[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/ahmedalkadedy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د.أحمد القديدي[/author]
” أذكر شخصيا أنه في أواخر الستينات، التف الرئيس بورقيبة التفاف الذئب على الشاة على أكبر وزرائه والرجل الثاني في النظام آنذاك وزير الاقتصاد والمالية ثم التربية والتعليم ومنظر الحزب الدستوري الاشتراكي والنقابي القديم أحمد بن صالح أمد الله في عمره، وأودعه السجن و حاكمه بتهمة الخيانة العظمى، ودخلت تونس في دوامة التصفيات القضائية التي أطاحت بهيبة الدولة و مصداقية النظام، ”
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عندما نسمع أن أوباما ساكن القصر طرد 25 دبلوماسيا روسيا وأن ترامب خارج القصر رفض القرار بل أثنى بالمديح على بوتين وعندما نسمع أن موسكو وأنقرة قررتا التلاؤم مع العصر وأعلنتا وقف إطلاق النار في سوريا وأن يستمر الإرهاب الأعمى يضرب الأبرياء كما وقع في اسطنبول ليلة رأس السنة الجديدة لا بد ونحن نعيش يوميا أحداثا عجيبة لم نتوقعها أن نتأمل قليلا في عبر التاريخ خاصة أن الاعتبار بالتاريخ هو حكمة عربية إسلامية منذ أمرنا الله سبحانه في القرآن (واعتبروا يا أولي الألباب) ثم إن العلامة ابن خلدون عنون كتابه القيم الرائد بكتاب العبر. ومن عبر التاريخ الحديث أن بعض أولي أمرنا نحن العرب وحتى العجم أصابتهم غفلة خطيرة في لحظة تحولات كبرى وحدث ما كان لا بد أن يحدث من أزمات و زلازل نراها اليوم في سوريا والعراق وليبيا واليمن مع تفاقم الإرهاب هنا وهناك. أذكر شخصيا أنه في أواخر الستينات، التف الرئيس بورقيبة التفاف الذئب على الشاة على أكبر وزرائه والرجل الثاني في النظام آنذاك وزير الاقتصاد والمالية ثم التربية والتعليم ومنظر الحزب الدستوري الاشتراكي والنقابي القديم أحمد بن صالح أمد الله في عمره ، وأودعه السجن و حاكمه بتهمة الخيانة العظمى، ودخلت تونس في دوامة التصفيات القضائية التي أطاحت بهيبة الدولة و مصداقية النظام، ودخل بورقيبة بسببها أيضا دوامة المرض البدني والنفسي، وبدأ العد العكسي لزعيم كبير أخذ المعول بيده ليحطم وحده ما بناه على مدى ربع قرن. وكان في مطلع السبعينات شاعر تونسي موهوب هو الحبيب الزناد يكتب قصائده المعبرة الملتزمة ومنها هذه القصيدة التي اعتبرناها أقصر قصيدة في اللغة العربية وهي تصف الزعيم بورقيبة وتقول بكل إيجاز وعمق وقوة تعبير:" دخل إلى قصره وخرج من عصره". وبالفعل فالرئيس الذي حرر تونس من الاستعمار وأسس دولتها الحديثة وحقق لها من المكاسب ما تعتز به خرج من عصره أي انقطع عن الواقع وأصبح رهينة لبطانات طامعة في السلطة أو المصالح الدنيوية العاجلة وبدأ رحلة السقوط مع التقدم في العمر وتراكم العلل وسرعة التحولات الاجتماعية في وطنه و تغير المحيط العالمي. وهذه القصيدة تجسدت بعد ذلك في أكثر من نظام مع الأسف وبخاصة في الجمهوريات وقبلها في دول المعسكر الشيوعي المنهار من خلال التحولات التاريخية التي هزت شعوب رومانيا وبولونيا والمجر وبلغاريا وتشيكيا وسلوفاكيا والبلدان التي كانت منضوية تحت الوحدة اليوغسلافية المصطنعة، عندما انهار جدار برلين وأذن بالهزات العنيفة التي عصفت بدكتاتور رومانيا/ شاوشسكو وزوجته هيلينة. وهذا الطاغية الروماني شكل أبرز مثال حي للخروج من العصر والانفصال عن الواقع حين رجع من زيارة رسمية للصين فنزل في بوخارست ودخل قصره ومن شرفة ذلك القصر ألقى خطبته الأخيرة العصماء في آلاف الرومانيين محاولا قلب موازين التاريخ و تغيير مجرى الحضارة في حركة بائسة يائسة، تدل على مدى استفحال الغيبوبة السياسية لدى هذا الرجل. وانتهت المأساة بمهزلة المحاكمة السريعة الجائرة للرئيس /شاوشسكو وزوجته والتي أدت إلى إعدامه وإعدامها ذات ليلة صقيعية من ليالي ديسمبر 1989. فكيف غابت عن ذهن الرجل وهو ماسك بكل خيوط السلطة بأن العالم تغير والشيوعية نسفت والاتحاد السوفييتي انفجر. ومهما يكن تقييمنا لحكم الرئيس صدام حسين، وللكارثة التي حلت بالعراق معه وبعد اسقاطه، فان الموضوعية في قراءة التاريخ الحديث تقتضي منا أن نسجل غياب معطيات الواقع عن ذهنه وأذهان مساعديه. وهو لم يستخلص الدرس القاسي من مأساة احتلال الكويت والحرب الطويلة الدموية مع إيران، ولم يفهم بأن الزمن دار دورته وللزمن نواميس، وبالفعل شكل أدق ترجمة لقصيدة الشاعر فدخل إلى قصره وخرج من عصره. وبشكل مختلف كان الأمر بالنسبة للجنرال / بينوشي دكتاتور التشيلي الذي قتل الرئيس المنتخب /جوزف أللندي وحصن نفسه بالدستور وهرب ملايين الدولارات لبنوك أميركا ثم خلعوه و جرجروه للمحاكم الدولية لتقتص للآلاف من الضحايا. ونفس الظاهرة نجدها لدى حسين حبري الرئيس التشادي المخلوع الذي لجأ إلى السنغال بعد المذابح وانتهاكات حقوق وحياة مواطنيه، وملفه اليوم أمام محكمة الجنايات الدولية بلاهاي. وقبله كان مصير ميلوسفتش الذي استحل لحم المسلمين من أبناء وطنه. وقائمة الداخلين للقصر والخارجين من العصر طويلة خلال النصف قرن الماضي، وأسباب السقوط متشابهة تتلخص في صم الآذان وصرف الأنظارعن التغيرات الجذرية التي تطرأ على الشعوب حيث يمضي صاحب الشأن سعيدا فرحا مرحا على إيقاع مدائح المنافقين والمخادعين والمتمعشين من بطانات السوء التي لا تقول له إلا ما يود سماعه وما يريحه من تعب التفكير ووجع الرأس ومواجهة الحقيقة، عادة على ايقاع (بالروح والدم نفديك) وجاء يوم على بورقيبة وبن علي والقذافي وغيرهم ولم يفدهم واحد فقط حتى بقطرة ماء! طوبى للعادلين الذين أدركوا حكمة العلامة ابن خلدون بأن العدل أساس العمران.