَكِينة. إن تفاهمنا يغير مسارات الحرب، والحقد، وتنمية الفتنة، ويحد من المضي في طرق الجهالات والثارات والعنتريات على بعضنا بعضًا، بينما عدونا يحتل أرضنا، ويعبث بنا.. وعودتنا متفاهمين، متعاونين، كرماء، أحرار، آمنين.. يجعلنا نتغلب على جاهلية الرأي والرؤية والسلوك، وعلى استبداد الجهل والظلم والتطرف والإرهاب وأهله.. فنسير في مسارات الأمن والعقل نحو السلم، بحب.. ونبني علاقات تقوم على الاحترام، ونقيم الوطن والمواطَنة السليمة على أسس قوية ثابتة.
إنّ من شبه المؤكد لديّ، أن هذه الخطوة "الوقف الشامل لإطلاق النار"، بهدف التوجه نحو تفاوض يفضي إلى سلم.. بحاجة إلى نزع ألغام في جوفها، وإلى وعي يحول دون زرع ألغام جديدة في مسارها. وأنها تحتاج إلى تحسين وتطوير، من شأنهما أن يوسعا إطارها، ويفتحا الأنفس والعقول لها، ويجعلاها تتسع أكثر، وتترسخ أعمق.. وأنها أفضل من خطوات في هذا الاتجاه سبقتها. ولذا فإن حظها سيكون أفضل من حظ سابقاتها، اللائي آل أمرهنّ إلى الفشل، فرفعن درجة الإحباط. وأنها خطوة تأتَّت عن نضج في قلب التجربة، المأساة، ونتجت عن إحساس حقيقي، عميق، صادق، ومسؤول.. بأن القتال ليس هو الطريق، ولن يفضيَ الحل، وأن الحرب أرهقت الأطراف المتقاتلة، لا سيما"السلطة والمعارضات"، وأن ما مر من أيام وتقلبات، ومرارات، أشار إلى حقيقة أنه لا يبني بيتك إلا أنت، ولا يقف أحدٌ معك إذا لم تقف مع نفسك، وأنه "لا يحكُّ جسمَك مثلُ ظِفرك".. وأن الدول ليست جمعيات خيرية.. وأن خذلانًا، أو إحساسًا بالخذلان، أيقظ لدى كثيرين ممن يوصفون بـ"الرؤوس الحامية" حِسًّا بأن الحرارة المتدرجة في الصعود تقضي على صاحبها بصورة ما.. وأنه لا ضوء في نهاية هذا النفق المظلم، نفق الحرب والكراهية والفتن المذهبية والطائفية والعرقية، نفق القتل والدمار وسيول الدماء، ومستَنبَت الأحقاد والجهالات.. و.. وأن ما تبقى من البلد "سوريا الشعب، والوطن، والتاريخ، والحضارة"، لا يحتمل المزيد.. فقد تجاوز السيل الزُّبى. وأن الشعب السوري لم يتعب فقط، بل كاد يكفر بكل شيء، بعد الذي ذاقه، وخسره، واكتوى بناره، مما جعله يفقد الكثير مما كان له، في وطنه، وبين أبناء أمته، وفي العالم الذي يتشرد فيه، وتطعنه نظراته التي تفوق طعن السكاكين. الشعب لم يعد يحتمل، لأن طاقته على الاحتمال وصلت إلى نهايتها، وأخذ يغرق..
وعلى ذلك فإن السوريين مهددون بفقدان كل ما بقي منهم ولهم.. إنهم بكل طوائفهم، وأطيافهم، وتوجهاتهم، مستهدفون.. وأنه لا ينتصر أخ على أخيه، بقتل أخيه.. وأن عليهم، وقد آنَ لهم، أن يواجهوا حقيقة "أنه كفى، وكفى، وكفى.."، وأنهم مطالبون بأن يرفعوا أصواتهم بها، ابتداءً من سويداء القلب ونقا العظم، وحتى عنان السماء، وباتساع العالم طولًا وعرضًا، أُفُقيًّا وشاقوليًّا. إنهم قادرون على رفع الصوت بـ"كفى.. وكفى.. وكفى.."، كفى.. بكل معاني الكلمة، ومراميها، وبكل ما تنطوي عليه من مشاعر واحتجاجات ومرارات، وما تحمله من إشارات، وما توحي به من دلالات.
لسنا ساحة مستباحة، ولا ينبغي أن نكون.. ولسنا حقول تجارب، ولا ميدان تصفية حسابات، ولا مساحة بشرية، وجغرافية، وثقافية متاحة مباحة، يلعب فيها اللاعبون بدمنا، ويعبثون بمصائرنا، وينتهكون كل شيء لنا وفينا.
وهذا كله، يستوجب من كل منّا، قبل أن يرفع صوته، أن يؤول إلى نفسه يواجهها، مسلحًا بيقظة الضمير، ومنطق العقل، وخلاصة التجربة، وحقائق الإيمان ومفاهيمه الصحيحة.. يراجعها في ضوء ما فكّر، وقدَّر، ودبَّر، وفعل.. وفي تعلَّمَ وعلِم، وفي ضوء ما رأى وما سمع، وفي ضوء ما عانى ورأى غيره يعاني، وفي ضوء مسؤولية خُلُقية عن الذات والآخر، الشريك الوطن، والحياة والمصير.. ومسؤولية أخرى لا تقل أهمية، هي مسؤولية مستقبلية، عن الأجيال، وما يبنيه لها، ويورّثها إيَّاه.. لكي يعود، من بعد ذلك، إلى ذاته جديرًا بذاته، واعيًا نقيًّا، ولكي يعود للشعب والوطن.. نظيفًا وحريصًا، ومنتميًا عضويًّا، وليس مُجترًّا لانتماء من خلف الرمل والماء، ولا مُواليًا لغير أمته ووطنه وهويته وعقيدته، تحت أي ذريعة أو قناع.