طوكيو تتسلح بـ"تحديث الصناعات" لمواجهة أزمات الديون والشيخوخة وارتفاع الين تمدد المنتجات الأوروبية في آسيا وأفريقيا يهدد نفاذ السلع اليابانية لأسواق "اليورو"

مقدمة:
الأزمة الاقتصادية العالمية تنشر سحبها فى سماء معظم بلدان العالم، ولم ينج من غيومها الاقتصادات الكبرى مثل الولايات المتحدة الأميركية والصين واليابان ودول أوروبا الكبرى، وأسقطت سحب الأزمة الاقتصادية أمطار الركود لتغرق بها ساحات وميادين الاقتصاد العالمي، تبعها انخفاض كمي كبير فى الإنتاج وكذلك عوائد التصدير، وهو ما نتج عنه تقلص فى الأيدي العاملة وتقارب المسافات بين الإيرادات والواردات في الدول المتقدمة اقتصادياً، وتباعدها فى الدول النامية، وبالتالى تأثرت الخطط الاقتصادية وأسعار المنتجات داخلياً وخارجياً.

[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/uploads/2016/04/ayman-hussien.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]أيمن حسين
مراسل الوطن[/author]

تعتبر اليابان من أكبر القوى الاقتصادية التى تبث إشعاعها من أقصى شرق الكرة الأرضية، كواحدة من أكثر الدول تقدما في العالم، حيث يحتل الناتج القومي الإجمالي لها المرتبة الثالثة على مستوى العالم، كما تتمتع العلامات التجارية اليابانية بشهرة عالمية كبيرة، فيما تشتهر المنتجات اليابانية بالجودة والاستمرار في الأداء والتشغيل لسلعها وماكيناتها لفترات وسنوات رغم ارتفاع أسعارها بعض الشيء عن نظيرتها الصينية، واستمدت اليابان مكانة عالمية بالاعتماد كذلك على الصناعات الثقيلة القائمة على تحويل المواد الأولية المستوردة فهي أكبر منتج للحديد والصلب في العالم، وثالث قوة في تكرير البترول، وتتصدر إنتاج السيارات فى العالم، وتسهم بـ 40% من الإنتاج العالمي للسفن.
تجاوز الصعاب
استطاعت اليابان تجاوز محنة القنبلة الذرية التي ألقتها أميركا على مدينتى هيروشيما ونجازاكى إبان الحرب العالمية الثانية، بل وباتت ثالث قوة تجارية في العالم، وسجل الميزان التجاري لها ربحاً سنوياً بتصدير المواد المصنعة ووضع قيود جمركية على المواد المصنعة الأجنبية ليساهم بحوالى 7% من التجارة العالمية.
ويعد التصنيع إحدى ركائز القوة الاقتصادية اليابانية، رغم أنها تمتلك القليل من الموارد الطبيعية، وتعتمد على استيراد النفط وموارد الطاقة والمعادن من الخارج، لذلك فإن أحد الأساليب التي تتبعها الشركات اليابانية تتمثل في استيراد المواد الخام وتحويلها لمنتجات تباع محليا أو يتم تصديرها بأضعاف سعر خاماتها.
ويعد استخدام الإنسان الآلي أحد أهم المجالات الواعدة للنمو الاقتصادي المستقبلي في هذا البلد المتقدم وتفوقت فيه التكنولوجيا اليابانية على باقي دول العالم، كما تعتبر الصناعات بكافة أشكالها واحدة من ركائز القوة الاقتصادية اليابانية، ففي هذا القطاع تأتي اليابان في المركز الثاني عالميا بعد الولايات المتحدة فهي محرك وعصب الاقتصاد والمجسد الحقيقي للنجاح والتفوق الياباني.

