في عدد الخميس الماضي لمن فاته الجزء الأول من هذا الموضوع ، ذكرنا بأن المفكر الأميركي ناعوم تشومسكي ، وهو أستاذ لغويات وفيلسوف أميركي ومؤرخ وناقد وناشط سياسي ، كتب حول استراتيجيات التحكّم والتوجيه التي تعتمدها دوائر النفوذ في العالم للتلاعب بالشعوب وتوجيه سلوكهم والسيطرة على أفعالهم وتفكيرهم في مختلف بلدان العالم. وقلنا بأنه من المحتمل أنّ تشومسكي استند في هذا الأمر إلى وثيقة سريّة للغاية يعود تاريخها إلى 1979حيث عُثر عليها سنة 1986 بشكل غير مقصود، بعنوان" الأسلحة الصّامتة لخوض حرب هادئة ", وهي عبارة عن كتيّب أو دليل للتحكّم في البشر وتدجين المجتمعات والسيطرة على المقدّرات، ويرجّح المختصّون أنّها تعود إلى بعض دوائر النفوذ العالمي التي عادة ما تجمع كبار الساسة والرأسماليين والخبراء في مختلف المجالات .
من تلك الاستراتيجيات، مخاطبة الشعب كمجموعة أطفال، حيث تستعمل غالبية الإعلانات الموجّهة لعامّة الشعب خطاباً وحججاً وشخصيات ونبرة ذات طابع طفولي، وكثيراً ما تقترب من مستوى التخلّف الذهني، وكأن المشاهد طفل صغير أو معوّق ذهنيّا. وكلّما حاولنا مغالطة المشاهد، كلما زاد اعتمادنا على تلك النبرة. لماذا؟ " إذا خاطبنا شخصاً كما لو كان طفلاً في سن الثانية عشرة، فستكون لدى هذا الشخص إجابة أو ردّة فعل مجرّدة من الحسّ النقدي بنفس الدرجة التي ستكون عليها ردّة فعل أو إجابة الطفل ذي الاثني عشر عاما." (مقتطف من كتاب أسلحة صامتة لحروب هادئة )
استراتيجية أخرى تدور حول تشجيع الشعب على استحسان الرداءة ، وخلاصتها تشجيع الشّعب على أن يجد أنّه من " الرّائع أن يكون غبيّاً، همجيّاً وجاهلا " . أما استراتيجية تعويض التمرد بالإحساس بالذنب
فهي بجعل الفرد يظنّ أنّه المسؤول الوحيد عن تعاسته، وأن سبب مسؤوليته تلك هو نقص في ذكائه وقدراته أو مجهوداته!! وهكذا،عوضاً أن يثور على النّظام الاقتصادي مثلاً ، تجده يقوم بامتهان نفسه ويحس بالذنب، وهو ما يولّد دولة " اكتئابيّة " يكون أحد آثارها الانغلاق وتعطيل التحرّك. ودون تحرّك لا وجود لثورة !
استراتيجية أخرى تتبعها الأنظمة ، كما يقول تشومسكي ، وهي معرفة الأفراد أكثر مما يعرفون أنفسهم ، ففي خلال الخمسين سنة الفائتة، حفرت التطوّرات العلميّة المذهلة هوّة لا تزال تتّسع بين المعارف العامّة وتلك التي تحتكرها وتستعملها النّخب الحاكمة. إذ بفضل علوم الأحياء، بيولوجيا الأعصاب وعلم النّفس التّطبيقي، توصّل " النظام " إلى معرفة متقدّمة للكائن البشري على الصّعيدين الفيزيائي والنّفسي ،فأصبح هذا " النظام " قادراً على معرفة الفرد المتوسّط ،أكثر ممّا يعرف ذاك الفرد عن نفسه ! وهذا يعني أنّ النظام - في أغلب الحالات - يملك سلطة على الأفراد أكثر من تلك التي يملكونها على أنفسهم .

د.عبدالله العمادي