[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/khamis.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]خميس التوبي[/author]
لم يكن يتوقع قادة دول الاتحاد الأوروبي أن تصل دولهم قذائف الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب وبهذه القوة، والتي حرص على إطلاقها في أكثر من اتجاه أثناء حملته الانتخابية، وبعد فوزه الانتخابي وحتى قرب موعد تنصيبه رئيسًا للولايات المتحدة، ذلك أن الفهم الأوروبي للسياسة الأميركية ينطلق من أن الولايات المتحدة وحدها غير قادرة على فرض هيمنتها على العالم بدون "بيبيها" (القارة العجوز)، وأنها وجدت في حلف شمال الأطلسي ضالتها وعصاها القوية في فرض هذه الهيمنة من جهة، وضمان التبعية الأوروبية المطلقة لها من جهة أخرى؛ وبالتالي الاقتراب الأميركي من مكانة الحلف بالانتقاد أو مجرد محاولة المساس بكينونته، تثير علامات استفهام كثيرة.
لقد كان لافتًا الفعل ورد الفعل بين ترامب وقادة الاتحاد الأوروبي، حيث خرج الأول على ثوابت السياسة الأميركية لينال بالانتقاد من مكانة أوروبا وحلف شمال الأطلسي، مشيدًا في الوقت ذاته بالقرار البريطاني بالخروج من الاتحاد الأوروبي، مؤكدًا (ترامب) في مقابلتين مع صحيفتي "بيلد" الألمانية و"تايمز" البريطانية أن بريطانيا "كانت على حق" باتخاذها قرارًا بالخروج من الاتحاد الأوروبي الذي تسيطر عليه ألمانيا برأيه، وتوقع أن يكون بريكست "أمرًا عظيمًا"، وأن يحض دولًا أخرى على الخروج من التكتل الأوروبي. وهو ما دفع بالمقابل قادة الاتحاد الأوروبي إلى الرد على ترامب، مؤكدين وجوب إبداء "وحدة الصف" و"الثقة" في مواجهة هذه الهجمات، وضرورة "عدم استسلام الأوروبيين للإحباط"، وأن "على أوروبا في المرحلة الحالية حيث ضعفت قوتنا، أن تستدرك الأمر، علينا التصرف بثقة والدفاع عن مصالحها الخاصة".
وبغض النظر عن هذا السجال ومداه وواقعيته، بل ومصداقيته، فإن أوروبا والولايات المتحدة لا تستغني إحداهما عن الأخرى، فهما كعضوين من الجسد يجمعهما لباس واحد، ولا يمكن في المستقبل القريب رؤية إمكانية حدوث طلاق بائن بينهما؛ فالولايات المتحدة غرست مزاعم مغلوطة في الفكر الأوروبي وخاصة حول عدوها اللدود روسيا الاتحادية بأن القارة العجوز مستهدفة من الدب الروسي، وأنها لولا الولايات المتحدة وقوتها العسكرية والاقتصادية لكانت وستكون فريسة له، ولم تتوقف واشنطن عن رعاية هذه المزاعم تارة واحدة، وتعميقها ثقافة في كل جيل من الأجيال الأوروبية، وبهذا الأسلوب استطاعت واشنطن أن تأخذ القرار الأوروبي رهينة لها، بل إن هذا القرار دائمًا ما يأتي مبنيًّا أو تابعًا للقرار الأميركي حيال ملفات كل القضايا التي تشغل بال الولايات المتحدة، حتى لو كان هذا القرار على حساب الأمن القومي لأوروبا وعلى حساب اقتصادها ورفاه شعوبها. وهذا ما بدا بارزًا وملاحظًا من خلال العقوبات الاقتصادية التي عملت إدارة الرئيس باراك أوباما على فرضها تباعًا ضد روسيا الاتحادية، وقد أثرت بصورة كبيرة جدًّا على الاقتصاد الأوروبي، وبدا تأثير ذلك واضحًا على المزارع والصانع والمنتِج الأوروبي، وكما هو معروف أن روسيا كانت تمثل سوقًا كبرى للمنتجات الأوروبية. وبالنظر إلى حساب الربح والخسارة، نجد أن الولايات المتحدة وحدها الرابحة من الحماقة والتبعية الأوروبية، والمواطن الأوروبي الخاسر الأوحد، وكذلك الحال بالنسبة لما يتعلق بالجانب العسكري الذي يتطلب مضاعفة الإنفاق وعلى حساب جوانب تنموية أهم في دول القارة العجوز.
