[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/suodalharthy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]سعود بن علي الحارثي[/author]
” إن الشعور بسياسات التقشف (يختلف عبر هرم توزيع المداخيل، فالذين في أسفل الهرم يخسرون أكثر ممن هم في قمته لسبب بسيط مفاده أن الذين في القمة يعتمدون أقل على الخدمات التي تنتجها الحكومات، ويمكنهم أن يتحملوا خسائر أكبر لأنهم، في البداية يملكون ثروة أكبر ...) . فأصحاب الدخول المتدنية والطبقة الوسطى هم الذين يعتمدون على الحكومة في الحصول على العلاج والتعليم والاسكان ودعم الخدمات و(الاعفاءات الضريبية)،”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لطالما نظرت إلى سياسات التقشف التي نادت بها ومازالت وزارات المالية بدول الخليج في جملة من التعاميم والقرارات والبيانات الصحفية وما يعقبها من مؤشرات وأرقام وتقارير تؤكد على نجاح هذه السياسات في خفض الانفاق وتعزيز الموارد – لطالما نظرت – إليها بشيء من القلق والتوجس واليقين بأنها سياسة فرضها الواقع وبالتالي ينبغي أن تخضع للتمحيص والتقييم والتحليل من قبل خبراء ومفكرين اقتصاديين لتبين آثارها وانعكاساتها على مجمل الحياة ومدى توافقها من جانب آخر مع سياسات التنويع وتعزيز الموارد، فقطاعاتنا الاقتصادية لاتزال تعتمد اعتمادا شبه كلي على المشاريع والمناقصات والانفاق الحكومي، والقطاعات الأخرى غير النفطية الصناعية والسياحية والمعرفية والسمكية ... تتطلب الكثير من الاستثمارات والمشاريع والانفاق المالي السخي، لكي تحقق الأهداف وتصل إلى مرحلة النجاح كما ستحتاج إلى حزمة من السياسات التحفيزية ودراسة واصدار التشريعات والقوانين التي من شأنها بث الطمأنينة وتشجيع الشركات ورجال الأعمال على الاستثمار في منطقتنا بكل ثقة، وترشيد الانفاق سوف ينعكس سلبا على حياة الرفاه والمكتسبات الاجتماعية التي تحصل عليها المواطن عبر أكثر من أربعة عقود من الزمن، ولو أخذنا بضع أمثلة مبسطة خارج اطار مشاريع البنية التحتية المعروفة، فإن الصحافة المحلية (الورقية) والتي تعاني كثيرا من سياسات التقشف، تعتمد في جزء من أرباحها على اشتراكات المؤسسات الحكومية وتقليص هذه الاشتراكات أو وقفها نهائيا - وفقا لسياسات الترشيد المطبقة حاليا - سيؤدي إلى خسارة المؤسسات الصحفية وقد يصل الأمر إلى الاستغناء عن عدد من موظفيها وفيهم مواطنون، وهكذا هو الحال بالنسبة لشراء السيارات وأجهزة الحاسب الآلي والتصوير والأنظمة التقنية ومشاريع البنية التحتية واستئجار العقارات حال الاستغناء عن الكفاءات من الأجانب ... سوف تفضي جميعها إلى انكماش السوق وتراجع نسب النمو وضعف الاقتصاد، وقد أظهرت الأرقام والمؤشرات تراجع نمو معظم الأنشطة الاقتصادية في دول الخليج في عام 2016م مقارنة بالعام الذي سبقه 2015م وهو ما يعد انعكاسا طبيعيا للسياسات التقشفية. وللتعرف بشكل أعمق على نتائج وانعكاسات سياسات ترشيد الانفاق، فقد أمضيت ساعات أقلب في عشرات الكتب المصفوفة في أدراج مكتبتي إلى أن عثرت على ضالتي بحصولي على كتاب (التقشف تاريخ فكرة خطرة) لمؤلفه مارك بليث ترجمة عبد الرحمن أياس، ضمن سلسلة (عالم المعرفة) التي يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بدولة الكويت. الكتاب إلى جانب غزارة معلوماته وأسلوبه الشيق، فقد بذل مؤلفه جهدا شاقا في تقديم رؤيته الاقتصادية حول مختلف الازمات المالية والاقتصادية التي مرت بها الولايات المتحدة الأميركية ودول أوروبا تحليلا وأسبابا ومعالجة وعلى رأسها سياسات ترشيد الانفاق، مسجلا مآخذه عليها وربطها بالعديد من المدارس والمناهج