[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedbinsaidalftisy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]محمد بن سعيد الفطيسي[/author]
”يمكن التأكيد على ان السياسة الخارجية العمانية لم تكن يوما بمعزل عن الأحداث الدولية, وانها دائما ما كانت لاعبا قادرا على تغيير التوازنات السياسية والعسكرية في المنطقة, وهو دليل واضح على الدور المتوازن للسياسة الخارجية العمانية والذي يؤكد مبادئ الحياد الإيجابي واختيار القضايا المناسبة لمصالحها الوطنية الاستراتيجية, وليس كما يشاع بأنها تحبذ الانزواء أو الابتعاد عن الأحداث أو السلبية السياسية,”
ــــــــــــ
نصت المادة (42) من النظام الأساسي للدولة الصادر بالمرسوم السلطاني رقم 101/96 في الباب الرابع "رئيس الدولة" على المهام التي يقوم بها جلالة السلطان, والتي من بينها توجيه السياسات العامة للدولة. كما نصت المادة 2 / الفصل الثاني من قانون تنظيم وزارة الخارجية الصادر بالمرسوم السلطاني رقم 32/2008 على: وتهتدي الوزارة بوجه عام في تطوير علاقات السلطنة الخارجية وتوطيدها بالفكر السياسي لجلالة السلطان المعظم.
على ضوء ذلك يمكن التأكيد على ان الفكر السياسي لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه - والذي يتمثل في جانب منه بخطاباته في مختلف المناسبات, وكذلك اللقاءات الصحفية والإعلامية معه. منذ اليوم الأول الذي تسلم فيه زمام الحكم في البلاد بتاريخ 23 يوليو من العام 1970م . المرجعية السياسية الأساسية والأصيلة التي تسير بناء عليها أولا , وتفسر السلوكيات السياسية والواقع العملي والتطبيقي للمبادئ الموجهة لسياستها الخارجية العمانية وعلاقاتها الدبلوماسية مع مختلف دول العالم ثانيا.
على ضوء ذلك، سنحاول "باختصار غير مخل" تناول الرؤية السلطانية واستقراء الفكر السياسي لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم – حفظه الله - لما يطلق عليه في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالتحالفات والتكتلات الدولية, والوضع الذي اراد جلالة السلطان لسلطنة عمان ان تكون عليه حيال تلك التحالفات الإقليمية والدولية, وهل انضمام السلطنة إلى بعضها أو عدم الانضمام إلى بعضها الآخر يعد خروجا عن الفكر السياسي الذي رسم معالمه حضرة صاحب الجلالة للسياسة العمانية الخارجية. وبالتالي المبادئ السياسية الخمسة الموجهة للسياسة الخارجية العمانية الواردة في خطاب صاحب الجلالة بمناسبة العيد الوطني الثاني بتاريخ 18/11/1972م ؟ وما هي المبادئ والقيم الأخلاقية التي تحكم وتوجه العلاقات والسياسات العمانية المتعلقة بهذه الأحلاف والتكتلات العابرة للحدود الوطنية؟
بالرجوع إلى الخطابات السلطانية واللقاءات الإعلامية والصحفية لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم – حفظه الله ورعاه - منذ العام 1970م نجد ان الفكر السياسي لصاحب الجلالة اهتم كثيرا وبوقت مبكر بمواضيع التحالفات والتكتلات الدولية بمختلف اشكالها وتوجهاتها, خصوصا تلك التي كان لها دور جيوسياسي في تغيير خارطة منطقة الشرق الأوسط, ولعبت دورا لا يقل خطورة في سعيها لتحقيق طموحاتها العدوانية على الأراضي العمانية, وكذلك تلك التحالفات التي كان لها دور في تغيير رقعة الشطرنج الدولية أثناء ما اطلق عليه بفترة الحرب الباردة, اي الدول التي انقسمت بين المعسكرين الشرقي الذي قاده الاتحاد السوفيتي السابق, والمعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية. ونلاحظ كثيرا تناول جلالته للقضايا المتعلقة بهذا النوع من التحالفات والتكتلات العابرة للحدود الوطنية في خطاباته ولقاءاته الصحفية والإعلامية, وهو ما يدل على ان الفكر السياسي لعاهل البلاد ليس نتاج نظريات سياسية لا تبت للواقع والتجربة السياسية بصلة, بل هو اثبات بأن هذا الفكر هو حصيلة لتجارب واقعية صقلت النظرية السياسية بالواقع العملي والتجربة.
