دمشق "أشرعة"
لأن تجربته انطلقت من الحياة بمرارتها وحلاوتها، وقد امتدت على مدى ثلاثين عاماً كان الحديث عنه مؤخراً في مركز ثقافي أبو رمانة بدمشق عبر ندوة برنامج "كاتب وموقف" الشهرية التي يديرها الإعلامي عبد الرحمن الحلبي ضرورة يفرضها نضوج التجربة وخصوصيتها في ساحتنا الشعرية، ولأن الشعر ضرورة كما قال ذات يوم جان كوكتو وفي الوقت الذي مازال بعضهم يشكك في أهميته أوضح د.غسان غنيم المشارك في الندوة إلى جانب الإعلامي عمر جمعة لهؤلاء أن الشعر يحاول دائماً أن يخترق كثافة البلادة والسطحية نحو كل ما هو أصيل وإنسانيّ، وهذا ما يجعل من الشعر خطاباً للنفوس النقيّة مهما تكن أفعالها، فلحظات الإبداع برأيه تخرج من حالة تتبدل فيها كيمياء الجسد والروح نحو تكوين آخر تتساوى فيه النفس المبدعة مع عنصر إلهي كامن في الإنسان، وربما يكون ذلك هو السبب الأساسي في انفعالنا بالشعر وتواصلنا معه إن كان حقيقياً، وهذا ما يجعل الحديث عن تجربة شاعر ليس أمراً هيناً على الإطلاق، وقد رأى غنيم أنه من الصعب إيفاء تجربة شاعر حقها في عجالة من الزمن، خاصة إذا انطلقت من الحياة والتجربة والجمال، فبيَّن أن المتأمل في تجربة أحمد الشعرية لا بدّ له أن يلحظ أنه امتلك نواصي الكتابة الشعرية بأنماطها المتعددة بين قصيدة الشطرين والتفعيلة، مع تجريب خجول بقصيدة النثر وتفوّق واضح له في قصيدة الشطرين التي تلحّ عليه في مجمل مراحل تطور شعره، موضحاً أنه في مجموعاته الأولى "أكسر الوقت وأمشي-لو تعرفين-نشيد لم يكتمل" يظهر فيها وجع البدايات من حيث الحضور الطاغي للذات واللغة الشعرية التقليدية، ليستمر هذا النمط من الكتابة في مجموعته الثانية مع طغيان واضح فيها للّغة الشعرية المتأثرة بلغة القصيدة التقليدية، مع تأكيد غنيم على أن هذا الأسلوب قد طغى أيضاً على مجموعاته اللاحقة دون إحراز تقدم باتجاه لغة مخترقة إلا في مجموعة القصائد التي جمعها تحت عنوان "ألوان" وهي مجموعة ومضات مبتكرة مشيراً إلى أن الأعمال الشعرية لأحمد تجمع عدداً من الموضوعات التي يمكن أن تتوزع بين الذات والحب والمرأة والوطن ليكون أكثر الموضوعات طغياناً هو موضوع المرأة والحب حيث تتجلى شاعرية الشاعر، فالحب أساسي لديه ومن دونه لا معنى للأشياء ليكون بذلك شاعر غزل بامتياز.
وختم غنيم كلامه مؤكداً أن أحمد استطاع أن يكون شاعراً تقليدياً مجلياً، لامس الحداثة بجدارة في عدد كبير من قصائده فأبدع في قصيدة الشطرين لأنها ميدانه الذي جال فيه وصال ثم كتب التفعيلة فكانت قصائده تفيض جمالاً ورقّة، كما كتب قصيدة النثر فلم يصل فيها إلى منتهى ليبقى الشاعر أحمد برأيه شاعراً امتلك الحساسية والقدرة على بناء الصورة وامتلاك لناصية الشعر.
