الإنسان هو هدف التنمية وأداتها، وهذه المتلازمة تعني ببساطة أن التعليم والتدريب هما اللذان يوفران كوادر وطنية قادرة على إحداث التنمية الشاملة المستدامة، التي تثمر وفرة ورخاء ينعم به الجميع، ولطالما كان الهدف من سنوات الدراسة بالجامعة والكلية هو إعداد كوادر قادرة على بناء الحاضر، والاستعداد لمستقبل مهني واضح المعالم إلى حد كبير، فإنه يمكن القول إن هذا يعد أحد أوجه الترجمة الفعلية للحقيقة القائلة بأن التعليم بطبيعته أداة صناعة المستقبل، ليس مستقبل أولئك الذين أنهوا دراستهم الجامعية وحدهم، وإنما مستقبل بلادهم والإنسانية جمعاء.
وحتى يحقق التعليم العام والعالي أهدافه وغاياته، يجب أن يرتكز على رؤية علمية للواقع، تحدد احتياجاته ومتطلباته الآنية والمستقبلية، وعلى أساس منها يتم وضع مناهج الدراسة وتخصصاتها وبرامجها، ومراجعتها وتنقيحها باستمرار لكي تستجيب للتطورات المتلاحقة المتسارعة في العلم والتكنولوجيا، وتلبي الحاجة الفعلية لسوق العمل، وتحقق أفضل معدلات الجودة في مخرجات التعليم، وفقًا للمعايير الدولية المعمول بها.

ويتوازى مع مسيرة التعليم العام والعالي ضرورة الاهتمام باستقصاء الطلب على التخصص والوظيفة والمهنة في جميع القطاعات؛ لمواكبة التنامي الذي يشهده عادة سوق العمل، والمتغيرات التي أصبحت صفة لازمة من صفات السوق؛ لكونه مرتبطًا بالتنمية من ناحية، ومرتبطًا بالحياة العصرية التي تفرز كل يوم جديدًا، وتتطلع دائمًا إلى الجديد من الابتكار والإبداع والاختراع، وبالتالي تَتبُّع نسب الطلب على الوظائف والمهن من قبل سوق العمل، ورصدها بالبحث العلمي القادر على رصد الظواهر وتحديد القضايا والمشكلات وبلورتها بصورة دقيقة، لإيجاد حلول لمشاكل الواقع، وترشيد مسارات خطط وبرامج التنمية بما يضمن أن تحقق أهدافها، ومن ضمنها توفير قاعدة وطنية من الخريجين الأكفاء في مختلف التخصصات، قادرة على توفير حلول علمية وطنية لمشكلات الواقع المحلي، لا سيما وأن ارتفاع أعداد الخريجين وما يقابله من ارتفاع مطرد في أعداد الباحثين عن عمل، يتطلب وجود قاعدة بيانات صحيحة تمكن الجهات المعنية بالتوظيف من إيجاد الأماكن الصحيحة والمتوافقة مع التخصص، وسد الاحتياج الفعلي من الوظيفة، ومعرفة نسب المخرجات في كل تخصص، بحيث لا يكون هناك إغراق وتكدس في الخريجين في تخصص معين، يقابله شح وعجز في تخصصات أخرى، بالإضافة إلى أن الرجوع إلى قاعدة البيانات الخاصة بالخريجين، وإلى قاعدة البيانات الخاصة باحتياجات سوق العمل، يمكن المؤسسات المعنية بالتعليم والتوظيف من تحديد أعداد الطلاب في كل تخصص، ومعرفة أي التخصصات الأكثر توظيفًا، كما أن تحديد الخريج ميوله واهتماماته ورغباته بكل مصداقية منذ البداية ستنعكس عليه عند انخراطه في الوظيفة أو المهنة، وتُعِين الجهات المعنية على توفير المقاعد الدراسية في التخصصات التي تتوافق مع ميوله ورغباته.

ويمثل مسح الخريجين لعام 2017م الذي تنوي وزارة التعليم العالي تنفيذه اعتبارًا من الأحد القادم ولمدة شهر، أهمية بالغة بالنظر إلى معطيات الواقع الماثلة في ارتفاع نسب الباحثين عن عمل، وشح فرص العمل المتوافرة لا سيما في القطاع العام، في الوقت الذي يشهد فيه القطاع الخاص ارتفاعًا كبيرًا ومتناميًا في أعداد الأيدي العاملة الوافدة التي سيطرت بصورة واضحة على فرص عمل كان من المفترض أن يشغلها باحثون عن عمل مواطنون، والسبب في ذلك قد يعود إلى طبيعة الوظيفة والمهنة من حيث عدم وجود خريجين، أو رفض بعض الخريجين القبول بالمتاح من الوظائف إما لضعف الراتب أو لأسباب خاصة، وهذا الترفع في حد ذاته سبب كبير من أسباب ارتفاع نسب الأيدي العاملة الوافدة؛ لذلك التواضع أمام الأعمال المتاحة وإن بصورة مؤقتة، مطلوب من قبل الخريج ليحصل على المهارة والخبرة والعائد المادي ولو كان ضئيلًا؛ وهو ما سيؤهله للمنافسة على فرص عمل أفضل، ومن هنا وجب على الخريجين المستهدفين بالمسح أن يتحلوا بالمسؤولية الوطنية تجاه أنفسهم وتجاه وطنهم، وأن يبادروا إلى تعبئة الاستمارة الإلكترونية المخصصة وملئها بالبيانات المطلوبة بكل شفافية ومصداقية، خاصة وأن هذه البيانات تعامل على أنها شخصية ويجب أن تحاط بالسرية، فمبادرتهم هذه مثلما تخدمهم ستخدم الأجيال القادمة، ومسيرة التنمية الشاملة في البلاد.