[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/suodalharthy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]سعود بن علي الحارثي[/author]
” أمثلة متنوعة لشهادات وآراء وأحكام يزدحم بها الفضاء، سواء أضاق ذاك الفضاء كلما شهد لقاءً لشخصين أو أكثر، أم اتسع لتمتد تلك الآراء والشهادات في الآخر إلى المنتديات ووسائل التواصل وإلى غرف المكاتب والمقاهي وغيرها، آراء منفلتة، سلوك خطير، شهادات فارغة من الدليل والحجة والبرهان، أحكام ارتجالية تطلق جزافا على الآخر اتسع نطاقها وشاع استخدامها”
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أجزم بأن فلانا القابع في كرسيه الوثير لا يستحق المنصب الذي وضع فيه لأسباب عديدة منها: التخصص العلمي الذي يحمله بعيد كل البعد عن اختصاصات الوظيفة ومهامها، شخصيته الهزيلة وما يتركه من انطباعات مهزوزة وملتبسة لدى كل من يلتقيه ويجلس ويتحاور معه، سوف تشهد إدارته ضعفا وتراجعا في الأداء، والدليل على ذلك التخبط الذي شهدته الإدارة السابقة التي كان مسئولا عنها، مع عدم اغفال ما بين الإدارتين من تفاوت في الأهمية، فالأولى كانت محدودة المهام صغيرة في عدد العاملين فيها، ولو استشرت في ذلك لقلت رأيي عنه بوضوح وبرهنت بما أملكه من معلومات ودلائل على عدم قدرته وأهليته على تقلد هذا المنصب الحساس والكبير. وفلان الذي يعيش في غناه الفاحش المتمتع بالأموال التي تتضاعف يوما إثر يوم إنما اختلسها بشتى الحيل والوسائل ومنها على سبيل المثال العمولات الكبيرة التي قبضها مقابل إمضائه على اتفاقيات وعقود مشاريع كبيرة، وتتواصل تلك العمولات أحيانا حتى مراحل التنفيذ وذلك بحكم منصبه المعروف الذي يسمح له بذلك، فالرجل لم يكن يملك مالا حتى لشراء منزل يعيش فيه مع أسرته قبل اعتلائه المنصب الذي يشغله، ولم يرث مالا عن قريب، فمن أين له تلك الثروة إن لم يكن قد أخذها بطرق غير مشروعة ؟ . أما فلان ذلك الأمين المخلص الكفء فلم يزل على وظيفته العادية البسيطة برغم السنوات التي قضاها، إنه ضحية لجرأته وشجاعته، ويدفع اليوم ضريبة أمانته التي قادته إلى الكشف عن العديد من الاختلاسات والتجاوزات وأوجه الفساد وشبهه، وتصميمه من ثم في المضي قدما في قول الحق مهما كان الثمن، وإلا فلماذا صعد أقرانه جميعا إلى وظائف أعلى واستمر هو في جموده الوظيفي والمالي رغم شهادة الجميع واعترافهم بالجهد الكبير الذي يقوم به في عمله وعلى بذله غير المحدود وعطائه الوظيفي ومبادراته القيمة ؟ . وذاك المسئول المتحكم، يتعامل مع الموظفين في المؤسسة بحسب ما يمليه عليه هواه، ويتخذ قرارات العلاوات والترقيات وتوزيع المناصب على ضوء المصالح والعلاقات الشخصية والارتباطات العائلية، وما تراه المؤسسة من تراجع ومن تأزم إداري وما يعتري الموظف فيها من سخط وإحباط وتبرم، وما يتبعه هذا المسئول من نهج قائم على وصد أبواب الحوار مع المحتجين على هذه السياسة كلها أدلة دامغة على ذلك. وهذا الموظف الجديد الذي يتمايل غطرسة وكبرا واعتدادا بالنفس كما تراه ماثلا في مشيته وفي أسلوب حديثه المتعجرف ومقابلته للآخرين ألا يدرك بأن الزمن تجاوزه وبأن هذه العقليات لم يعد لها من مكان في عصر التقنية والعلم والانفتاح والتقدم، وبأن المحيطين به لم يعودوا يهتمون أو يكترثون بمكانة أسرته الاجتماعية فتاريخها الذهبي مضى إلى غير رجعة. أما صاحب المشروع التجاري الذي يتلقى التهاني والتبريكات والاشادة من كل صوب وحدب على نجاح مشروعه في وقت قياسي، أو لا يدري هؤلاء المصفقون والمتزلفون أن هذا النجاح ما كان ليتحقق والمشروع لن يقوم أصلا لولا دعم عمه الوزير والخدمات والامتيازات الكبيرة التي حصل عليها بسبب تجاوز الكثير من القوانين وتملقا وتزلفا لعمه. هل تعلم بأن الكاتب الذي يتم تداول مقاله اليوم في وسائل التواصل، لم أقرأ له ولا مقالا واحدا قط، فموضوعات مقالاته المروجة للسياسات الحكومية والمنحازة لقرار هذا الوزير أو ذاك لم تعجبني ولم أرتح لها أبدا، فلا شك لدي بأنه وظف قلمه من أجل تحقيق مصالحه الشخصية والتقرب من المسئولين وتوطيد العلاقة بهم . وتستمر الأحكام الارتجالية لتطال الطبيب والبائع وإمام المسجد والفقيه والمثقف وكل ناجح ... إلى آخر القائمة هذا إن كان للقائمة نهاية أصلا .
