[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedbinsaidalftisy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]محمد بن سعيد الفطيسي[/author]


محمد بن سعيد الفطيسي*

الكثير منا سمع ولو بشكل موجز ومبسط عن التضخم الاقتصادي. أشكاله وأسبابه وآثاره وانعكاساته على الدول وموازناتها واقتصاداتها واستقرار انظمتها السياسية ومعيشة مواطنيها. كون هذا المفهوم من اكثر المصطلحات الاقتصادية تداولا وتناولا على الساحة الإعلامية والمشهد الاقتصادي الدولي هذه الأيام, وذلك نتيجة الأزمة الاقتصادية التي نتجت عن تراجع اسعار النفط مع مطلع العام 2016م, وسابقا كان هذا المصطلح هو بطل كل الأزمات الاقتصادية والكوارث المالية التي عصفت بالعالم منذ اقدم فترات التاريخ الإنساني.
الا ان القليل جدا سمع عن مفهوم التضخم السياسي. هذا المدمر الصامت الذي يتسلل إلى كيانات الدول, وينخر في بنائها بكل هدوء وترو, فلا يشعر به الا حين يستشري في كل مكوناتها وينخر مؤسساتها ويدمر نظامها السياسي والأمني. وهل بالفعل يمكن ان يحصل نوع من التضخم في هياكل البناء السياسي للدول, وكذلك في نشاطات الحكومات الإدارية " السياسات العامة " كما هو الحال في اقتصاداتها؟. هل يمكن ان تطغى مفاهيم كالإفراط أو ارتفاع جانب من جوانب السياسات العامة للدول, لتصل إلى الحد الذي يمكن ان تتضخم معه لتشكل خطرا على الدولة وأمنها القومي ونظامها السياسي. وهل للتضخم السياسي دور ما في التضخم الاقتصادي؟. وهل للتضخم السياسي اشكالا مختلفة كما هو الحال في التضخم الاقتصادي, وما هي اسبابه واثاره وانعكاساته على الداخل الوطني.
بداية لابد من تعريف التضخم السياسي والمقصود منه, والذي يمكن النظر إليه والتوصل إلى فهم مبدئي حوله من خلال زوايا وظواهر سياسية مختلفة ومتعددة تشاهد وتلامس على الواقع السياسي للدول وحكوماتها. منها ارتفاع عدد القرارات والتوجهات والمرئيات السياسية الموجهة لسياسات الدول أو الواجبات العامة أو حقوق المواطنين في مختلف الجوانب والقطاعات. يقابله في الجانب الآخر عجز المؤسسات المعنية أو السلطة التنفيذية أو الإدارة في جانب التنفيذ, سواء كانت تلك الأسباب لظروف مالية أو لسوء في التخطيط أو الاداء والتنفيذ, أو لضعف في الرقابة والمحاسبة. بمعنى اخر، ان الدول تجد نفسها بعد فترة زمنية امام كم هائل من الأوراق المحروقة, أي السياسات والمخططات والتوجهات والقرارات التي عجزت عن تنفيذها. أو قامت بتنفيذها ولكن لم تحقق النتائج التي كانت ترجوها من ورائها, ما ادى بدوره إلى نتائج وانعكاسات خطيرة على النظام السياسي والأمن الوطني سواء كانت تلك الانعكاسات. ظاهرة للعيان على المدى القصير, أو انها تتسلل بصمت المرض القاتل إلى مسامات الدول والحكومات, لتظهر بعد فترة زمنية في شكل انهيار للنظام السياسي وتدهور للسياسات العامة.
كما يمكن ان يتحقق التضخم السياسي بسبب افراط النظام الحاكم أو السلطة الحاكمة بطريقة غير مقصودة طبعا في تحويل المؤسسات العامة إلى شبكة من العلاقات القيادية الخاصة, أو المجتمع القيادي الفئوي من خلال اختيار معايير غير دقيقة في تعيين القيادات وتوزيع الموظفين في القطاع العام. وبالتالي تضخم تيارات وقوى معينة تقوم بتوجيه سياسات الدولة ومرئياتها ومخططاتها إلى تحقيق مصالحها الفئوية أو الشخصية الخاصة على حساب المصلحة العامة, ما يدفع بدوره الحكومة للوصول إلى مرحلة سياسية تعجز معها من تسيير وادارة السياسات العامة " المدخلات " بطريقة صحيحة يمكن معها ان تحقق " مخرجات سليمة وصحيحة". بمعنى اخر, ان تتسبب تلك الفئات القيادية إلى صناعة مدخلات سياسية وهمية او غير قابلة للتنفيذ او تعجز الدولة عن تنفيذها , وهو بالطبع امر خطير للغاية يمكن ان يهدد استقرار النظام السياسي ومختلف اشكال الأمن الوطني. لأن النتيجة التي ستتحقق جراء ذلك بلا شك, ستكون فوضى في السياسات العامة, وبالتالي تراجع القيمة السياسية للنظام السياسي في الساحة الوطنية.
كما يمكن ان يتحقق التضخم السياسي في حالات متعددة ومختلفة اخرى, كاستمرار الضغوط الجماهيرية المطالبة بالإصلاح او التحديث السياسي, ما يقابله في الجانب الآخر محاولات تكون في غالب الأوقات متعجلة ومندفعة من قبل الحكومة لاحتواء ذلك الضغط, وبمعنى اخر, ان ردة الفعل الرسمية لتجاوز ذلك تكون اصدار قرارات وتوجهات وسياسات غير مدروسة تستهدف عددا من الإصلاحات أو تحديث في المؤسسات أو القيادات أو المصالح العامة, ما يفاقم فشل التوجهات السياسية أو تراكم السياسات المتسرعة أو غير المجدية, وهو امر يمكن ان يتضخم معه العجز السياسي للنظام السياسي.