الاقتصادية ومقارنتها بأزمات سابقة، وما أحوج خبراءنا الاقتصاديين ووزراء المالية والمسئولين المعنيين في بلداننا لقراءة مثل هذه الكتب المتخصصة. يطرح الكاتب في كتابه القيم عددا من الأسئلة الافتراضية والاجابات الاجتهادية المتكئة على عشرات الأمثلة والنماذج المعبرة عن الواقع والتي استقاها من تجارب دول وأنظمة سياسية مختلفة، ويعرض لتاريخ ومسيرة الكثير من المذاهب والمدارس الاقتصادية وتأثيراتها على السوق ومدى تفاعلها مع مواقف السياسيين ومحتوى خططهم وبرامجهم للتعامل مع الأزمات المالية وتأثيراتها، ومن بينها بالطبع سياسات (التقشف) وآراء الخبراء والمفكرين الاقتصاديين التي ما تلبث أن تتغير وتتعرض لتحديثات على ضوء نجاح أو فشل تلك السياسات وأسباب وانعكاسات الأزمات الاقتصادية، وقدم المؤلف رؤيته التحليلية حول الأزمات المالية والاقتصادية على مدى ما يقارب قرنا من الزمان في كل من الولايات المتحدة الأميركية ودول اوروبا، والتاريخين الطبيعي والفكري للتقشف خلال المئة السنة الماضية من (1914 وحنى 2012م). مع الاعتراف بأنه - أي التقشف - حقق نجاحات استثنائية لنماذج بعينها ما أدى إلى (توسع اقتصادها) بسبب توفر جملة من العوامل تتعلق ب(النقد وأسعار الصرف)، فيما أن الواقع يقول بأنه وخلال هذا العقد من الزمن خفض (أكثر من 12 بلدا عضوا في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الانفاق ولم يشهد أي منها نموا نتيجة لذلك). توضيحا لفكرة الكتاب يقول جاسم خالد السعدون عضو هيئة التحرير بسلسلة (عالم المعرفة) بأنه يروي من غلاف بدايته وحتى غلاف نهايته كيف أن التقشف فكرة خاطئة، فهي من وجهة نظر الكاتب ليست فكرة (علاج اقتصادي لوضع يحتاج إلى علاج بل هو أحد المشتقات الفكرية لأيديولوجية المدرسة الكلاسيكية حول ضرورة ابقاء الحكومات صغيرة وبأدنى سلطة ممكنة ... )، فالسياسات الحكومية يجب أن تتبنى أفكارا تحفيزية لقيام اقتصاد قوي متعدد الموارد بدلا من سياسات تقشفية تفضي إلى نتائج عكسية أو تؤدي إلى تأزم الوضع الاقتصادي، و(التقشف) إلى جانب ذلك فقد كان مجرد فكرة وردت ضمن جدل فكري للحد من سلطة وهيمنة الحكومات على السوق. هذا وقد عرف مترجم الكتاب عبد الرحمن أياس، التقشف بأنه (مجموعة من السياسات التي تسعى إلى تخفيض العجز في الموازنات الحكومية من خلال تقليص الانفاق العام أو جمع عائدات ضريبية أكثر أو مزيج من الأمرين)، وهي ذاتها السياسات التي تتخذها وزارات المالية في البلدان الخليجية اليوم للتعامل مع أزمة انخفاض أسعار النفط في الأسواق العالمية، والعمل بالتالي على (خفض العجز المالي للخزانة). ما يعني أن الحكومات تلجأ إلى الخيار الأسهل في تقليص عجز موازناتها وقت الأزمات بدلا من التفكير في خيارات أكثر جدوى وقدرة على تحفيز الاقتصاد وتحقيق النمو والحفاظ على حياة الرفاه، وقد كادت سياسات التقشف أن (تعصف بالولايات المتحدة الأمريكية لدى دفع بليث مؤلفه هذا إلى المطبعة في أواخر العام 2012م،). يعلق الكاتب على سياسات التقشف بأنها وفي أغلب الأحيان( الاجراء الخاطئ تحديدا لأنها توجد النتائج نفسها التي تحاول تجنبها)، مستعرضا للتأكيد على هذا الرأي عددا من الأمثلة، فقد خفضت كل من (البرتغال وإيرلندا وايطاليا واليونان واسبانيا موازناتها) وفيما تقلصت اقتصاداتها، فقد كبرت (أعباء ديونها بدلا من أن تصغر)، وقدم المؤلف أرقاما تؤكد على هذه الحقيقة، فنسبة الدين الصافي إلى الناتج المحلي الاجمالي في البرتغال على سبيل المثال ارتفعت من (62% في 2006 إلى 108 في 2012). يستمد الكتاب قيمته من حيث أنه يقدم قراءة معمقة وتحليلا دقيقا ويتضمن نماذج