تحديث الصناعات
في البداية كانت الصناعة اليابانية تعتمد أساسا على قطاع النسيج وعلى الصناعات الأساسية، لكنها باتت ثاني أكبر منتج عالمي للفولاذ، وتحتل مركزا مهيمنا في مجال بناء السفن، وتمتلك ثاني أكبر أسطول تجاري في العالم، كما أعطت الأولوية لصناعة السيارات والإلكترونيات، وتقوم بتمويل واردات هذه الصناعة ومعداتها اللازمة من أجل أن تصبح أكثر قدرة على التنافس والتكيف مع الطلب العالمي.
وتقوم الصناعة في اليابان على أنواع من المؤسسات تتضمن المجموعات الصناعية العملاقة لمختلف الشركات الصناعية، والتي تتمحور في أغلب الأحيان حول البنوك معتمدة في ذلك على الشركات التجارية وعلى دعم الدولة، وأيضا المؤسسات والشركات التي تكفل التعاقد وتضمن بالتقريب الثلث من الإنتاج الصناعي، واستطاعت أن تثبت قدرتها الكبيرة على التكيف في حالة الأزمات الاقتصادية.
هذا النظام يتيح قدراً كبيراً من المرونة وسهولة التكييف الاقتصادي، فالقدرة المالية للمجمعات الكبيرة تدعم الاستثمار في البحث والتطوير وغزو الأسواق الجديدة بجانب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة.
وقامت اليابان بعد ذلك بتغيير الاستراتيجية الصناعية مانحة بذلك الامتياز لـ "الروبوتيزم" أو صناعة الرجل الآلي والتكنولوجيا عالية التقنية على أن يتم التركيز خصوصا على الجودة، وهكذا يظهر النموذج الياباني معتمدا بشكل أصيل على تشكيل فرق إنتاجية صغيرة مكونة من عمال متعددي المواهب يستطيعون القيام بعدة مهام .
أما الصناعة الميكانيكية فتتضمن صناعة السيارات كإحدى القطاعات الرئيسية، ليقود اليابان لكى تكون واحدة من أكبر مصدري السيارات فى العالم، كما نلاحظ سيادة يابانية في تصنيع الدراجات أيضاً، حيث أن ثلاثة أرباع الدراجات في العالم يابانية الصنع، كما أنها تحتل المرتبة الأولى في صناعة آلات الورش.
وتفوقت اليابان في الصناعات التقليدية حيث عرفت عملية تنظيم الإنتاج تحولات عميقة، وقامت بتحديث هذه الصناعات وتطوير طرق إنتاجها، ولم تترك قطاعا إلا ومسه التطوير والتحديث.
وفى صناعة النسيج تحولت اليابان إلى صناعة أقمشة جديدة هي ثمرة أبحاث علمية بسبب إعادة التنظيم والهيكلة للصناعة، وكذلك حافظت على مركزها الأول عالميا في هذا المجال والذي يبقى بالتناوب بينها وبين كوريا الجنوبية.
أما الصناعة الإلكترونية فهي اختصاص ياباني، وأحد رموز التفوق والنجاح، فهي أول بلد منتج للإلكترونيات في العالم، وأول بلد منتج للروبوتات في العالم، وتحتل مكانة بارزة في الإعلام الآلي.
وتحتل اليابان المركز الثاني في مجال الاتصالات والتكنولوجيا الحيوية والسعي إلى تطوير مواد جديدة، إلا أنها ما زالت تعاني ضعف مجالات الصناعات الدوائية والجو والفضاء.

مكانة بالأسواق
وأدت هذه الخطوات المهمة إلى تحسن سمعة السلع والمنتجات اليابانية على مستوى العالم لأن أي سلعة أو منتج لا تخرج من المصنع إلا وقد تم اجتيازها لاختيارات الجودة والنوعية مما جعل المستهلك يقبل عليها نظراً لجودتها وخلوها من العيوب التصنيعية، وأدى هذا التطبيق إلى كسب ثقة المستهلك عالميا وإلى قفز حصة المنتجات اليابانية بالسوق الأميركية من 4 % إلى 20 % خلال سنوات قليلة وتزايدت هذه النسبة فيما، مما أدى تكدس المنتجات والسلع الأميركية المنشأ بالمخازن وعزوف المستهلكين عنها.
وأساءت الشركات والمصانع الأميركية فهم الحقيقة الجديدة الحادثة بالسوق، وأعادت ظاهرة اتجاه الزبائن للمنتجات اليابانية إلى عامل السعر الأقل، فعمدت إلى ضرب الأسعار وتخفيضها.
والحقيقة أن سوء الفهم كبد الشركات والمصانع الأميركية الكثير مما أدى إلى خروج كثير منها من السوق، وبالتالي إلى زيادة حصة المنتجات اليابانية وهيمنتها بالسوق الأميركية والعالمية، لكن بعد سنوات من الحيرة تمكن الأميركان من الوصول إلى السر وبدأوا تطبيق نظرية الجودة.
التنافس الصناعي
عمدت الشركات اليابانية لاستراتيجية تتمثل في شراء رخص التصنيع لمنتج أميركي ما، ثم تعمل على تقليد التصميم وتنتجه بعد أن تضيف إليه تحسينات تجعله أكثر جودة وبتكاليف أقل وأسعار أقل، واستمر اليابانيون يسلكون هذا الطريق لعدة عقود من الزمن دون أن يتنبه الأميركيون لخطورة هذا الوضع ولم يدركوا ذلك إلا مؤخراً عندما اشتدت المنافسة اليابانية للمنتجات الأميركية والأوروبية، فأخذت حكومات تلك الدول والشركات الخاصة فيها تضع القيود والأنظمة التي تحد من نقل التقنية لليابان أو تمنعها إن كان ذلك في مقدورها، ولكن ذلك التنبه جاء بعد فوات الأوان لأن اليابان كانت قد بلغت مرحلة النضج وتجاوزت مرحلة التقليد والتبني إلى مرحلة الأبحاث الذاتية والإبداعات التي جعلتها مصدراً غنياً للتقنية وفي مركز قوي يفرض حتمية تبادل التقنيات المختلفة مع تلك الدول.