وكانت أول الإشارات التاريخية المباشرة إلى هذا النوع من الكيانات والتجمعات في الفكر السياسي لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم في الحديث الصحفي الذي ادلى به لجريدة السياسة اللبنانية بتاريخ 26/يناير/1974م , والذي كان فيه رافضا وبشكل قطعي لكل اشكال وانواع التحالفات والتكتلات, وهو ما اكده جلالته ـ حفظه الله بقوله (نحن ضد الأحلاف أو التكتلات مهما كان نوعها. ولكننا لسنا ضد المساعدات). ولفهم هذه الرؤية السلطانية لا بد من تقصي الفكر السامي سواء كان ذلك من الناحية النظرية أو التطبيقية, وبالتالي ضرورة العودة إلى الواقع السياسي "التطبيق العملي للنظرية السياسية "وكذلك إلى الفكر والتوجه النظري الذي طالما كان الأساس والقاعدة التي تتحرك بناء عليها السياسات والتوجهات العمانية في جانب السياسة الخارجية والعلاقات الدولية والدبلوماسية مع العالم.
لذا يمكن التأكيد في هذا السياق على أن ما قصده جلالته من خلال الرفض القاطع للتحالفات والتكتلات كان يقصد به تلك الموجهة بشكل عدواني ضد الدول والشعوب, أو تلك التي تسعى لتحقيق غايات غير سلمية من وراء أهدافها وسياساتها, وليس التحالفات والتكتلات التي تنشأ لتحقيق غايات نبيلة وسلمية, أو لأهداف ذات منفعة وفائدة سواء كانت تجمعا دوليا هادفا لتحقيق غايات وأهداف اقتصادية أو سياسية أو أمنية أو عسكرية وما إلى ذلك.
أما المقصود بالمساعدات في هذا السياق كذلك, فهو ذلك النوع الذي تقوم الدول فيه بمساعدة بعضها البعض بالتعاون والتكاتف لدرء العدوان والوقوف مع بعضها في قضاياها العادلة والمصيرية وتحقيق استقلالها وحريتها, ولكنه يرفض كل اشكال التحالفات والتكتلات مهما كان شكلها ما دام الهدف من ورائها الاعتداء على سيادة الدول واستقلالها, أوالسعي لاستعمارها واحتلالها أو قلب أنظمتها السياسية أو غير ذلك من التوجهات السياسية أو العسكرية العدوانية, وهو ما تؤكده الواقعية العمانية وواقع تطبيق الفكر السياسي لصاحب الجلالة على سلوكيات وتصرفات وسياسات الدولة العمانية في سياساتها وعلاقاتها مع دول العالم منذ العام 1970 وحتى يومنا هذا.
ويلاحظ هنا: ان ذلك الرفض هو نتاج تجربة مريرة خاضتها سلطنة عمان في حربها مع مجموعة الدول المتحالفة والمدعومة من قبل الاتحاد السوفيتي السابق" التغلغل الشيوعي", والتي سعت لبث سمومها وشرورها في الأراضي العمانية كما سبق واشرنا. وهو ما وضحه جلالته بشكل صريح حول الأحلاف العدوانية سالفة الذكر في مواضع أخرى, وضرب مثالا عليها في وقتها " بحلف عدن الثلاثي" المدعوم من قبل الاتحاد السوفيتي السابق حين وجه لجلالته سؤالا بتاريخ 8/11/1981م : المحرر: قام بين ليبيا واثيوبيا واليمن الجنوبي شبه حلف, فما رأي سلطنة عمان في ذلك, وهل ترى الخطر الجديد خطرا على المنطقة؟ فأجاب جلالته (يؤسفني ان اقول ان تصورنا للتوسع السوفيتي واطماعه في المنطقة قد أثبتت صحته, وان الحلف الثلاثي ليس الا مؤشرا جديدا لتأكيد نية الاتحاد السوفيتي العدوانية).
وهو امر اقتضى حينها توجيه سياسات السلطنة بطريقة متوازنة ومتوازية بين الأفعال السياسية والعسكرية وردودها, ما رجح لجلالته اختيار ما يطلق عليه بمبادئ الحياد الإيجابي الذي لا يرفض قطعا التعاون أو التنسيق مع أي قوة أو تحالف أو تكتل يساهم في خلق توازن في صراع يلامس بشكل مباشر المصالح الوطنية واستقرار الدولة العمانية أو يشكل تهديد مباشر لها بوجه خاص, ولكنه وفي نفس الوقت لا يحبذ الدخول في تكتلات واحلاف تهدف إلى خلق تلك الصراعات والتنافسات السياسية والعسكرية, أو تساهم في اشعال الحروب واذكاء نارها, ما يمكن بكل تأكيد ان يضر بمصالح الدولة العمانية واستقرارها وامنها الوطني. عليه وكما يؤكد جلالته: من الواجب على عمان تطوير علاقاتها مع اصدقائها في العالم احتراسا من مغبة هذه الأطماع- يقصد الأطماع السوفيتية في المنطقة – وانا وشعبي لدينا تجربة عملية عما يعنيه مثل هذا التهديد لدولة صغيرة ذات سيادة وعلى كل, فإننا لن نقبل ان نكون من ضحايا هذا التهديد) مجلة ديفنس اند دبلوماسي الأميركية بتاريخ 18/12/1983م.
