”لم يقتصر اتفاق حمص على خروج مقاتلي المعارضة (بأسلحتهم الخفيفة) من وسط المدينة المحاصر من قبل القوات الحكومية منذ نحو عامين فحسب، ولا حتى المقابل وهو الإفراج عن مجموعات من المحتجزين. بل إن الاتفاق اتسع ليشمل فتح ممرات للمساعدات في قرى وبلدات حول حمص محاصرة من قبل الحكومة أو المعارضة.”
ـــــــــــــــــــ
تركز التحليلات والتعليقات التي تعرض لاتفاق انسحاب مقاتلي المعارضة من وسط مدينة حمص في اتفاق مع الحكومة على دلالات عسكرية واستراتيجية وسياسية وغيرها تتعلق أغلبها بمن فاز ومن خسر وحسابات موازين القوى في الحرب الجارية على الأراضي السورية. إلا أن هناك دلالة أخرى أهم بكثير، وإن كانت تبدو في إطار التفكير بالتمني حتى الآن: أن السوريين، حكما ومعارضة، يعودون إلى الحقيقة البسيطة وهي أن حل مشاكلهم بيدهم وبينهم وأن تدخل الخارج لا يجلب إلا مزيدا من الدمار للجميع. ومع الأخذ في الاعتبار كل التفسيرات، وأغلبها مغرضة طبعا تنطلق من مواقف مسبقة من الصراع في سوريا وعليها، تبقى هذه الدلالة مهمة وقابلة للتطوير.
لا يعني ذلك ان كل تلك التفسيرات والتعليقات حول الدلالات لا تخلو من بعض حقيقة. فالقيادة السورية تريد تحقيق انجاز عسكري في صراعها مع المعارضة المسلحة قبل الانتخابات الرئاسية الشهر المقبل، ويسعى مؤيدو الرئيس السوري (حزب الله اللبناني وإيران) إلى احراز نقاط على حساب القوى والدول الداعمة للمعارضة المسلحة. كما أن هناك اهمية استراتيجية لتحييد طريق العاصمة دمشق نحو الساحل الغربي من الصراع المسلح، وبعد معارك القصير والقلمون يأتي "تنظيف" حمص ليحقق تلك الغاية الاستراتيجية. حتى من يقللون من اهمية اتفاق حمص بالقول ان إيران توسطت فيه لتأمين الإفراج عن بضعة إيرانيين محتجزين لدى المعارضة ربما كان في حجتهم بعض مصداقية. لكن في النهاية يمكن ان يكون الاتفاق بسبب كل هذا، وله دلالة أبعد أيضا.
واذا استثنينا الجماعات المسلحة المتسربلة بالدين كداعش والنصرة ومثيلاتها، فإن الجيش الحر وغيره من فصائل المعارضة المسلحة تدرك ـ مهما ادعت غير ذلك ـ أنه لا يمكن الحسم عسكريا في الصراع السوري. وبالتالي فهي تذهب إلى جنيف وغيره من ساحات البحث عن اتفاقات تستهدف تسوية سياسية. وتدرك قوى المعارضة المسلحة أن العالم ليس مستعدا للتدخل العسكري المباشر في سوريا، والذي بدونه لن تستطيع المعارضة المسلحة تحقيق نصر حاسم. وفي المقابل، لعل النظام يدرك ايضا ان ما تم بذره في سوريا من صراع مسلح قبل أكثر من ثلاث سنوات لا يمكن القضاء عليه تماما ولا حتى بحلول سياسية. من هناك يمكن النظر إلى اتفاق حمص ـ وهو بلا شك اتفاق ضرورة في المقام الأول ـ على أنه بداية لنهج ما إذا تم تطويره ربما يخفف من الأضرار الكارثية للصراع في سوريا وإن لم يستبعدها تماما.
لم يقتصر اتفاق حمص على خروج مقاتلي المعارضة (بأسلحتهم الخفيفة) من وسط المدينة المحاصر من قبل القوات الحكومية منذ نحو عامين فحسب، ولا حتى المقابل وهو الإفراج عن مجموعات من المحتجزين. بل إن الاتفاق اتسع ليشمل فتح ممرات للمساعدات في قرى وبلدات حول حمص محاصرة من قبل الحكومة أو المعارضة. وذلك في تصوري هو الأثر الأهم على الاطلاق لاتفاق حمص: تخفيف معاناة السوريين العاديين الذين يدفعون ثمن الصراع المسلح أكثر مما كانوا يعانون من قمع النظام قبل اندلاعه. ورغم ان مؤتمر جنيف2 حاول انجاز اتفاق مماثل وفشل، إلا أن توصل الأطراف السورية المباشرة لذلك الاتفاق ربما يكون أفضل لأنه يصب في احتمال تعزيز ادراك تلك الأطراف أن تخفيف معاناة شعبها (الذي يدعي كل طرف أنه يمثل مصالحه ويدافع عن حقوقه) بيدها هي وداخليا بالأساس.
بالطبع هناك عوامل كثيرة ساعدت في تسهيل التوصل لاتفاق حمص، وان كان من بينها ما بدا من تحقيق الجيش السوري لتقدم في عدة جبهات إلا أنه ليس السبب الوحيد وربما ليس حتى الرئيسي. فبالإضافة إلى الموقف الأميركي الذي يستبعد اي تدخل عسكري خارجي في سوريا لدعم المعارضة المسلحة، هناك مشكلة في كل منافذ الدعم اللوجيستي للمعارضة. فالأردن بدأ يدرك خطر التورط في تسهيل عمل المتطرفين في سوريا، وكان لإبعاد مدير المخابرات السعودية السابق تأثيره في تردد الأردن ـ وربما تراجع دور القوى المعارضة لسوريا في لبنان ـ كما أن الدعم التركي للمعارضة السورية، وتسهيل دخول السلاح والمقاتلين الأجانب للأراضي السورية لم يعد كما كان قبل فترة: من ناحية بسبب نقص الأموال من الدول التي تتكفل بالمعارضة ومن ناحية بسبب تفجر الخلافات الداخلية حول خطر "رعاية الإرهاب" وامكانية انقلابه على الداخل التركي.
ولأن المعارضة المسلحة مرتبطة كليا بالخارج، وتعتمد بشكل شبه كامل على القوى الداعمة لها، فتحركها مرتبط بموازين قوى لا تخصها ولا تؤثر فيها. من هنا كان القتال بين فصائل المعارضة المختلفة بعضها البعض في الآونة الأخيرة أشد من القتال بين كل تلك المعارضة والحكومة. وساهم ذلك ايضا في التوصل لاتفاق حمص، بطريقة غير مباشرة لأنه كان سببا في تقدم القوات الحكومية عسكريا. يبقى في النهاية أن القوى الخارجية لن تتوقف تماما عن دعم المعارضة، كما لن تتخلى ايران وحزب الله عن الحكومة السورية ولن تتفق موسكو وواشنطن على حل حاسم في سوريا (ولديهما أوكرانيا). فعوامل الصراع ما زالت موجودة، لكن نموذج اتفاق حمص لو تم تطويره سيخفف من حدة الصراع ويجنب الشعب السوري مزيدا من الدمار.

د. أيمن مصطفى
كاتب صحفي عربي