مر موكب الإمبراطور يوما مخترقا شوارع المدينة، في هيبة وجلال، الفرسان على ظهور الخيول والهجن، الجنود المشاة ، حملة السلاح والدروع، قارعو الطبول، في ثياب مزخرفة، العبيد حملة أعلام المقاطعات الملكية السبع، بألوانها الزاهية، والإمبراطور في مقصورته الفخمة معتليا ظهر فيل أبيض عظيم، وقف الناس احتراما للموكب، هتفوا مرارا بحياة الإمبراطور، ألقيت الدنانير الذهبية ، فازداد هتاف الشعب، كان المشهد سيمضي في صفاء وهدوء لولا الحدث الذي عكر مزاج الإمبراطور، فعندما توسط الموكب ساحة المدينة، عند شجرة " الجميز" المعمرة العملاقة ، زقزقت العصافير التي تتخذها مسكنا بأصواتها العذبة ، كعادتها كل مساء ، لكن بألحان جديدة تماما وغير مألوفة هذه المرة ، فما كان من الإمبراطور إلا أن أرهف لها السمع، ثم أطل برأسه الشريف من تحت الملحفة المزركشة التي تغطي المقصورة المثبتة على ظهر فيله الأبيض، لكنه وما أن فعل حتى "خزق" أحد العصافير، كل ما في بطنه على أم رأس الإمبراطور وملابسه، فاتسخ طيلسانه الموشى بالياقوت والماس وتاجه الذهبي الموروث عن أجداده الأباطرة العظام ، غضب الإمبراطور غضبا شديدا ، وأحس بالإهانة البالغة، فأصدر فور وصوله إلى القصر، فرمانا إمبراطوريا حازما واجب النفاذ، ينص على قطع شجرة الجميز وإزالتها من الوجود، وعلل الفرمان سبب القطع ، بأن الشجرة قبيحة وصارت موئلا لطيور جارحة تزعج الناس وتقض مضاجعهم بصفيرها وصرخاتها المرعبة، وما تلقيه على غاديهم ورائحهم من أذى وخزوق .
تهادى إلى سمع العصافير، نص الفرمان الإمبراطوري ، طاف به المبلّغ ذو الطبلة الكبيرة على ظهر حماره في أرجاء المدينة ، فعقدوا اجتماعا عاجلا لتداول الأمر ، خشية أن يسبقهم جند الإمبراطور إلى تنفيذ مالا يحمد عقباه، وأجمعوا أمرهم فأرسلوا عصفورة بليغة منهم تحاور الإمبراطور وتفاوضه، وتراجعه في أمر الفرمان، وذلك قبل أن يقع الفأس في الشجرة ويحدث المحذور. طارت العصفورة إلى أن وصلت قصر الإمبراطور، لكنها كانت عصفورة شرهة، فاتجهت رأسا إلى مطابخ القصر بدل الاتجاه إلى ديوان الحكم، وشرعت تأكل من مخازن الحبوب والحنطة دون حسيب أو رقيب ، حتى سمنت وصارت في ثقل دجاجة فلم تعد تقوى على الطيران ببراعة كما ينبغي لعصفورة، وهوت من مكانها فسقطت في وسط القدر الذي يعد فيه العشاء، وتم قليها سهوا مع قطع "الباكوراه"** الشهية المقرمشة التي يفضلّها الإمبراطور مقبلاتٍ لعشائه الفاخر، بلع الإمبراطور قطع "الباكوراه" الساخنة جميعها، ولم يبق منها شيئا، ثم أتى على ما في المائدة من طعام ، وأثنى على براعة الطباخ الملكي، بل وأمر له بمكافأة مجزية، لكنه فجأة وبعد غسل يديه بماء الورد، بدأ يشعر بحركة غريبة في أمعائه، سرعان ما استحالت إلى رقص عجيب، لقد كان الإمبراطور يحس وكأن أحشاءه ترقص رقص الأفاعي ، ثم سمع بوضوح صوت العصفورة المشاكسة يأتيه من بطنه:
- لقد دخلت بطن الإمبراطور، لقد دخلت بطن الإمبراطور، لقد دخلت بطن الإمبراطور.
اشتد غضب الإمبراطور، وجن جنونه، وغدا أكثر تصميما على قطع الشجرة من ذي قبل ، فها هي العصافير تتجرأ على دخول بطنه بعد أن وسخت ثيابه القشيبة وأساءت إلى مقامه الإمبراطوري، فأرسل الجنود ينفذون الأمر فورا، واستغاث بالأطباء ليجدوا حلا للعصفورة التي تسرح وتمرح في داخله وتشعره بالغثيان، سقاه كبير الأطباء دواء، ورجاه أن يذهب إلى بيت الأدب والراحة لأن العصفورة ستخرج عندما يقضي الإمبراطور حاجته، كانت رغبة الإمبراطور في عقاب العصفورة الوقحة أشد من رغبته في الراحة من آلامه فطلب من سيافه البارع أن يرافقه في مهمة خاصة، وأمره أن يطيح برقبة العصفورة لحظة خروجها من بطنه ، نفذ السياف أمر الإمبراطور فوقف في استعداد، ممسكا السيف القاطع ، بمحاذاة سيده القاعد في الكنيف، وما أن خرجت العصفورة كعادتها مغنية مغردة ، حتى هوى بسيفه البتار محاذرا أن تقع عينه على ما لا ينبغي؛ لكنه أخطأ الهدف فقطع جزءا من مؤخرة الإمبراطور، الذي وقع مغشيا عليه من الألم، بينما طارت العصفورة المشاكسة وهي تردد مغنية في سعادة :
- لقد تسببت في قطع مؤخرة الإمبراطور، لقد تسببت في قطع مؤخرة الإمبراطور، لكن ما لم تعرفه العصفورة وقتئذ، هو أنها لم تتسبب في قطع مؤخرة الإمبراطور فحسب بل وفي انقضاء أجله أيضا. وهكذا اجتثت الشجرة، وانقطع ذكر الإمبراطور، وطارت العصافير وتكاثرت ، ومضت لتغرد وتزقزق بأعلى أصواتها، وبأعذب الألحان، وهي تبني أعشاشها الجديدة، في سائر أنحاء الإمبراطورية.

سمير العريمي