والسؤال الذي يطرح ذاته هو: ما الذي تغير إذن، حتى تقلب الولايات المتحدة ـ عبر رئيسها المنتخب ترامب ـ ظهر المجن حيال أوروبا وحلف شمال الأطلسي؟
والجواب هو لا شيء تغير؛ فالولايات المتحدة بعد خوضها مغامراتها العسكرية الحمقاء ضد أفغانستان والعراق وتكبدها الخسائر المادية والبشرية، وانعكاس انفاقات ذلك على الاقتصاد الأميركي، أدركت أنها إلى تراجع وانزواء، وبالتالي غير قادرة على فرض هيمنتها بالقوة الخشنة، فيما القوة الاقتصادية نخرتها الديون الباهظة، وهو ما قد يودي بها يومًا ما إلى التفكك والانحلال مثل الاتحاد السوفيتي الذي كان الجانب الاقتصادي سببًا مباشرًا في تفككه وانحلاله. لذلك تحاول الولايات المتحدة وعبر دونالد ترامب ترميم قوتها واستعادة دورها العالمي انطلاقًا من ترميم قوتها الاقتصادية، الذي يعد خفض الإنفاق أول القرارات المتخذة.
على أن الزوبعة الأميركية التي أثارتها قذائف ترامب على أوروبا وحلف شمال الأطلسي، لا تخرج ـ في تقديري ـ عن أمرين يمثلان أولوية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب وللولايات المتحدة ذاتها:
الأول: مكانة كيان الاحتلال الإسرائيلي، والعمل على تأمين بقائه، وعدم الإتيان أو الإقدام على خطوات أو مواقف تمسه أو تعرقل مشروعه الاحتلالي أو تُعطِّل أحلامه التلمودية التي يسعى إلى تحقيقها، والمتمثلة فيما يسمى "الدولة اليهودية" والقدس الموحدة العاصمة الأبدية لها. وبالتالي هنا لا بد من ربط الأحداث بعضها بعضًا، فقذائف ترامب تجاه أوروبا و"الناتو" جاءت متزامنة مع المساعي الأوروبية لإحلال السلام في الشرق الأوسط، وتنظيم فرنسا مؤتمر باريس للسلام، الذي رفضه جملةً وتفصيلًا كيان الاحتلال الإسرائيلي، والذي نصت نتائجه على أن أي حل للنزاع بين الفلسطينيين والإسرائيليين يجب أن يستند إلى حدود العام 1967 وقرارات الأمم المتحدة، والتزام كيان الاحتلال الإسرائيلي بهذه القرارات والانسحاب من الأراضي التي احتلتها في هذا العام، وهو ما يرفضه المحتلون الإسرائيليون، ويعملون على تجاوزه واغتصاب الأراضي وتغيير الحدود.. وهذا ـ دون شك ـ ما أزعج دونالد ترامب الذي أعلن عن عزمه على نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس المحتلة، وعيَّن سفيرًا له مؤيدًا ومناصرًا للاستعمار الاستيطاني. لذا هذه التصريحات النارية هي رسالة أميركية واضحة بعدم الاقتراب من الاحتلال الإسرائيلي أولًا، وثانيًا دون التنسيق وأخذ الموافقة الأميركية في عهد الإدارة الأميركية الجمهورية. وهذا ما التقطت خيطه بريطانيا وأستراليا برفضهما التوقيع على البيان الختامي لمؤتمر باريس.
الثاني: ضرورة إعادة النظر في جوانب الإنفاق على حلف شمال الأطلسي، وعدم تحمل ميزانية أميركا وبريطانيا وأستونيا واليونان وبولندا وحدها تكاليف الحلف من بين ثمانٍ وعشرين دولة، فقد أكد ترامب في المقابلتين "قلت من وقت طويل إن الحلف الأطلسي يواجه مشاكل" موضحًا "أولًا، تخطاه الزمن لأنه صمم قبل سنوات مديدة، ولأنه لم يعالج الإرهاب. وثانيًا، الدول (الأعضاء) لا تدفع ما يتوجب عليها". وتتحمل الولايات المتحدة حوالي 70% من نفقات الحلف العسكرية، وهذا ما يتعارض مع عامل خفض الإنفاق، وتوجه ترامب نحو مطالبة الدول المحمية من قبل الولايات المتحدة بدفع رسوم الحماية.
إن الأيام القادمة من مباشرة ترامب مهامه الرئاسية ستُبيِّن حقيقة زوابعه وما يرمي إليه من ورائها، فبعد تلاشيها ستتضح مدى حاجة الولايات المتحدة وأوروبا لكل منهما.