الأزمة الاقتصادية
وعانت اليابان كسائر الدول المتقدمة من تبعات الأزمات المالية حيث انخفض إنفاق المستهلكين لديها وارتفع سعر الين الياباني، الأمر الذي أدى إلى تراجع صادرتها وانهارت أسواقها وتراجع طلب السيارات، وازدادت نسبة الباحثين عن العمل، الأمر الذي أدى بالحكومة اليابانية إلى الإعلان عن انتهاء أطول فترة ازدهار اقتصادي لليابان، وأعلنت الحكومة رسميا، منذ 7 سنوات، دخول الركود للمرة الأولى، لكن طوكيو تحاول الانطلاق مجدداً وعدم الاستسلام للأزمات المالية من خلال ترويض سلبياتها.

حقيقية الركود
يرى الكثير من الخبراء أن شرارة الركود الأخير أطلقتها السياسة المالية للحكومة عندما رفعت ضريبة المبيعات من 5 إلى 8% ما تسبب بانخفاض طلب المستهلكين واستثمارات قطاع الأعمال، وحصل هذا الانخفاض في القوة الشرائية في وقت تسببت سياسة الحوافز النقدية التي ينتهجها البنك المركزي الياباني لتنشيط الاقتصاد وزيادة الصادرات في انخفاض قيمة الين تجاه اليورو والدولار إلى مستويات لم تشهدها السنوات الأخيرة كما أن كارثة الزلازل وارتفاع عمر اليابانيين والديون مازالت تلقي بظلالها القاتمة على الاقتصاد الياباني.
ومن المرجح أن تتجاوز أعمار 40% من مجموع سكان اليابان 65 سنة أو أكثر في عام 2050 ، وليس هذا فحسب، بل إن مجموع سكان اليابان يتناقص تدريجياً منذ 2004 ، فاليابان هي المجتمع الوحيد في العالم الذي يعاني تناقص عدد السكان، بينما تصل أعمار الكثير من سكانها إلى مستويات عالية جدا، ومن المتوقع استناداً إلى الإحصاءات المتاحة أنه بعد 40 سنة سيكون مجموع سكان اليابان قد تناقص بأكثر من الربع.
وبالنسبة للديون فتقدر بحوالي 6.53 تريليون دولار وهو ما يعادل 134% من الناتج المحلي، وهذه المديونية الضخمة تكلف خدمتها حوالي 15.4% من الدخل الضريبي للدولة.
ومع أن قراءة تضخم أسعار المستهلك الياباني المتدنية تشير إلى حاجة الأسواق إلى المزيد من الأموال التي تضخ في صورة شراء أصول أو خفض للفائدة بين البنوك وغيرها من إجراءات تحفيز الأسواق؛ لا يتوقع أن يضيف بنك اليابان المزيد من تريليونات الين إلى الخطط الحالية لتحفيز الاقتصاد في القريب العاجل.
الخلاصة

نظرياً تعتبر اليابان خرجت من حالة الركود الاقتصادي في الربع الأخير من عام 2014 عندما سجلت قراءات نمو إيجابية فوق مستوى الصفر، لكنها عادت إليه مجدداً، كما أن الخروج من الركود لا يعني الانتقال الحقيقي إلى نمو اقتصادي مستدام، إذ لايزال هناك تباطؤ ملحوظ في قراءات انفاق قطاعي الأسر وانفاق الشركات، ولذلك ضخت الحكومة اليابانية أكثر من 117.6 مليار دولار في الاقتصاد، وتواصل خفض سعر صرف الين الياباني على أمل رفع حجم الصادرات في السوق العالمي.
كما أن عامى 2015 و2016 شهدا زيادة خنق الأزمة الاقتصادية العالمية للنمو الياباني، وهو ما يجرها للخلف فى طريق "العودة إلى الركود"، وهو ما يتطلب أن تعمل اليابان على زيادة قدرتها فى فتح أسواق جديدة فى العالم ومجابهة توسع الأسواق الأوروبية فى دول آسيا وأفريقيا ومنحها امتيازات لاغراق أسواقها المحلية بمنتجاتها، كما يهدد هذا التمدد نفاذ المنتجات اليابانية لأوروبا، وهى السوق الأكثر فهماً وتداولاً لمنتجات اليابان، بسبب قدرة دول "اليورو" وبقية أسواق أوروبا على مجابهة الهيمنة اليابانية، في هذه الحقبة، خاصة داخل الأسواق الأوروبية.