باختصار يمكن القول ان التضخم السياسي هو: ارتفاع نسبة النشاطات الإدارية للحكومة والتي تستهدف تحقيق السياسات العامة مقابل تراجع القدرة على تنفيذها على ارض الواقع, وبمعنى آخر, تباين وازدياد الهوة والمسافة بين السياسة العامة والإدارة العامة, وعندما نقول النشاطات الحكومية فنحن نقصد بذلك السياسات العامة في مختلف التوجهات والتي يقصد بها رغم الاختلاف حول تعريفها: مجموع القرارات والأعمال والخطط والبرامج والأهداف العامة والتدخلات الإرادية المتخذة من قبل فاعلين معروفين بهدف تحقيق غرض عام, وهي تعبير عن التوجيه السلطوي أو القهري لموارد الدولة، والمسئولة عن التوجيه هي الحكومة بكل تأكيد.
وللتوضيح بشكل اكبر تفترض ان حكومة دولة ما تواجه أزمة معينة, فتقوم بإصدار قرارات وبرامج لمعالجة تلك الأزمة ولتوقي أي انعكاسات يمكن ان تنتج عنها, إلا ان ذلك لا يتحقق كما يفترض خلال الوقت المخطط له, او المقبول منطقيا, بسبب تفاقم الأزمة أو الفشل في التخطيط أو التنفيذ والأداء, فتندفع الحكومة في مواجهة الضغوط الاجتماعية أو نتيجة فشل القيادات المسؤولة عن إدارة تلك الأزمة أو بسبب من الأسباب التي تطرقنا إليها سلفا, الى إصدار مزيد من القرارات والخطط, لتجد نفسها في وقت ما, أمام عشرات القرارات المحروقة والتوجهات والمخططات التي لا تستطيع تنفيذها. ما ينتج عنه المزيد من السخط والامتعاض الجماهيري, وهدر في الموازنة العامة نتيجة ارتفاع قيمة المصروفات أمام العائدات, وقد تضطر الدولة معها في نهاية المطاف إلى إيقاف المشروع أو تأخيره على سبيل المثال, وهي حالة تضخمت معها النشاطات الحكومية الخاصة بمعالجة الأزمة إلى درجة عجزت معها عن معالجتها أو التصدي لها.
اذا وصول الدول والحكومات إلى هذه المرحلة من أشكال التضخم. بغض النظر عن الأسباب التي أدت إليه وهي كثيرة ومختلفة باختلاف النظام السياسي والقيادة السياسية والإدارة السياسية فيها, يعطي مؤشرا خطيرا من نواح مختلفة ومتعددة, فهو من الناحية السياسية دليل على فشل الأداء السياسي وتوجيه السياسات العامة, وما يمكن ان يترتب عليه, أما إداريا فهو مؤشر واضح على ضعف القيادات الإدارية سواء من ناحية التفكير او التخطيط او التنفيذ, وكما هو معروف فإن وجود القيادة غير المناسبة سينتج عنه قرارات غير مناسبة, وكذلك هو مؤشر خطير إلى نتائج أمنية مرتفعة الخطورة والانعكاسات سواء على الداخل أو الخارج الوطني.
وباعتقادي الشخصي: ان التضخم السياسي يمثل القاتل الصامت والمدمر طويل النفس لاستقرار وامن وتقدم وتنمية وازدهار الدول ونجاح الحكومات باختلاف اشكالها وتوجهاتها, وان كان هناك من شكل من اشكال التضخم يمكن الخوف منه بكل صراحة ووضوح. فهو التضخم السياسي, لأنه المحفز الأبرز والدافع الأنسب لبقية اشكال التضخمات, والتي يقع على رأسها التضخم الاقتصادي الذي تعاني منه اغلب دول العالم اليوم, واني على يقين تام بأن الفشل سيكون مصير كل محاولات احتواء التضخم الاقتصادي ان لم يسبقه ارادة سياسية حقيقية للتصدي واحتواء مخاطر التضخم السياسي في أي نظام سياسي.
على ضوء ذلك وجب التنبيه وطنيا إلى مخاطر هذا النوع من انواع التضخم, وذلك من خلال ضرورة الانتباه إلى أهمية وجود جهاز متخصص بعمليات إدارة وضبط ومراقبة أسباب واشكال التضخم السياسي, والذي لا يمكن بحال من الأحوال ان تخلو منه دولة من الدول في وقتنا الراهن, وهو في اغلب الأحيان المتسبب الرئيسي بجل التحديات والمشاكل والأزمات التي تعيق حركة التنمية والتقدم الحضاري والإنساني في أي وطن, كما يجب العمل دائما وبشكل مستمر على ما يطلق عليه بتقييم السياسات العامة للدولة بمختلف مستوياتها العامة والخاصة, وسواء كانت متعلقة بولاية او محافظة, ونقصد بالتقييم هنا: مجموعة من الإجراءات التي تستهدف الحُكم على مدى فعالية سياسة عامة "ما" وعلى مدى جدارتها بالتنفيذ أو الاستمرار أو الاقتداء بها مستقبلًا.

باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية رئيس تحرير مجلة السياسي – المعهد العربي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
[email protected]