[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/ahmedalkadedy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د.أحمد القديدي[/author]
” الدبلوماسية أداة سلام وأمان كما نشأت منذ القدم وهي كذلك دبلوماسية مبادئ كما شهدنا نجاحاتها في بعض الدول حين تتولى التوسط في حل الأزمات القائمة بين الدول والسعي لتقديم العون الاقتصادي والسياسي لدول صديقة برؤية ذكية للسلام الدولي وبسط الأمن في العالم ومن ذلك ما قامت به سلطنة عمان في التوسط السلمي لحل بعض مشاكل الشرق الأوسط.”
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من خلال قراءتنا للأحداث الجسيمة التي تهز العالم في مطلع هذا العام الجديد ندرك أن انقلابا جذريا طرأ على ما نسميه الدبلوماسية أي إدارة العلاقات الدولية. فهي كما عرفناها في الجامعات أو على كراسي المسؤوليات السياسية علم وفن وهي البديل بالمفاوضات التوافقات عن الحرب كما أنها منذ تأسيسها هي الإكتشاف السياسي الراقي الذي جنب العالم ويلات الأزمات الكبرى. واليوم نرى أن التحول في طبيعة العلاقات الدولية وتغيير مسار المجتمعات وتفاقم التدافعات الشعبية وتعقد مفهوم القوة هي مؤشرات جديدة نتج عنها تعريف جديد للدبلوماسية. فانظر معي إلى ما جرى هذه الأيام من طرد 35 دبلوماسيا روسيا من واشنطن بقرار من الرئيس أوباما وهو في أخر عهدته الرئاسية بحجة أن هؤلاء تجاوزوا الأعراف الدبلوماسية وقاموا بالتجسس لحساب دولتهم ثم التدخل في (السيستم) الرقمي للأحزاب بقصد التأثير في نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية لصالح دونالد ترامب! وكما تعرفون أعلن ترامب أنه حال توليه الرئاسة سيعيد الدبلوماسيين المطرودين! كما عين بعد انتخابه (ريكس تيلرسون) وزيرا للخارجية الأميركية وهو رئيس الشركة العابرة للقارات (إكسن موبايل) والصديق الشخصي للرئيس بوتين! وفي سجل آخر نلاحظ أن إسرائيل عزلت دبلوماسيها الإسرائيلي في لندن (شاي ماسوت) بسبب تصريحاته على قناة الجزيرة بأنه يحاول التخلص من أحد الوزراء البريطانيين بسبب مواقفه من الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة ! ثم إن هذه الأحداث جاءت على إثر انقلابات عجيبة في مفهوم الدبلوماسية أهمها ملف (ويكيليكس) والتجاء (جوليان أسنج) الى سفارة أجنبية للنجاة بحريته أو ربما بحياته ثم قضية (جزيف سنودن) الموظف في وكالة المخابرات الأميركية الذي سرب آلاف الوثائق التي تورط وكالته وبالطبع دولته في التجسس على أقرب حلفائها امثال (انجيلا ميركل) و( فرنسوا هولند) وهو اليوم مطلوب من واشنطن وهارب في روسيا ! لا بد أن نقرأ هذه الملفات على ضوء الانقلاب الحاصل في الدبلوماسية فهي لم تعد ذلك الصرح السياسي الصريح الواضح الخاضع بالضرورة الى بنود إتفاقية (فيانا) لعام 1961 بل تحول العمل الدبلوماسي الى ما يشبه (أنفاق) أو (سراديب) لإدارة العلاقات الدولية بالعمل السري واستعمال الدبلوماسيين لا كأداة اقتناص المعلومة السرية كما كانت الدبلوماسية التقليدية دائما بل أصبح مطلوبا من البعثات الدبلوماسية التدخل الفج في شؤون الدول المضيفة حليفة كانت أو عدوة والتأثير على عمليات الانتخابات فيها بشتى الوسائل .. والمبتكرة منها كالذي قامت به الدبلوماسية الروسية في أميركا ولاتزال المخابرات الأميركية توثق له البراهين!