كما تطرق جلالة السلطان إلى موضوع التحالفات والتكتلات الدولية من خلال رؤيته وفكره السياسي - حفظه الله- إلى شكل التوازنات القطبية المتعلقة بالقوى الدولية من الناحيتين الجيوسياسية والجيواستراتيجية في وقتها "عقد الثمانينات من القرن الماضي" فيما اطلق عليه بالمعسكرين الغربي والشرقي, وكيف ينظر إلى الصراع المشتعل بين قادة تلك التيارات والاتجاهات العسكرية , واين تقف الدولة العمانية من كل ذلك. ففي سؤال وجه لجلالته حول التوازن الأميركي – الروسي من قبل مجلة المجلة بباريس بتاريخ 3/5/1982م, اجاب جلالته: (ان الوجود الأميركي أو الأصح الغربي في المحيط الهندي والمنطقة المحيطة بنا. هو لإيجاد نوع من التوازن مع الوجود السوفيتي, فالواقع ان ذلك كله نشأ نتيجة الوجود الروسي في المنطقة, مما حتم الوجود الغربي لإيجاد نوع من التوازن, ونحن نؤمن بالتوازن, لأن التوازن يزيل الخطر, وعدم وجود التوازن يزيد الخطر), وهو دليل واضح على نوعية التوجه السياسي والعسكري الذي رسم ملامحه وخطوطه العريضة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم للسياسة الخارجية العمانية , وشكل علاقتها مع القوى الدولية في ذلك الوقت.
عليه يمكن التأكيد على ان السياسة الخارجية العمانية لم تكن يوما بمعزل عن الأحداث الدولية, وانها دائما ما كانت لاعبا قادرا على تغيير التوازنات السياسية والعسكرية في المنطقة, وهو دليل واضح على الدور المتوازن للسياسة الخارجية العمانية والذي يؤكد مبادئ الحياد الإيجابي واختيار القضايا المناسبة لمصالحها الوطنية الاستراتيجية, وليس كما يشاع بأنها تحبذ الانزواء أو الابتعاد عن الأحداث أو السلبية السياسية, ولكن اختيارها للزمان والمكان والقضية مسألة غاية في الأهمية, وطالما كانت تلك ابرز المعايير والأسس الرئيسية التي تتحرك بناء عليها السياسة الخارجية العمانية.
وبمعنى آخر, ان السياسة العمانية المتعلقة بالتحالفات والتكتلات مسألة خاضعة للمصالح القومية العمانية اولا, ولما ينسجم منها مع المبادئ الموجهة لسياسات الدولة العمانية وليس للعاطفة أو الاندفاع أو التسرع أو الضغوط السياسية مكان في ذلك, وهو ما اكده حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ـ في لقاء له مع صحيفة السياسة الكويتية بتاريخ 3/11/1983م , ففي سؤال موجه له: جلالة السلطان, لماذا في نظرك يتم انتقاد سلطنة عمان في موضوع التسهيلات لأميركا في وقت توجد تسهيلات لها في دول اخرى؟ فأجاب جلالته: (كل الدول الصغيرة لها علاقات مصالح مع الدول الكبرى, ونحن ضمن منظور مصالحنا الوطنية اخترنا من هذه الدول من نعتقد ان هناك انسجاما بين فكره السياسي وبين فكر بلدنا, نحن لا ننتقد احدا, ولكننا نسير في خطواتنا وفق مقتضيات مصالحنا الوطنية وبكل تأكيد ضمن مجريات مصالحنا الوطنية).
خلاصة الأمر, ولمن يسأل عن الدور العماني الصريح حيال تلك التحالفات سابقا وقادما, فقد اجاب جلالته عن ذلك بشكل صريح ومباشر في لقاء صحفي له مع مجلة المستقبل بتاريخ 30/10/1983م بقوله – حفظه الله – (ان طموحات عمان السياسية ان تحافظ دائما على التوازن في جميع السياسات, وان تحد من التطرف في اي اتجاه, وهذا هو الدور الذي تسعى السلطنة دائما وتطمح في ان تنجح فيه) وهو ما يؤكد ويوضح بلا شك الدور الجيوسياسي الذي لعبته السلطنة حيال توازنات القوى في منطقة الشرق الأوسط في حينها , وما زالت تسير عليه حتى يومنا هذا, لأنه اثبت بأنه الخيار الصحيح لتحقيق وجود مستقر وامن لشعوب المنطقة ودولها, ولصناعة توازن جيوسياسي بين تطرف بعض الاتجاهات السياسية والعسكرية التي يمكن ان تخلق التوتر وعدم الاستقرار وانعدم للتوازن بتوجهاتها في منطقة الشرق الأوسط, كما ان ذلك يعني بلا شك استقلالية السياسة العمانية في اختيار حلفائها واصدقاءها بما يتلاءم وسياساتها ومصالحها الاستراتيجية.

محمد بن سعيد الفطيسي باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية رئيس تحرير مجلة السياسي – المعهد العربي للبحوث والدراسات الاستراتيجية [email protected]