وتجارب عالمية لجأت إلى سياسة التقشف كعلاج لأزماتها الاقتصادية والمالية الناشئة، ويعرض لتأثيراته وانعكاساته من منطلق أنه (فكرة خطرة)، وهو ما تعتمد عليه اليوم دول الخليج لمواجهة تراجع أسعار النفط. ففي اليابان، وفي ثلاثينيات القرن المنصرم وبسبب سياسات (التقشف) لمواجهة (كساد شوا) وهو أكبر انهيار أصاب الاقتصاد الياباني، اكتشفت (مؤامرة من الجيش للإطاحة بالحكومة) نظرا لتخفيض انفاقه، ما أقنع الجيش الياباني بأنه (في حالة حرب مع النخبة السياسية المدنية بأكملها)، وقد أدت سياسات التقشف إلى خلق (أسوأ ركود في التاريخ الياباني وأثار حملة اغتيالات ضد المصرفيين ...). وخلص بليث باستنتاجات أو خلاصات لمجمل ما تضمنه هذا الكتاب الشيق والهادف الذي احتوى على خزانة من المعلومات الاقتصادية والفكرية القيمة، من أهمها :
•إن الشعور بسياسات التقشف (يختلف عبر هرم توزيع المداخيل، فالذين في أسفل الهرم يخسرون أكثر ممن هم في قمته لسبب بسيط مفاده أن الذين في القمة يعتمدون أقل على الخدمات التي تنتجها الحكومات، ويمكنهم أن يتحملوا خسائر أكبر لأنهم، في البداية يملكون ثروة أكبر ...) . فأصحاب الدخول المتدنية والطبقة الوسطى هم الذين يعتمدون على الحكومة في الحصول على العلاج والتعليم والاسكان ودعم الخدمات و(الاعفاءات الضريبية)، فهم إذن الأكثر تضررا من سياسات التقشف، وهو ما نراه ماثلا في مشاعر القلق والتذمر التي تعبر عنها المجتمعات الخليجية في وسائل التواصل بشكل واسع ومتنامي. ويصل الكاتب في تعليقاته الموسعة إلى حقيقة أخرى وهي (أننا لا نستطيع تخفيض النفقات وتحقيق النمو في الوقت نفسه)، فالتقشف في حقيقة الأمر يؤدي إلى(تعطيل الموارد والركود)، وهو ما يعمل الجميع على تجنبه خاصة في الأزمات الاقتصادية.
• في تفصيل أكثر دقة يجيب الكاتب على سؤال، لماذا التقشف فكرة خطرة؟ لأنها ببساطة، (غير ناجحة عمليا) وفقا للنماذج والتجارب التي قدمها باستفاضة مسندة بالأرقام والمؤشرات والنتائج إذ أنها (تعمل على تسديد الفقراء ثمن أخطاء الأغنياء) فالأزمات الاقتصادية والمالية دائما ما يقف خلفها قصور في التشريعات والأنظمة القانونية، فشل المخططين والمسئولين، شهية المقامرين والمضاربين والتجار المنفتحة إلى المزيد من الأموال وأشكال وصور الفساد لتحقيق الثراء، فلماذا تحمل الشرائح الفقيرة والمتوسطة ثمن أخطاء هؤلاء الأغنياء وتصحيح أخطاء ارتكبها النظام الاقتصادي أو السياسي، ولماذا لا يدفع ثمن الفوضى (الأشخاص أنفسهم الذين سببوها ؟)، وأخيرا لأنها (لا تؤدي إلى تحفيز النمو) وفقا للعديد من الأمثلة.
•القائمة التي وضعها الاقتصادي التنموي (جون وليامسون) في العام 1989م فيما عرف بقائمة ال10 (سياسات يجب فعلها) شكلت (السمات الأساسية) لما يسمى بسياسات (التقشف)، وقد تبنتها مؤسسات (التنمية الدولية التي تتخذ من واشنطن مقرا، وتحديدا صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ...)، اللتان تفرضان شروطا تقشفية صارمة في مقابل القروض التي تقدمها للدول، وتأكيدا على ذلك فقد أدت سياسات التقشف إلى (دفع إسبانيا واليونان إلى حافة الانهيار الاقتصادي والسياسي وافقار الملايين من الناس في بقية أنحاء أوروبا الجنوبية)، ويرى الكاتب بأن استمرار تطبيق هذه السياسة التقشفية سيؤدي في نهاية المطاف إلى (تفكك منطقة اليورو).
إن الاستفادة من القراءات التي يقدمها الكاتب في كتابه المعتمد على نماذج وأمثلة واسعة يشكل أهمية لصناع القرار حول السياسات الاقتصادية في بلادنا وآلية التعامل مع أزمة انخفاض أسعار النفط والاجراءات التقشفية المعتمدة للتخفيف من أعبائها.

[email protected]