أفضل من حلل هذه التحولات العميقة في الدبلوماسية هذه الأيام هو رئيس الحكومة الفرنسية الأسبق (دومينيك دوفيلبان) في عهد شيراك بعد أن كان وزيرا للخارجية معه وهو سياسي مفكر وكاتب أكن له الاحترام الصادق لمواقفه الحكيمة إبان الغزو الأميركي للعراق حين جنب بلاده مغبة التورط في المستنقع العراقي ونقده الأمين للسياسات الإسرائيلية القائمة على القوة فقط. هذا الرجل خسرته فرنسا بعد أن تحالفت ضده قوى اليمين في مطلع الألفية. في كتابه الأخير الصادر هذا الشهر بعنوان (مذكرات سلام في زمن الحرب) حلل العواصف التي تهب على الدبلوماسية وقال أن فرنسا مع (هولند) إختارت أن ترد بالحرب الشاملة على ما سمته (إرهابا) بعد العمليات الإجرامية التي استهدفت مواطنين أبرياء في باريس. ويقول الكاتب أن هذا الخيار خطأ لأن الحروب بين الدول إنتهت بمفهومها القديم لتحل محلها تحديات منظمات إرهابية أو أفراد متطرفين نسميهم (الذئاب المنعزلة) يهددون أمن المجتمعات لا يمكن التصدي لهم لا بالدبابة ولا بالطائرة المقاتلة لأنهم ليسوا جيوشا نظامية كما كانت الحروب الى نهاية الحرب العالمية الثانية بل مجموعات هلامية سرية مسلحة لا يمكن مواجهتها بالجيوش كما تفعل الحكومة الفرنسية اليوم! يقول الكاتب إن الرئيس (هولند) إستغنى عن الدبلوماسية ولبس بدلة الجنرال لأسباب سياسية بل وإنتخابية ولم يجد هذا الخيار نفعا فالجيوش الفرنسية متواجدة في عدة مناطق متأزمة وموتورة في العالم وطائراتنا تدك مدنا وقرى بعيدة عنا لكن الإرهاب يتفاقم ولا يتقلص فالجيش الفرنسي كما قال (دوفيلبان) تدخل عسكريا أربعين مرة في مناطق عديدة من العالم على مدى الثلاثة عقود الأخيرة ! وهنا فإن الدبلوماسية الفرنسية حسب قوله تنحسر لتترك الدور (الدبلوماسي) لوزير الدفاع (لودريان) ويبقى وزير الخارجية (إيرو) يتفرج بدون عمل نافذ في السياسة الخارجية لدولته! إنها دبلوماسية الحرب و رغم أنها تهدأ من روع الناس مؤقتا فيؤيدونها لكنها في الواقع و على الميدان لا تجدي نفعا بل تأتي بنتائج عكسية مثل تضاعف عدد المنظمات الإرهابية ثماني مرات منذ سبتمبر 2001 الى اليوم !
الدبلوماسية أداة سلام وأمان كما نشأت منذ القدم وهي كذلك دبلوماسية مبادئ كما شهدنا نجاحاتها في بعض الدول حين تتولى التوسط في حل الأزمات القائمة بين الدول والسعي لتقديم العون الإقتصادي والسياسي لدول صديقة برؤية ذكية للسلام الدولي وبسط الأمن في العالم ومن ذلك ما قامت به سلطنة عمان في التوسط السلمي لحل بعض مشاكل الشرق الأوسط. ومازلت أعتقد أن ما ناضل من أجله صديقي المفكر الأميركي (ليندن لا روش) المستشار للرئيس الأسبق رونالد ريجان حين كان الصوت الوحيد المنادي بتغيير جذري في العلاقات الدولية بتعويض فلسفة المنظومة الأطلسية المؤسسة على الحرب والعدوان بمنظومة جديدة تعتمد (طريق الحرير) بالتعاون بين الصين وروسيا وأميركا والهند وجنوب القارة الأميركية بإقامة الجسور وبناء البنيات التحتية وإعادة النظر في رسالة الدبلوماسية لتوظيفها في سبيل التعاون والتنمية العادلة مع احترام حقوق الأمم وطموحها للتقدم والمناعة بدون سيطرة أو هيمنة.
بدأت طلائع هذا المشروع العملاق تتجسد في مؤتمرات تنعقد في بكين وسيتناولها زعماء الدول الأقوى في يوليو 2017 في مدينة هامبورج الألمانية في مؤتمر (الجي 20). هذا المشروع الذي كان حلما لدى (ليندن لاروش) و حدثني عنه بحماس سنة 1985 حين دعاني للغداء في (رانشه) في بنسيلفانيا.