مع إطلالة العام الجديد 2017 أطلت علينا أيضًا معالم الموازنة الجديدة التي تدل مفرداتها وتفاصيلها على كثير من العناصر التي جمعت بين التحديات التي تواجهها الموازنة العامة للدولة وبين التفاؤل والإصرار على مواصلة التنمية الشاملة، وتأمين العيش الكريم وحفظ حقوق المواطنين، حيث من المتوقع أن تواصل التنمية نجاحاتها ـ رغم التحديات المتمثلة في الانهيار العالمي لأسعار النفط وما جره من آثار بدت واضحة على الاقتصاد العالمي بصورة عامة واقتصادات الدول المنتجة لهذه السلعة الحيوية ـ وفي نفس الوقت من المتوقع أيضًا تزايد في المشروعات الخدمية والتنموية التي تمس حياة المواطن عن قرب مثل الصحة والتعليم والإسكان والطرق والكهرباء والماء إلى غير ذلك من قطاعات، وكذلك عدم الاقتراب من بند الرواتب للموظفين.
وبتصديق حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ على الميزانية العامة للدولة بموجب المرسوم السلطاني رقم (1/2017) تبدأ مرحلة جديدة من مراحل العمل الوطني، حيث وضعت الميزانية في الاعتبار مشاريع الخطة الخمسية التاسعة وقطاعاتها، في متوالية مترابطة من مراحل هذا العمل الوطني بأن كل عام يأتي يشكل إضافة بنائية لهيكل الحضارة العمانية الحديثة النابعة من برامج النهضة المباركة التي فجر طاقاتها وحادي مسيرتها الظافرة عاهل البلاد المفدى ـ أيده الله ـ وأن كل عام هو بمثابة وعاء يحمل المزيد من الإنجازات ويضيف لمسة إلى وجه عُمان المشرق ليزداد إشراقًا.
صحيح أن الموازنة قد تكون بالنسبة لقطاع كبير من المواطنين مجرد أرقام صماء تشعرهم بالتعب وهم يسعون وراء فهم ما سيعود عليهم من نفعها بشكل مباشر. لكن في نفس الوقت هناك قضايا تكون على جانب كبير من الأهمية ويجهد ذوو الاختصاص أنفسهم في ترتيبها ومحاولة إبرازها على الوجه الأحسن مثل الإنفاق العام ونسب النمو، وإجمالي الإيرادات من القطاعات النفطية وغير النفطية، وإجمالي الدخل ومستوى دخل الفرد، ونسبة العجز، وهي وإن لم تسترعِ الاستيعاب الدقيق من قبل المواطن العادي، إلا أنها في الحقيقة تشكل عصب الميزانية وضابط إيقاع حركة التنمية ومفاعل توليد الطاقة الإنمائية في البلاد؛ فهذه العوامل تسعى إلى ضبط الأسعار وموازين المدفوعات والعلاقة بين أسعار العملة المحلية والأجنبية، وهي بدورها علاقة تلعب دورًا حاسمًا في تذبذب أسعار الواردات ومن ثم أسعار المواد الاستهلاكية وحركة الأسواق المحلية.
والبيان التفصيلي الذي أصدرته وزارة المالية أمس حول النتائج المالية المتوقعة للسنة المالية للسنة 2016م، وأهم ملامح وتقديرات الموازنة العامة للسنة المالية 2017م، جاء شارحًا لما ذكرناه آنفًا من تحديات ماثلة للعيان وسط إصرار على التحلي بالأمل في تجاوز هذه الأزمة المالية الحالية. فقد كان لافتًا التراجع في حجم الإنفاق العام الذي قدر بنحو (7ر11) مليار ريال عُماني بانخفاض قدره (200) مليون ريال عُماني عن الإنفاق المقدر لعام 2016م بنسبة (2) بالمئة، مع تسجيل عجز من المقدر أن يبلغ نحو (3) مليارات ريال عُماني؛ أي بنسبة (35) بالمئة من الإيرادات العامة ونسبة (12) بالمئة من الناتج المحلي، وهذا دون شك يعكس التأثير الحاد لانهيار أسعار النفط لثلاثة أعوام على التوالي، وفي المقابل يعكس حجم الصعوبة البالغة في مواجهة هذا التأثير، والحد من العجز الذي كان الاقتراض أحد الحلول المطروحة للحد منه، وهو على المدى الأبعد قد يمثل تحديًا إضافيًّا للموازنة العامة للدولة.
المؤشر الأهم في عناصر الموازنة هو حرص السلطنة على الحفاظ على ما حققته من مكاسب وإنجازات كبيرة في مجالات الصحة والتعليم والرعاية الاجتماعية والخدمات الأساسية والبنية التحتية، والحفاظ على المستوى المعيشي الذي يحفظ كرامة المواطن، وهذا ما بدا جليًّا في الموازنة من خلال المخصصات لتلك المجالات، وعدم الاقتراب من بند الرواتب بحذف علاوات أو إلغاء العلاوة السنوية، والاستفادة منها في سد العجز.
على أن هناك دورًا كبيرًا يبقى على عاتق القطاع الخاص في ابتكار حلول تساعد الحكومة في مواجهة هذه الأزمة وتجاوزها، كالدخول في صناعات نفطية وغير نفطية لا توجد لدينا أو تطوير الموجود منها، وتخصيص فرص عمل للشباب العماني الباحث عن عمل، والحد من ظاهرة جلب الأيدي العاملة الوافدة، خاصة وأن أغلبها غير ماهرة.