لم يكن أحد ممن خبر السياسة الأوروبية والأميركية ومواقفها من القضايا العربية وخاصة قضية فلسطين، بوارد انتظار أن تتبنى الدول الغربية (ونعني بها تحديدًا بريطانيا والولايات المتحدة) موقفًا مغايرًا عما تبنته من قبل حيال ملف الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وملف القضية الفلسطينية خاصة، ذلك لتعلقه بوضع كيان الاحتلال الإسرائيلي الحليف الاستراتيجي لتلك الدول بما فيها الدولة المستضيفة لاجتماع باريس، ولجهة أنها هي الصانعة لهذا الخنجر المسموم، وأنها هي من قامت بغرزه عميقًا في جسد الوطن العربي؛ لسلب قواه وتفسيخه وفق ما تتطلبه الحالة الاستعمارية والإمبريالية لهذه الدول، وبالتالي كل ما تحاول تقديمه للرأي العام العالمي عامة، والرأي العام العربي خاصة، من شعارات ومؤتمرات وتصريحات لا يعدو عن كونه محطات واجبة، وتراها تلك الدول ضرورية لتلميع صورتها، ولتمديد أمد الاحتلال الإسرائيلي وتجديد الوسائل الممكنة لتثبيت سكين هذا الاحتلال؛ لأنها ليست في وارد الرجوع والتكفير عن هذه الخطيئة الكبرى التي ارتكبتها بحق العرب والشعب الفلسطيني، وبحق المنطقة، فهي ترى في بقاء هذا السكين المسموم ومواصلته إدماء الجسد العربي مصلحة لها، واستمدادًا للحالة الاستعمارية التي بنت عليها صناعة هذا السكين وغرزه في الجسد العربي.
وما تمخض عنه سامر مؤتمر باريس للسلام في الشرق الأوسط لا يخرج عن المحطات التي ذكرناها آنفًا، بدليل الهزال الذي جاء به البيان الختامي للمؤتمر، وتحفظ صاحبة وعد بلفور المشؤوم (ونعني بها بريطانيا العظمى الاستعمارية) على البيان ورفضها التوقيع عليه ومعها أستراليا، وبالتالي هذه الدول منفردة أو مجتمعة باتت جزءًا أصيلًا من مشروع الاحتلال الإسرائيلي، وصاحبة دور أساسي في رعايته ومد أذرعه في المنطقة؛ لذلك طوال أكثر من ستة عقود على النكبة الفلسطينية ونكبة العرب، لم تكتفِ فقط هذه الدول بالرؤية بعين واحدة عوراء إلى جرائم الحرب والممارسات غير الأخلاقية والانتهاكات ضد الإنسانية التي يمارسها المحتلون الإسرائيليون صباح مساء بحق الشعب الفلسطيني الأعزل، وبحق شعوب ودول المنطقة وخاصة شعوب ودول المنطقة الداعمة للشعب الفلسطيني ولمقاومته، وإنما أخذت تجند انتقائيتها لتكون وسيلة إضافية لإغراق المنطقة في مستنقع الإرهاب الإسرائيلي وجرائم الحرب والموبقات الإسرائيلية، وأن تصبح جزءًا من حملة النفاق الغربي، وقاعدة متقدمة لقصف أي محاولة يستشف منها الرغبة في الخروج من كهوف الوصاية والرعاية الأوروبية ـ الأميركية لهذا الاحتلال البشع. لهذا ظهرت بريطانيا وأستراليا بدور أكثر افتضاحًا من الشريك الأميركي، الذي يتحضر للمجابهة العلنية على الجبهات الخارجية، ويُحضِّر مسرح منظمة الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى وغيرها ليوكل إليها مهمة الأدوار القذرة المساندة للتوجهات الأميركية "الترامبية" الجديدة الساعية إلى إضفاء المزيد من الوسائل الداعمة لمشروع الاحتلال الإسرائيلي، بما يعطيه مزيدًا من إمكانات التنمر والتمرد والوحشية ضد كل ما هو فلسطيني وكل ما هو عربي.
إن الموقف البريطاني يمثل صورة في غاية القبح والسوء والنفاق لدولة مثلها تتحدث عن القيم والمبادئ والأخلاق والعدالة، في حين تدعم الإرهاب الإسرائيلي الذي يمثل النازية الجديدة، مع أنها حاربت مع الحلفاء النازية وللتخلص منها. كما يمثل هذا الموقف البريطاني الشائن صورة أخرى من صور حماية وعد بلفور المشؤوم.
لذلك، نجدد القول بأنه لم يكن أحد بوارد انتظار حصول انقلاب في مواقف الدول الصانعة لسكين الاحتلال الإسرائيلي المسموم والغارزة له في الجسد العربي، ولا أن تنتهي حالة الاستلاب والكذب والنفاق التي تمارسها القوى الغربية بين ليلة وضحاها.