أمثلة متنوعة لشهادات وآراء وأحكام يزدحم بها الفضاء، سواء أضاق ذاك الفضاء كلما شهد لقاءً لشخصين أو أكثر، أم اتسع لتمتد تلك الآراء والشهادات في الآخر إلى المنتديات ووسائل التواصل وإلى غرف المكاتب والمقاهي وغيرها، آراء منفلتة، سلوك خطير، شهادات فارغة من الدليل والحجة والبرهان، أحكام ارتجالية تطلق جزافا على الآخر اتسع نطاقها وشاع استخدامها حتى أضحت جزءا مهما من ثقافة الكلام وفعلا طبيعيا لم يعد يثير احتجاجا وتمحيصا من فرد أو مجموعة يصل إليها، بل قد تشارك فيه وتعتد به وتساهم في نشره، وبرغم مثالبه العديدة وانعكاساته الخطيرة إلا أنه لم يخلق في الغالب رأيا مخالفا ناهيا ولم يظهر سخطا أو تبرما من المستمعين إليه. تلك الأحكام يطلقها إنسان على إنسان آخر لا أواصر قرابة بينهما أو سابق معرفة أو حتى رؤية مباشرة تربطه به، ولم يستمع إليه في حديث مباشر ولم يتعرف على شخصيته بل ولم يقرأ له مقالا واحدا، فما هي المعايير والأسس والحيثيات والأدلة والمؤشرات التي استند عليها في إطلاق مثل تلك الأحكام الارتجالية؟ هل هو الحسد والغيرة من النجاح مقابل فشل واخفاق وبالتالي ينطبق على تلك الأحكام ما جاء في المثل العربي (متى ما دخلت الغيرة خرجت الحقيقة من الرأس)؟ هل هو الفراغ الذي يعيشه الكثيرون فملأوه بالاشتغال بعيوب الناس والقدح فيهم متناسين عيوبهم التي تعاظمت وتجاوزت المتهم دون دليل ؟ وإن كان ذلك كذلك فأين عنهم قول سيد الخلق (طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس)، وقوله صلى الله عليه وسلم (المسلم من سلم الناس من لسانه ويده) . أسباب كثيرة ودوافع متباينة وعوامل شتى تحفز وتنشط هذه الظاهرة ثقافيا واجتماعيا وترتبط ببيئة العمل واستشراء أوجه الفساد واهتزاز الثقة في المسئولين والأثرياء والتجار بسبب العامل الأخير، ولكن أيا كان السبب وأيا كان الهدف، فالنتيجة هي أن لهذه الظاهرة مخاطر جمة، تضييع الوقت، إثارة الفتن، الاشتغال بعيوب الآخر، غياب الحقيقة، التضليل، تكريس ثقافة الجهل والتخلف، تعميق الفجوة بين شرائح المجتمع وترسيخ المشاعر السالبة تجاه الآخر وجمع الفاسد والصالح في سلة واحدة والقائمة تطول.

[email protected]