أما الإعلامي عمر جمعة فقد أكد في بداية حديثه عن تجربة الشاعر توفيق أحمد أنها تنزع نحو التجريب في الأشكال الشعرية متنقلاً بين القصيدة العمودية ووصيفتها التفعيلية ومن ثم قصيدة النثر لتكون السمة الأبرز عنده كشاعر هو الانكفاء نحو الذات والتعبير الوجداني، مبيناً جمعة أن الشاعر سعى فنياً إلى إيلاء الصورة الشعرية جزءاً كبيراً من اهتمامه حتى بدت الصورة والاشتغال عليها كتقنية تعبير ركناً أساسياً في مجمل قصائده وهاجساً من هواجسه، فرسم معالم الصورة الحسية من خلال توظيف المكونات الإبداعية المعروفة كالتشبيه والاستعارة والكناية، وهي صورة محمولة على لغة تصويرية استبصارية تُنتقى فيها الألفاظ الموحية عميقة الدلالة القادرة على رصد أبعاد التجربة الذاتية للشاعر:
هزّي بجذع النخلة العجفاء
فالثمر انتهى
واسقطي هذا المساء جهنماً
أحلى وأرحب
أما العلامة الأخرى اللافتة في تجربة الشاعر أحمد كما أشار جمعة فهي نزوعه إلى تأبيد المكان وشغفه بتفصيلاته الصغيرة ليجعله جزءاً من ذاكرة يستدعيها كلما شدّه الحنين إلى تلك الأمكنة الأليفة المزروعة في روحه ووجدانه:
ضيعتي يا لهيباً من الرفض في العمق يا خطوطاً من الوحل تنساب في الجلد
لتبقى الثيمة الأساسية برأيه والتي حكمت الأعم من قصائد أحمد استحضار الأنثى التي مثّلت قريناً متنقلاً بالنسبة له:
أحبك لأنك مشغولة من خيوط العناد
أحبك لأنك أسطورة من رماد
أحبك لأنك تفاحة اللامبالاة .. أحبك
وختم جمعة كلامه مؤكداً على أن الشاعر توفيق أحمد استطاع أن يمتلك قدرة عالية في الحفاظ دائماً على وحدة قصيدته وضبط لغته ومفرداته وجمله، وبالقدر نفسه اشتغاله على التكثيف والاختزال واللمحة ولاسيما في القصائد القصيرة أو ما اصطلح على تسميتها بالقصيدة الومضة، بيدَ أن ما نبّه إليه جمعة هو محدودية نجاحه في اختيار بعض عناوين قصائده، مشيراً إلى أهمية اهتمامه فيها لأنها تُعد نافذة للقارئ على مضمون مجموعاته.
يذكر أن الشاعر توفيق أحمد اكتفى في هذه الندوة بقراءة مختارات من مجموعاته الشعرية بناء على طلب الجمهور الكبير الذي حضرها من محبي الشعر.
من قصائده
"في الجسد اليابس غلغل الضوءُ/ جنّيةٌ نَفَرَتْ من هنا/ وجنيّةٌ من هناكْ/ ركبَ البحرُ زورقَ عشقٍ/ صحارى تَمَطَتْ إلى الغيمِ/ تزرعُ فيها
مفاتيحَ للماءِ/ والضوءُ!/ يَكْمُنُ للبرد والمستحيلات/ يجرّ اليباس على رأسِهِ/ ويُلهبُ في العمر فَيْضَ اخضرارِ/". تَنصَّتْ رؤياه: (رأيتُ أني أجمعُ الماء مع النيرانْ/ وأنني أنهب من بيادر المراحل القادمة امتلاءَها/ وأنني بالحلم الجانح أفضح الزمانْ... يُفجّرُ الأيام والمكانْ) ».
يذكر ان الشاعر توفيق أحمد يعد من أهم الأصوات الشعرية في سوريا، صدر له ست مجموعات شعرية وهي: («أكسر الوقت وأمشي»، و«لو تعرفين»، و«نشيد لم يكتمل»، و«لا هدنة للماء» ، و«جبال الريح» ، و«حرير للفضاء العاري